المشهد الصوفـي -13- ميلاد العلمي إشراقة للطريقة المشيشية وامتدادات للعيساويين يمكناسة الزيتون

إن القراء اليوم المولعين بـ «تراث فن الملحون» الأصيل يريدون أن يتعرفوا – بدورهم – على بعض الجوانب الخفية من حياة فرسان الزجل بالمغرب، وهي جوانب جد هامة ومفيدة، ظلت مخزونة بين ثانيا الصدور، ومحفوظة في الذاكرة الشعبية زمانا غير يسير، وعلى تعاقب الأجيال المغربية ؛ وقد رصدنا من أجل توثيقها مجموعة من اللقاءات والمهرجانات الفنية أزيد من خمسة عقود خلت.
نعم، إن هذه المرويات التي تروى حول بعض شعراء الملحون على اختلافها في بعض المدن المغربية لا يزال يحفظها أهل الملحون بالتواتر، جيلا عن جيل، مما يجري في كل منتدى من منتدياتهم، وفي كل محفل من محافلهم. إنها مرويات تكشف عن خفايا إنتاجات هؤلاء المبدعين، وعن ألغازها، ومعمياتها، بل من أجل العمل على تقريبها من الأذهان، والأذواق، فيحاول الدارسون، والباحثون، تقديم ذلك سهلا ومبسطا إلى جمهور عريض من القراء والمولعين بفن الملحون؛ في كل غرض من أغراض القصيدة الزجلية –على تعدد أشكالها الفنية، وأجناسها الأدبية -. ومن الأسماء اللامعة في هذا الفن، اسم قد ظل– في كل وقت وحين- تردده الشفاه وتستشهد بمعانيه العقول والأرواح، بل يرن صدى بدائعه وروائعه في كل وسط من الأوساط، في الغدو ، والرواح.

 

إذا كان مولد العلمي – رحمه الله – سنة : 1154هـ/1741 م، هي نفسها الفترة التي عرفت ازدهارا للطريقة العيساوية، واتساعا كبيرا في رقعة الأتباع، والمُريدين بمدينة مكناس، وبغيرها من حواضر المغرب يومئذ ؛ فإن تراث هذه الطائفة الصوفية قد ضاع منه الكثير، مما لم يقع تحت سمعهم، ولم تعه ذاكرتهم، وتحفظه حافظتهم، هذا إذا قيس بما جمعه الأوائل، بداية من القرن العاشر الهجري، السادس الميلادي، ومع ذلك، فقد ظلت المدينة الإسماعيلية تحتضن هذا التراث شعره ونثره إلى زماننا هذا، وحسبي ما جمعناه من ميراث هذه الطائفة، أن يكون أهله والقائمون بشؤونه وقضاياه، قد احتفظوا للشيخ الهادي بن عيسى بقدر عظيم من خطبه، وأزجاله، ومن أشعاره وأحزابه، وأذكاره. وحسبي – أيضا – فيما قدمته من دراسات، وأبحاث في هذا التراث الصوفي أن أواصل الجهد المستطاع لنقله من العامية – كما تلقيته – إلى الفصحى، ليعم نفعه، وتتم الاستفادة منه ؛ فكل جيل من أجيالنا يرى في هذا التراث وجها آخر من وجوه حضارة أمته، وأصالتها، وثقافتها، وما قد سجل في أعقاب مراحلها التاريخية الحاسمة ؛ إنها درر من موروث الذاكرة الشعبية ومسلك عظيم من مسالك إيقاظ همم المريدين والأتباع، وتهذيب أخلاقهم وتبسيط معارفهم، هذه المعارف الصوفية التي كان يود الشيخ بن عيسى – رضي الله عنه – أن يلقيها في روع أتباعه ومريديه، وهي تعمق بأصالتها ودقائق معانيها مفاهيم صوفية سامية، قد احتضنها الوسط الشعبي التقليدي، فجاءت تحمل معلمة من معالم التصوف المغربي، وشاهدا آخر، من شواهد الإثبات على مدى تجاوب المغاربة عامة مع روح التصوف الذي أعطى وجها وضيئا من وجوه الحضارة الإنسانية الأصيلة، وطريقا معبدا من طرق الوصول، إلى الأصول، وإلى المنابع الصافية السليمة ؛
وإذا كانت شخصية الشيخ عبد الرحمن المجذوب – رحمه الله – قد اشتهرت بفن الرباعيات، فإن أفكار صاحبها طارت شهرتها في الآفاق، فتناسلت منها حكم الشيخ وتجاربه الحياتية على تعاقب الأجيال المغربية، فحفظ منها الكثير الشيخ العلمي، وتأثر بمعانيها، ورصانة سبكها، وصيغها ؛ وإذا تتبع الباحث في هذا اللون من تراثنا الشعبي، مما يجري على ألسنة العامة، في كل زمان ، ومكان، على توالي الأيام والسنين، فإنه يجد هذا اللون الجميل من فن الرباعيات، متعدد الأغراض، ومن أهمها ما يلي :
1 – ما يتصل منها بالإشارة العابرة إلى فساد أخلاق الناس التي انحرفت، وخرجت عن المألوف، والمعتاد، كقول القائل :
سَاعَة ْ الـَعـْبَادْة سُوقْهَا ، دَلاَّلـُو سَكـَـــتْ
وْسَاعة الـَهْوَى، والنْوَى، دَلالـْهَا يْصيحْ
يْقُول بَعْـقـَلْ ارْجيحْ ، وَلـْسَــــانْ فـْصِيحْ
اَلـْزَمْ التـَّحذيرْ، لـمْـظـَالـَمْ زْمَرْهَـَا يْسيحْ
2 – ما يتصل منها – أيضا – بتزييف المظاهر، وفساد العلاقات الاجتماعية بين الناس، وذلك على مستويات مختلفة من الشرائح، تتعدد، وتختلف، كقول القائل :
قـَالـُو كـَلـْمَة ، اُو سـَكـْتُو كـْثيرْ
شـَافـُو عِيبْهُم، عِيبْ كـْبِــيــــرْ
اصْواتْهُمْ، فـَي الـْحُومَة الدِّير هْدِيرْ
وانْسَاهُمْ، فـَي الدّارْ شـَلاَّ يْوَصَّفْ خـْبـِيرْ
3 – ما يتصل منها بالجانب الاجتماعي بالوسط القروي، وهو جانب يؤكد الانسلاخ عن عاداتنا، وتقاليدنا الأصيلة، والهروب إلى المدينة، حبا في مغرياتها، وترك الأرض وشأنها، الشيء الذي ساعد على الانحراف، وتفشي الأخلاق الرذيلة بالوسط القروي، حيث تحول مجتمع القرية إلى بؤرة قد نشط فيها الفساد بأنواعه ؛ يقول القائل ما نصه :
الـــﮕـاعــــا ، الـــﮕـاعــــا ، زرعها طـارْ
وَمصَايَـــدْ إبلِيسْ ، في الـدَّواوَرْ تصَيَّدْ
ساهَتْ عـْــقـُـــــــــــولْ ، بْلا َ عـَــارْ
فـَكـَّرْ يالرَّايح في اللِّي عْلِيهْ ما تـْحيَّدْ
4 – ما يتصل بفضح الطرقيين المزيفين ، الذين كانوا – مع الأسف – في فترات من تاريخ المغرب يعيشون – داخل الشرائح الاجتماعية – بوجهين : وجه مع الاستعمار الغاشم، العدو اللدود، فيتقربون إليه بوسائل شتى ، وعن طريق هذا التقرب، كانوا يكيدون للبلاد، والعباد؛ ووجه آخر مع المواطنين الأبرياء الأحرار، حيث كانوا يتظاهرون أمامهم بالصلاح، ومحبة الوطن والتدين ؛ وإلى هؤلاء يشير الزجال بقوله :
هـَكـْذاكْ، فـَي الـْحَومَة أنـا !! *** أو فـُــــــوقْ الـْمَـنـْـبـَرْ حَدَّثنــَا
اُوفي الدَّار ، كـُبْ مَا شَكْمَانـَا *** اُو فِي الـْبيرُو، خـُذْ أنْتَ، وَنـَا . «قسم المخابرات»؛
فالرباعيات على تعدد مشاربها التي اشتهر منها العديد في بعض الساحات العمومية : – كساحات جامع الفناء – وساحة بوجلود بفاس – وساحات سيدي لغليمي بسطات وغيرها من الساحات التي كانت منابر لبعض المتصوفة المتجولين.
وإذا رجعنا إلى تاريخ إقامة العلمي بمراكش، مدة طويلة تربو عن عشرين سنة، فإن المتتبع سيلاحظ ثروة هائلة في ثقافة العلمي استمدها من هذه المدة الزمنية الطويلة بمدينة مراكش، مع أن العلمي كان يقضي جل أوقاته متجولا بين الأضرحة السبعة وعلى رأسها: ضريح أبي العباس السبتي وتلميذه الشيخ عبد العزيز التباع، وهذا الأخير يذكرنا بلقائه مع شيخ الطائفة العيساوية الهادي بنعيسى حين جاء يطلب الإذن بقراءة كتاب: (دلائل الخيرات)، وقد رجع شيخ الطائفة العيساوية إلى بلاده يحمل مصباحا منيراً أَضاءَ له الطريق كيف ينشيء طائفة صوفية من شعارها الحب النبوى والأمن الروحي.
وكلمة الحب عند المتصوفة لها دلالات إشراقية هامة ترمز إلى ما ينبغي أن يتحلى به المريد من أوصاف الحب النبوي الصادق:
فألفه: مُؤانسةٌ مع الله. ولامه: لذَّة بالمحبوب، وحاؤه: حِلْمٌ وتغاضي عن أخطاء الناس، وهفواتهم، وباؤه الأولى : بِرٌّ ومعروف مع عيال الله، وباؤه الثانية: بَراءةٌ من الشك والشرك؛
فإذا تحلَّى المريد بهذه الصفات كلها فقد تحقق في تربيته الحبّ النبوي الكريم.


بتاريخ : 15/04/2022