المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬تواصل‭ ‬شعلة‭ ‬العدالة‭ ‬الدولية‭ ‬بوحي‭ ‬من‭ ‬نورمبرغ‭

بعد‭ ‬75‭ ‬عاما‭ ‬من‭ ‬بدء‭ ‬محاكمات‭ ‬نورمبرغ‭ ‬حول‭ ‬جرائم‭ ‬النازية،‭ ‬تواجه‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬التي‭ ‬ولدت‭ ‬بوحي‭ ‬منها،‭ ‬عوائق‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬سعيها‭ ‬لإبقاء‭ ‬شعلة‭ ‬العدالة‭ ‬مضاءة‭.‬
استحدثت‭ ‬محاكمات‭ ‬نورمبرغ‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭ ‬العام‭ ‬1945‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وأرست‭ ‬أسس‭ ‬نظام‭ ‬جنائي‭ ‬عالمي‭ ‬للمتهمين‭ ‬بارتكاب‭ ‬أبشع‭ ‬الفظاعات‭.‬
ويتواصل‭ ‬إرث‭ ‬نورمبرغ‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬ومقرها‭ ‬في‭ ‬لاهاي،‭ ‬وهي‭ ‬أول‭ ‬هيئة‭ ‬جنائية‭ ‬دولية‭ ‬دائمة‭ ‬مكلفة‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬2002‭ ‬البت‭ ‬في‭ ‬تهم‭ ‬ارتكاب‭ ‬مجازر‭ ‬إبادة‭ ‬وجرائم‭ ‬حرب‭ ‬وجرائم‭ ‬ضد‭ ‬الإنسانية‭.‬
لكن،‭ ‬تنبغي‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المدعين‭ ‬العامين‭ ‬كانوا‭ ‬يملكون‭ ‬كل‭ ‬عناصر‭ ‬النجاح‭ ‬يومها‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬الحلفاء‭ ‬المنتصرين‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬وضعوا‭ ‬21‭ ‬قائدا‭ ‬نازيا‭ ‬في‭ ‬قفص‭ ‬الاتهام‭ ‬في‭ ‬نوفمبر‭ ‬1945‭.‬
وكان‭ ‬المتهمون‭ ‬جميعهم‭ ‬قيد‭ ‬التوقيف‭ ‬وبحوزة‭ ‬الحلفاء‭ ‬كمية‭ ‬هائلة‭ ‬من‭ ‬الأدلة‭ ‬الموثقة‭ ‬بعناية‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬كانوا‭ ‬يحتلونه‭.‬
يضاف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬محاكمات‭ ‬نورمبرغ‭ ‬أتت‭ ‬بإرادة‭ ‬سياسية‭ ‬لتوفير‭ ‬رد‭ ‬قانوني‭ ‬مؤات‭ ‬على‭ ‬جرائم‭ ‬النازيين‭ ‬بدفع‭ ‬من‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬خصوصا‭.‬
وتقول‭ ‬نانسي‭ ‬كومبز‭ ‬أستاذة‭ ‬القانون‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬وليام‭ ‬أند‭ ‬ماري‭ ‬في‭ ‬فيرجينيا‭ «‬مع‭ ‬وجود‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬إلى‭ ‬جانبها،‭ ‬كانت‭ ‬محاكمات‭ ‬نورمبرغ‭ ‬فعالة‭».‬
وتضيف‭ ‬أن‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ «‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬بملاحقات‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتمتع‭ ‬بأي‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬الإيجابية‭».‬
وجهدت‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬من‭ ‬بداياتها‭ ‬لإطلاق‭ ‬ملاحقات‭ ‬وتوقيف‭ ‬مسؤولين‭ ‬كبار‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نتائجها‭ ‬تبقى‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬متفاوتة‭.‬
فرغم‭ ‬توقيف‭ ‬الجيش‭ ‬للرئيس‭ ‬السوداني‭ ‬السابق‭ ‬عمر‭ ‬البشير‭ ‬العام‭ ‬2019‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المتهمين‭ ‬في‭ ‬المحكمة،‭ ‬لم‭ ‬تتسلمه‭ ‬بعد‭ ‬شأنه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬شأن‭ ‬سيف‭ ‬الإسلام‭ ‬نجل‭ ‬الزعيم‭ ‬الليبي‭ ‬السابق‭ ‬معمر‭ ‬القذافي‭.‬
واضطرت‭ ‬المحكمة‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الأخير‭ ‬إلى‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬ملاحقات‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬الرئيس‭ ‬الكيني‭ ‬اوهورو‭ ‬كنياتا‭ ‬فيما‭ ‬برئ‭ ‬رئيس‭ ‬ساحل‭ ‬العاج‭ ‬السابق‭ ‬لوران‭ ‬غباغبو‭ ‬والسياسي‭ ‬الكونغولي‭ ‬جان-بيار‭ ‬بيمبا‭.‬
وتوضح‭ ‬كومبز‭ «‬المدعون‭ ‬العامون‭ ‬في‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬المدعين‭ ‬في‭ ‬نورمبرغ‭ ‬يريدون‭ ‬ملاحقة‭ ‬مسؤولين‭ ‬رفيعي‭ ‬المستوى‭ ‬لكنهم‭ ‬لا‭ ‬يتمتعون‭ ‬بالدعم‭ ‬السياسي‭ ‬لإلقاء‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬المشتبه‭ ‬بهم‭ ‬هؤلاء‭ ‬أو‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬الأدلة‭ ‬التي‭ ‬يحتاجونها‭ ‬لإدانتهم‭».‬
وثمة‭ ‬فرق‭ ‬رئيسي‭ ‬آخر‭ ‬بين‭ ‬المحكمتين‭ ‬يتمثل‭ ‬بدعم‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الذي‭ ‬شكل‭ ‬عنصرا‭ ‬حاسما‭ ‬في‭ ‬نجاح‭ ‬محاكمات‭ ‬نورمبرغ،‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬لم‭ ‬تعترف‭ ‬واشنطن‭ ‬رسميا‭ ‬بسلطة‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬لا‭ ‬بل‭ ‬فرضت‭ ‬عقوبات‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬على‭ ‬المدعية‭ ‬العامة‭ ‬فيها‭ ‬ردا‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬أجري‭ ‬في‭ ‬أفغانستان‭ ‬قد‭ ‬يظهر‭ ‬ضلوع‭ ‬جنود‭ ‬أمريكيين‭.‬
وتقول‭ ‬سيسيل‭ ‬روز،‭ ‬أستاذة‭ ‬القانون‭ ‬الدولي‭ ‬المساعدة‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬لايدن‭ ‬في‭ ‬هولندا،‭ ‬إن‭ ‬موقف‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬من‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭» ‬تفاوت‭ ‬عبر‭ ‬الزمن‭» ‬لكن‭ ‬موقفها‭ ‬الحالي‭ «‬متطرف‭ ‬للغاية‭».‬
وتوضح‭ ‬لوكالة‭ ‬فرانس‭ ‬برس‭ ‬أن‭ «‬الطابع‭ ‬الاستقطابي‭ ‬والانقسامي‭ ‬جدا‭ ‬للسياسة‭ ‬الداخلية‭ ‬الأمريكية‭ ‬مختلف‭ ‬جدا‭ ‬عما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬تقود‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬العدالة‭ ‬الدولية‭ ‬ومحاكمات‭ ‬نورمبرغ‭».‬
وتؤكد‭ ‬روز‭ «‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬كانت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬‮+‬المنتصر‮+‬‭ ‬فيما‭ ‬تواجه‭ ‬راهنا‭ ‬احتمال‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عناصر‭ ‬من‭ ‬قواتها‭ ‬المسلحة‭ ‬محور‭ ‬تحقيق‭ ‬وملاحقات‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭».‬
لكن‭ ‬روز‭ ‬وكومبز‭ ‬تعتبران‭ ‬أن‭ «‬عدالة‭ ‬المنتصر‭» ‬ألقت‭ ‬بظلالها‭ ‬بعض‭ ‬الشيء‭ ‬على‭ ‬محاكمات‭ ‬نورمبرغ‭.‬
وتوضح‭ ‬كومبز‭ «‬تواجه‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬صعوبات‭ ‬ومحدودية‭ ‬تبرز‭ ‬خصوصا‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قوبلت‭ ‬بنجاح‭ ‬لمحاكمات‭ ‬نورمبرغ‭ ‬الباهر‭».‬
إلا‭ ‬أنها‭ ‬تضيف‭ «‬يعزى‭ ‬نجاح‭ ‬نورمبرغ‭ ‬والتحديات‭ ‬التي‭ ‬تواجهها‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬إلى‭ ‬الإطار‭ ‬السياسي‭».‬
ويجمع‭ ‬القضاة‭ ‬والمدعون‭ ‬العامون‭ ‬على‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الإرث‭ ‬الرئيسي‭ ‬لمحاكمات‭ ‬نورمبرغ‭ ‬يتمثل‭ ‬بمدهم‭ ‬بالإرادة‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬العدالة‭.‬
وقد‭ ‬انعكست‭ ‬هذه‭ ‬الإرادة‭ ‬في‭ ‬محاكم‭ ‬موقتة‭ ‬مثل‭ ‬المحكمة‭ ‬الخاصة‭ ‬بيوغوسلافيا‭ ‬السابقة‭ ‬والإبادة‭ ‬في‭ ‬رواندا‭ ‬وترسخت‭ ‬بشكل‭ ‬دائم‭ ‬عبر‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭.‬
ويقول‭ ‬مسؤول‭ ‬في‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬لوكالة‭ ‬فرانس‭ ‬برس‭ ‬رافضا‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬اسمه‭ «‬عندما‭ ‬نمر‭ ‬بصعوبات‭ ‬نلتفت‭ ‬إلى‭ ‬نورمبرغ‭ ‬وعمل‭ ‬المدعين‭ ‬فيها‭» ‬مثل‭ ‬بنجامين‭ ‬فرنز‭.‬
وكان‭ ‬المحامي‭ ‬الأمريكي‭ ‬فرنز‭ ‬الذي‭ ‬يبلغ‭ ‬المئة‭ ‬الآن،‭ ‬أصغر‭ ‬المدعين‭ ‬العامين‭ ‬في‭ ‬محاكمات‭ ‬نورمبرغ‭ ‬وكرس‭ ‬حياته‭ ‬للعدالة‭ ‬الدولية‭.‬
ويوضح‭ ‬المسؤول‭ «‬نستلهم‭ ‬من‭ ‬عمله‭ ‬لكي‭ ‬نستمر‮.‬‭ ‬قال‭ ‬لنا‭ ‬إن‭ ‬الأمر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سهلا‭ ‬يومها‭ ‬ولن‭ ‬يكون‭ ‬سهلا‭ ‬الآن‭ ‬لكن‭ ‬علينا‭ ‬المثابرة‭».‬11


بتاريخ : 11/11/2020