قبل التاريخ
هناك سبق الجغرافيا
تنبه البحث الجغرافي منذ وقت مبكر إلى أهمية الحفر في قضايا الماء، وجرى التفكير حينها بخلفية جغرافية ومنهجية في آن واحد. تعمل أولا على تحطيم الحدود المصطنعة بين الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا البشرية، وتنتقل ثانيا إلى الإسهام في فهم «إشكالية الجفاف البنيوي» الذي ظل يتردد باستمرار في تاريخ المغرب. يتعلق الأمر من وجهة نظر تاريخية بظاهرة بنيوية تعتبر إحدى المقومات الأساسية المحددة لشخصية البيئة المغربية عبر التاريخ على نحو ما يظهر في أطروحة الماء والإنسان في حوض سوس للباحث الجغرافي المحداد الحسن.
من زاوية التاريخ، وبعد تراكم الإسهامات في تاريخ الماء في المغرب وجب الإقرار بالخلاصة التالية: لا يجب أن ننظر إلى ظاهرة الجفاف في تاريخ المغرب كظاهرة زمنية كما يشاع وفقط، بقدر ما يجب أن نهتم بها كظاهرة مجالية حكمت على قطاعات ترابية جافة أن تتجاور مع قطاعات ترابية رطبة في علاقة جوار صعب…إنه القدر الجغرافي الذي قيَّد ابداعات الإنسان المغربي، وحكم عليه بإيجاد حل لمعادلة «تدبير الندرة». جوار مجالي مُنتج وفعال، دفع نحو رسم ديناميات سياسية واجتماعية واقتصادية متجاذبة القوة والنفوذ ظلت تتنازع في ما بينها بسبب غياب «العدالة المائية» بين مكونات المجال المغربي.
يعتقد الجغرافيون أن الماء لم يصبح موضوعا مكتمل الأركان، قابل للمعالجة البحثية إلا بعد أن تراجعت الإمكانات المائية الطبيعية، التي استدعت تدخل الإنسان لمواجهة تقلبات الطبيعة المغربية عن طريق ابتكار نظام التقتير «تدبير الندرة». في ما رأى مستعمر الأمس، أن الماء رهان ضبط وعامل تحكم. والحال يبدو أن اهتمام الجغرافيا الجديدة بمبحث الماء كان بمثابة قنطرة عبور نحو إعادة تركيب معطيات الطبيعة المغربية في علاقتها بتدخلات الفاعل البشري، إن على مستوى المجال أو على مستوى الزمان، وفق نسق معقد من التركيبات المتغيرة التي تتخذ ملامح مختلفة ومتضاربة. يتقوى هذا التحليل في المجتمعات ذات الطبيعة القروية التي يصير الماء فيها ميكانيزما مسؤولا عن هيكلة المجال وتشكيل وحدات المجتمع، ونافذة لقراءة وإدراك المشاهد الجغرافية ورسم واقع البنيات الاجتماعية والاقتصادية، وعنصرا ضابطا للاستقرار أو التشتت…فالساقية أو الخطارة أو الأرحية مثلا لا تمثل وحدات تقنية وجغرافية أبدعها الإنسان لتدبير الماء، بقدر ما يجب أن ينظر إليها كوحدات نسجت حولها علاقات البنية الاجتماعية والاقتصادية إلى درجة يمكن التسليم معها بمقولة إن «الماء يحكي المجتمع».
الماء: التحول المعاق
ظلت البنية الناظمة لتدبير الموارد المائية تعيد نفسها بشكل دوري تناغما مع متغيرات الأحداث والوقائع الزمنية، تستند في اشتغالها إلى ثلاثة فاعلين: المخزن كبنية سياسية، القبيلة كبنية اجتماعية، والزاوية كبنية دينية…وفقا لتجاذبات لحظات القوة والنفوذ، المد والجزر، بلاد الأمان وبلاد الحِرابة…مقابل بنية حديثة حتى لا نقول حداثية أدخلتها رجة الاستعمار عبر أشكال العنف والتدجين وإعادة الإنتاج…هكذا يظهر تاريخ المغرب استنادا إلى هذه الرؤية المنهجية كمسار زمني مفتوح على سلسلة من المتواليات، تنتج بدورها سلسلة من المنحنيات تتضمن عناصر الاستمرار وعناصر الانقطاع…قد يتسرع البعض ويحكم على ذلك بالقول: توازن هش لا يضمن عناصر البقاء في ذاته. لكن هذا التوازن الهش الذي استرعى اهتمامات الأجانب ظل فاعلا في مسار التاريخ، جنَّب البلاد مصائر بلدان مجاورة. أوَ ليس كل بحث تاريخي قد يجازف وهو يتخذ من الاستمرارية والانقطاع تفسيرا كافيا له؟ نرجئ الإجابة عن هذا السؤال إلى حين اكتمال عناصر النسق التحليلي.
الأكيد أن عناصر عديدة من مظاهر البنية التقليدية الما قبل كولونيالية تعرضت لموجات التكسير والتدخل وإعادة التشكيل في إبدالات سياسية واجتماعية جديدة لا تزال تعوق مسار تطور مغرب اليوم، وترهن حاضره بشكل من الأشكال، تستدعي وجوبا مد الجسور بين الماضي والحاضر لإعادة ترتيب المعطيات والخروج بخلاصات تركيبية مفتوحة على انشغالات بحثية جديدة، خارج مدارات الاستوغرافيا المغربية التقليدية التي لا تبرز بالقدر الكافي التحليل المنطلق من القاعدة إلى القمة، بموجب أنها عاكسة لوجهة نظر السلطة المركزية.
عودة إلى مسألة الحاضر وربط الجسور بينه وبين والماضي كإشكالية منهجية استعرضتها أدبيات الاستوغرافيا الفرنسية منذ عشرينيات القرن الماضي مع عراب الذاكرة السوسيولوجي موريس هالفاكس وصولا إلى نهاية السبعينيات مع المؤرخ بيير نورا وآخرين. ليس المقصود أن نتخلى عن الماضي، بل أن نفهم بِمَ يختلف عن الحاضر كما يقول صاحب «معارك من أجل التاريخ». خاصة إذا كان هذا الحاضر في حالتنا هو من يقود معارك الماضي. بتعبير حنة أرندت Hannah Arendt نحن في «مرحلة حاضر مستمر» يجعل الماضي في مواجهة مباشرة مع الحاضر.
نمنح الكلمة في هذا السياق إلى العروي حتى نستطيع أن نضع متن هذا البحث ضمن انشغالات اجتماعيات المعرفة «..لكي يكون التاريخ ميدان جد مسؤولية، لا بد من اعتبار الحقيقة المطلقة كحركة وكصيرورة. عندما يصف المؤرخ حدثا ما ويريد أن يعطيه وزنا وقوة تأثير، يلزمه حتما ألا يكون مقتنعا بقيمته مسبقا أو بتفاهته مسبقا. يجب أن يفترض أن مغزاه سيظهر تدريجيا، يوما بعد يوم، وعملا بعد عمل، وحكما بعد حكم، بدون أن يأمل في أن يرسم صورته الكاملة التامة القارة…».
ظل المجتمع المغربي على غرار باقي المجتمعات العربية الإسلامية يسير وفق نسق بطيء التحول، ثابت إلى شبه ثابت. مهما بلغت نباهة وجِدة الأبحاث التاريخية فإنها تصطدم بهذه الخلاصة. لا يعتبر هذا الأمر في جوهره تعميدا لحُكم مسبق مجانب لوقائع التاريخ، كما قد لا يجب أن يقرأ على أنه استعادة كاريكاتورية لمقولات كولونيالية ناجزة ومنتهية الصلاحية، إذا ما قرئ من مدخل الحماسة الوطنية التي صاحبتها محاولة تشييع الاستعمار مع الرعيل الأول من المؤرخين المغاربة. يتعلق الأمر بعملية استنطاق مجهرية لشذرات متفرقة من المصادر الإخبارية بمختلف أجناسها، ووضعها على محك النقد التاريخي بخلفية منهجية وموقف ابستمولوجي مفتوح ومتجدد.
يجوز هنا بمقتضى المراجعات الحادثة في مجال التحقيب التاريخي أن نستحضر تخريجة «العصور الوسطى الممتدة ولو على نحو نسبي». إن أردنا توسيع نظرة المؤرخ، وإثراء عُدته المنهجية بأدوات قادرة على تثمين موقعه، وتجديد أساليب عمله. وعليه فعناية البحث بمسألة التحقيب تندرج ضمن محاولة تأطيره ببنية مفاهيمية تبرز رغبة أكيدة في تجاوز أحد العوائق المنهجية والابستمولوجية التي يعاني منها التاريخ/ التحليل لا التاريخ/السرد.
معادلة السلطة والمعرفة
في المجتمعات التي عاشت وضعيات استعمارية مشابهة للمغرب لا يتم فيها الحديث إلا عن صنفين من الصراع وفق معادلة السلطة والمعرفة: صراع القوة وصراع المعنى، الصراع الأول مادي- سياسي خاضع لمنطق الغلبة، والصراع الثاني رمزي- معرفي خاضع لامتلاك أدوات ومؤسسات البحث العلمي…مهما تركزت الجهود الاستوغرافية على استنطاق المصادر والمضان الأصيلة، فإنها بالمقابل قد لا تقدم سوى إرهاصات لإعادة بناء الواقع التاريخي كما يقول بذلك أندري بورغيير.
هذا التداخل بين السلطة والمعرفة يثير لدى بعض الباحثين قضية المسافة بين الخطاب والتأويل، بين الذات والموضوع، بين الائتلاف والاختلاف، بين الانتماء والمغايرة بمقاسات الأنثروبولوجيا الثقافية كما تظهر في إنتاجات المدرسة الأمريكية…في الأصل تداخل منهجي قبل أن يكون معرفيا وفق ما نجده عند فرانسوا فوري في مقالته المميزة حول «مقال التاريخ والاثنولوجيا». بين التاريخ كعلم يسعى لضبط حركية الزمن والاثنولوجيا كمبحث يشتغل على المجال…بين التاريخ والاثنولوجيا يرتسم المجال الفاصل بين المكتوب واللامكتوب، الثابت والمتحرك، البدائي والمتقدم. ذلك العِلم الذي وصفه جاك لوغوف بالمُلاحق الدائم للاستقرار والثبات.
الماء: حوار علمي مفتوح
ضمن هذا الحوار الثنائي يحاول التاريخ أن يقترب من التاريخ الشامل، فتواجهه الاثنولوجيا بمقولة تعدد المجتمعات والثقافات والبنيات، مُحدثة نوعا من التشويش على فكرة التجانس والتقدم. لم يتأسس منهجيا الخط الفاصل بين التاريخ والاثنولوجيا على معايير ابستمولوجية واضحة، بقدر ما انبنت العلاقة بينهما على شروط خارجة عن تطورهما الابستمولوجي. ذلك أن المجتمعات البشرية لا تظهر تطورا متجانسا، بل تبرز حتى داخل المجتمع الواحد نتوءات التحول و»مستويات البرودة « التي أسهب كلود ليفي ستراوس في وصفها ضمن مجتمعات القرابة. فبقدر ما يُراهن الاثنولوجي على تخفيض مقياس الملاحظة بين ثقافته الخاصة وثقافة حقل ملاحظته، يتدخل المؤرخ بقدرته على استجماع شذرات المصادر «لإعادة بعث الماضي» إذا ما استحضرنا في هذا الصدد إنتاجات جول ميشليه.
كل عملية لإعادة بناء مقاطع الأزمنة التاريخية المتداخلة تظل بالنهاية عملية اجتهاد فكري وذهني، مع ما تقتضيه هذه العملية الشائكة من احتراس منهجي دائم، وتوضيب متجدد لفهرسة المنتوج التاريخي…يَظهر التاريخ على امتداد تطور الكتابة التاريخية في تجارب المدارس الأوربية كما لو أنه في طريق انتزاع صفة العِلمية، فتعود الأصنام الثلاثة (السرد والحدث والفاعل) مُذكرة بمهنة المؤرخ وبطقوس الكتابة التاريخية. أو ليست هذه الطقوس هي جوهر أزمة التاريخ بالنهاية؟
ما قيمة هذا الاستحضار المنهجي في تناول موضوعة من قبيل الماء في تاريخ المغرب؟ حسب أندري بورغيير هناك مقولة تقول « مثلما يوجد تاريخ للظرفية توجد ظرفية للمعرفة التاريخية». ظرفية منهجية أكثر منها معرفية. في كل عمل تاريخي ناجز تقاس ثلاثة مستويات: البحث وتأويل الوقائع والكتابة. وجمع هذه المستويات هوما يجعل الكتابة التاريخية بالغة التعقيد، سواء تعاملنا معها من زاوية المعرفة، أو نظرنا إليها من زاوية التأويل، أو من زاوية الكتابة.
الحديث عن تيمة الماء في تاريخ المغرب بنوع من التحوير لا يزال يمثل في أصله كما يقول جاك لوغوف في معرض حديثه عن موضة تاريخ العقليات خلال سبعينيات القرن الماضي ب «جبهة ريادية». تاريخ لا زال يبحث عن ذاته كفضاء بِكر يقتحم تدريجيا أروقة اشتغال مختصي الزمن داخل الجامعات المغربية. ورش منهجي في لحظة بداياته يجذب إليه انتباه باحثين من حقول مختلفة، من مهتمي التاريخ الاجتماعي والديموغرافي والأنثروبولوجيا التاريخية وتاريخ العقليات إلى نظرائهم من الجغرافيين والسوسيولوجيين والإثنولوجيين…في الوقت الذي يرتسم فيه مبحث تاريخ الماء في التجربة الأوربية كمحطة استوغرافية قطعت أشواطا طويلة في درب تقعيد أدوات ورؤى ومناهج ضمن نسق من التراكمات المعرفية راكمها ورش التاريخ الطبيعي في علاقته بمستويات الوجود البشري.
تاريخ الماء ورش منهجي تلتقي فيه حدود الجماعة مع سلوكيات الأفراد، مرصد الزمن الطويل مع تفاصيل الحياة اليومية، اللاوعي مع الإرادي، البنيوي مع الظرفي، المهمش مع العام. حقل للربط بين تاريخ الثقافة المادية والتاريخ الاقتصادي…ورؤية فكرية جديدة لنقد التأويلات الخطية للتاريخ. في الأساس تاريخ الماء هو قضية إحساس وفضول. وعبر هذا الاحساس تتحايل الكتابة التاريخية على صمت النصوص وعناد الواقع واشتباك الأزمنة من أجل كسب معركة إقناع القارئ. وبقدر ما يطمح مبحث الماء إلى ترسيخ مكانته ضمن سِجلات المقاربة النقدية للتاريخ، باعتباره ميكانيزم أساس في فهم معادلة العنف والسلم في تاريخ المغرب، بقدر ما لا يجب تحويله إلى «حقيبة سفر»، إلى ادعاء فارغ، إلى عذر للاسترخاء الابستمولوجي…فتاريخ الماء يسعى لأن يكون تاريخا مغايرا يجازف بتفسيراته بحثا عن الجانب الآخر من مرآة الماضي.
على ضوء هذا التراكم الأولي لموضوعة الماء تتقاطع خلاصات العلوم الطبيعية والبيولوجية بنتائج العلوم الإنسانية والاجتماعية ضمن حوار منتج ومفتوح. تراكم أولي، معرفي ومنهجي بدرجة أولى، من شأنه أن يُفضي إلى أبحاث تُمكن من فهم ما جرى بشكل موضوعي، وعلى نحو متجدد، وأن تُسهم في إحداث الانتقال المعرفي من قراءات ذات مستويات كمية نحو قراءات ذات منحنيات كيفية، من التوصيف الجامد نحو التوصيف الكثيف باستعارة كليفورد كيرتز الذي بمقدوره توسيع مساحة التاريخ لإنارة زوايا التعتيم في الماضي البشري.
امتدادات وتقاطعات
في صراع المعرفة والسلطة تعمد الكتابة التاريخية اليوم إلى محاولة إعادة « ترتيب الماضي» بتوصيف من لوسيان فيفر وتأكيد من جاك لوغوف وفق سِجلات مفاهيمية جديدة. وعبر هذه الاستعادة يصبو التاريخ إلى أن يقدم نفسه في قالب إشكالي، مستعينا بقماشة الزمن عبر سلسلة عمليات فكرية تشتغل بالتحليل والنقد كما يؤسس لذلك فيلسوف الذاكرة بول ريكور. هذا البناء الإشكالي لا يتأتى إلا بواسطة جُهد متعدد اللحظات والمحطات: من لحظة إقامة البرهان الوثائقي مرورا بلحظة التفسير والفهم وصولا إلى لحظة الكتابة.
البحث في مسارات التاريخ هو بالأحرى سعي حثيث نحو توضيب لحظات الماضي وفق شبكة موضوعاتية تنتهي بإشكالات محددة. من واجب الكتابة التاريخية أن تفك تعقيدات الماضي المتعدد، أكان ماضيا قريبا أو حتى بعيدا، لتبديد سوء الفهم الحاصل وتقريبه إلى شريحة كبيرة من القراء، أكان قارئا عاديا أو قارئا متخصصا. هذا الفهم المتجدد الذي تناضل من أجله الكتابة التاريخية يقوم على ثنائية الهدم وإعادة البناء، على النقد والاحتمال، على النسبية والتجديد…لإعادة بناء نسق التطورات والاستمراريات الزمنية وسببية الأشياء بعيدا عن كل أشكال الحكم.
لربما من سوء حظ الاستوغرافيا المغربية أن قُدر عليها أن تجابه ثقلين أساسيين: ثقل الإرث المخزني السلطاني وما رسخه من تقاليد في صناعة الإنشاء من جهة، وثقل عقدة الحماية وما أفرزته من رجة في بنى المعرفة العلمية بصرف النظر عن كليشيهاتها المعروفة…مهمة المؤرخ بالنهاية أن يقوم بحوار مركب.