المثقف والثورة والسياسة… زواج بدون ضمانات

 
“أتمنى لكِ اليأس يا حبيبتي؛ لكي تصيرين مبدعة، اليائسون هم المبدعون، لا تنتظريني ولا تنتظري أحدا، انتظري الفكرة، لا تنتظري المفكّر، انتظري القصيدة، ولا تنتظري الشاعر، انتظري الثورة ولا تنتظري الثائر، المفكّر يخطئ، والشاعر يكذب، والثائر يتعب.”
محمود درويش

“ إذا لم يكن الشعب على وعي وثقافة قبل الثورة، فلا يلوموا أحداً عندما تسرق ثورتهم”.
علي شريعتي
في هذه الورقة سنحاول أن نشكك في بعض المسلمات، ونعيد النظر في بعضها، نظرا لما تقتضيه الظرفية، وتماشيا مع طبيعة المستجدات التي طرأت على الساحة العربية، فباتت تجري أمام أعيننا أحداث حسبناها لن تتكرر، وأن التاريخ قد احتجزها في ذاكرته، ولن يجود علينا بمثل هذه اللحظات النادرة. إنها الثورة وما أدراك ما الثورة، ذلك الفعل في التاريخ الذي أصبح واقعا راهنا ماديا محسوسا أصبح يجري أمام أعيننا ساعة حصوله، بعد أن تجانست أزماتنا وتزامنت تجاربنا، وفقه الثورة يصفها أنها كل متغير عنيف ومفاجئ يطرأ على الظواهر، سواء كانت طبيعية أو اجتماعية أو سياسية. إن الثورة تغيير جوهري يطرأ على حياة الشعوب وعلى الحضارة الانسانية.
هذا عن الثورة، فماذا عن المثقف؟
إن المثقف خاصة في الدول النامية أصبح يلعب دورا طلائعيا، وهو دور تدركه الجماهير أكثر من المثقف نفسه، إن الجماهير رغم أميتها تنظر إلى المثقف على أنه الانسان الممتاز، فهي تضفي عليه أقصى ما يمكن من درجات الفهم والادراك والتفكير، ويمكن تجاوزا أن تضعه على قمة الأخلاق والقيم، وهي عندما تنزله هذه المنزلة، لا ترى فيه شخصا بعيدا منها منفصلا عنها، بل بالعكس تحس به أقرب ما يكون إليها، إنها ترى فيه نفسها، ترى فيه صورتها النموذجية، تماما كما يرى الأب في ابنه صورته المثلى محملا إياه جميع إمكانيات الخير والصلاح، بتعبير آخر إنها ترى فيه نتاجها الخاص وملكها الخاص، ومنقذها الذي صنعته بيدها وغدته بروحها.
إن هذه الأمانة والمسؤولية الملقاة على عاتق هذا المثقف قد تبخرت وتلاشت في الثورات التي عرفتها الدول العربية، هذا الانقلاب الذي عرفه دور المثقف جعل هذا الأخير يصف ثورات الربيع العربي بأنها فعل عشوائي واعتباطي، يصفها كذلك لأن الشعب المدفوع بالإرادة الحرة لم يستشره، ولأن حركة الشباب المستعد حتى لملاقاة الموت قد أفقده تميزه النقدي الذي كان يعد بطولة في إطار النظام القائم، إنه المثقف الذي يغار من الجمهور الذي توجه إلى الثورة مباشرة دون المرور بمراحل النقد المعروفة، وهذا وضع جديد لا يخلو من مخاطر.
إن ما كانت تنتظره الجماهير من المثقفين، حيث كانت لا تفتأ تطالبه بالعطاء، والدفاع عنها وعن حقوقها، كل ذلك أصبح اليوم متجاوزا، ومسؤولياته أضحت بعدية وليست قلبية، هذا التغيير وضع المثقفين في حيرة وجعلهم يحملون الثورة ذنب عدم توقعهم لها، أو أنهم ينفون عنها هذه الصفة حتى لا تكون ثورة غير متوقعة، وهناك نوع آخر من المثقفين اعتبروا الثورة مؤامرة، وشأنها شأن كل مؤامرة لا تتضح خيوطها الخفية إلا لاحقا، وليس بوسعه الآن إلا تقديرها بالتخمين، ناشرا في طريقه اللاعقلانية والجهل والاسفاف حيث ما حلت أقواله، وهو بذلك يخون وظيفته.
فحتى المثقف المحافظ إنما يدافع عن قيم محافظة مثل النظام والتقاليد …ولا يكتفي بنشر الشائعات، أما مثقفوا الأنظمة فليسوا مثقفين محافظين حتى، بل هم يعبرون عن ثقافة الأجهزة الأمنية على رثاثتها.
بين كل هذا وذاك يبقى امتحان المثقف النقدي كامنا في عدم الانزلاق إلى رفض الثورة بدعوى أنها فاجأته أو لأنها لم تفصل على مقاسه، أو على مقاس توقعاته من جهة، وعدم التورط في إصدار الأحكام الرومانسية على الثوار من جهة أخرى، حتى لكأن المشهد يتألف من صراع بين أخيار وأشرار، متناسين أن الثورة هي تلكم اللحظة التي تتحدى فيها إرادة الشعب الحرة نظام الهيمنة والسلطة وأدوات السيطرة التي تكرسه من خارج دستورها وقواعد لعبتها.
أنتقل إلى مناقشة قضية المثقف والسياسة، وسأعمل على المحافظة على نفس العنوان الذي نشرت به هذه القضية على حسابي الفيسبوكي سنة 2014: “عندما يغيب البعد التبصري لدى المثقف… يصبح متشظيا”، في مشهدنا السياسي بالمغرب يأتي تدبير الاختلاف عند زمرة من المثقفين على شكلين: إما شكل ثقافة القطيع التي توغل يوما بعد يوم في المقاربة القطاعية… وإما على شكل ثقافة الاختلاف والثورة على الأنماط القديمة المعهودة… وما بين هذه وتلك يبرز ما أسميه المثقف الجغرافي الواعد، الأكثر رسوخا أمام منتجات الإنسان ومجاله، والأكثر استيعابا للعلاقة التفاعلية بين الإنسان والمجال بمختلف تمفصلاته، على اعتبار أن هذا المجال الذي إليه هو معطى جغرافي أولا، وإنتاج اجتماعي ثانيا. هذه العلاقة التفاعلية أبطالها فاعلون مختلفون ومتكاملون من الفكرة إلى التثمين، مرورا من التشخيص والتخطيط والتنفيذ والتقييم والتقويم.
إن الكل يتفق على أن الوزارات المتعاقبة أهملت الشأن الثقافي، وكان الأمن القومي أحد أهم انشغالاتها الكبرى. والكل يتفق كذلك أنه منذ خُلق “مثقف” وخُلقت “سياسة”… قدر على الأول أن يكون دائما في مواجهة السياسة، فقط أن هذه المواجهة إما تكون تعبيرا عن أفق حقيقي في رؤية المثقف، وفي مشروعه الفكري، مما يجعله لا يتنازل عن أفكاره مقابل فكر سلطة السياسة أو رؤيتها للأشياء، وإما إقصاء متبادلا مقصودا وحيد الاتجاه، لأن السلطة دون المثقف تستطيع أن تحكم ويراد لها ذلك فوقيا، وهو دونها – أي المثقف – لا يستطيع إلى ذلك سبيلا. إنه يصبح كذلك منصاعا إلى ما تقترحه من معالجات “إسبيرينية” للقضايا.
هناك في تقديري نوع من المثقفين وليد النوع أعلاه (الإقصائي)، يفضل هذا المثقف أن تكون بدايته بعيدة عن السلطة والسياسة، وخاف لسبب أو لآخر أن تلوثه المناقشات السياسية، وهناك من تمرس وسط الحقلين ووعى اللعبة جيدا، وعاها وعيا علميا عمليا، وليس وعي المقاهي أو منتجات فضاءات التواصل الاجتماعي، أو ما تطارحه وسائل الإعلام… لأن كل شيء سوى العلم ما هو إلا موجِّه لأهداف معينة أو خدمة لأجندات خفية تارة، ومعلنة تارة أخرى. إنه الشخص الذي تمرس ووعى وخالط، فاستطاع أن يستنبط المشترك، ويبحث له عن آليات التنفيذ السليم… هي عملية صعبة ولكن ليست مستحيلة طبعا… هي عملية قوامها ثلاث ركائز، جماعة محلية، جمعية تنموية، جامعة عالمة، أو كما يسمها الدكتور المصطفى عيشان “الجيمات الثلاث: جيم الجماعة، وجيم الجمعية، وجيم الجامعة”، والفصل بينها هو إجهاض للفعل التنموي، أو كمن يسهر على ولادة، فيولد له الطفل في وضعية الموت الإكلينيكي.
إن عملية وعي المثقف بذاته وبالوجود، رهينة بقدرته على استنباط الموجودات من حوله. هناك في مغربنا الحبيب نوع من المثقفين فضل الارتكان والانزواء في كوة الرؤية من أعلى، يريد أن يبقى بمفرده، أو رفقة بني ثقافته. في الوقت الذي نحتاج إلى مثقفين يحترفون فن الرؤية بالمعية أو الرؤية المصاحبة. لأن التفكير في التغيير هو مطلب الجماعة المختلفة وديدنها، ويجب أن يكون هذا التفاعل بين أفراد المجتمع مستداما في الزمان والمكان.
إن الإشكالية في نظري، هي إشكالية اختلاف المعايير، فالمثقف يرى بمعيار الثقافة أن السياسي جاهل تماما، والسياسي ينظر بمعيار السياسة إلى أن المثقف جاهل كذلك… يتعالى الأول ويأبى الهبوط من برجه العاجي… والثاني ماكر محترف، ومتمكن من قواعد اللعبة… زد على ذلك أن كل واحد منهما حوَّل الاختلاف إلى خلاف، إننا في حاجة إلى تنزيل مقولة غاندي القائلة “تخطط من أجلي دون إشراكي، فأنت تخطط ضدي”، كبوصلة تعيد توجيه المثقف والسياسي نحو المشترك والتشارك من أجل الصالح العام.
ختاما: شيء من جغرافية المفكر:
ما لم يعرف المثقف خصوصية ذاته… فلن يتمكن من معرفة مجتمعه وحاجاته… وعليه، فلن يسطع القيام بالرسالة التي يمنحها لنفسه… فعلى المثقف المفكر أن يعلَم خصائص ذاته (في أي ظروف تاريخية واجتماعية وايديولوجية نشأ وترعرع… وإلى أين ستكون امتدادات خصائص هذه الجذور…).

هوامش

– د إبراهيم أبراش، الثورات العربية…في عالم متغير، مطبعة النجاح الجديدة-الدار البيضاء، منشورات الزمن، ط1، 2011 ص 17.
– محمد عابد الجابري، مواقف: الثقافة في المعترك السياسي زمن الإيديولوجيا، ط1 يناير 2003، دار النشر المغربية، ص 55.
– د عزمي بشارة، محاضرة حول التغيرات الاجتماعية والسياسية بعد الربيع العربي.


الكاتب : د. نزيه حاجبي

  

بتاريخ : 15/11/2019

أخبار مرتبطة

من الواضح أن العلاقة بين القارئ والكاتب شديدة التعقيد؛ ذلك أن لا أحد منهما يثق في الآخر ثقة سميكة، وما

  وُلِدَت الشخصيةُ الأساسيةُ في روايةِ علي بدر (الزعيم) في العامِ الذي بدأت فيه الحملة البريطانية على العراق، وبعد أكثر

  يقول دوستويفسكي: «الجحيم هو عدم قدرة الإنسان على أن يحبّ». هذا ما يعبّر عنه الشاعر طه عدنان في ديوانه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *