المطرقة والإزميل

من مميزات «كتاب الرمل» لبورخيس أنه ليس له «أي بداية أو نهاية»، كما ليس بوسع المرء العودة إلى أي صفحة من صفحاته سبق أن قرأها. لا وجود لصفحة سابقة، ولا لأخرى لاحقة، وكل «الأوراق تنمو وتتناسل» منه. كتاب شيطاني أو كابوسي لامتناه. بيد أن إيتالو كالفينو انتبه إلى أن بورخيس يظل، لهذا السبب ذاته، «رائدا للكتابات المقتضبة»، إذ نجح في ابتكار حيلة لتخطي عقبة الإطالة والإسهاب، من خلال ذكر كتب أخرى حقيقية أو غير حقيقية، كلاسيكية أو عميقة أو مبتدعة، فضلا عن استعمال التحولات الأسطورية والمحفزات الشعرية والنماذج التاريخية والثقافية، مما ساعده على مضاعفة مساحة نصوصه وإكسابها صفة «الاتساع». إنك لا تستطيع أن تقرأ بورخيس دون أن تشعر بأن الزمن المطلق حاضر بشكل من الأشكال في أسلوبه وموضوعاته. هناك تكثيف للمعاني وإيجاز لغوي واقتضاب زمني، والأهم من ذلك كله هناك حبكة مُرّكبة تشعرنا بأن هناك «شبكة أزمان متنامية، ومتشعبة، ومتقاربة، ومتوازية تصيب بالدوار» (كالفينو: لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي).
لقد نجح بورخيس في ما فشل فيه آخرون، حين استطاع أن يتجنب «سمنة السرد» بابتداع أسلوب خاص للاتساع. وهذا أيضا ما نجح فيه ستيفان زفايغ المأخوذ تماما بما يسميه هو «الكتابة بمزاج القارئ». حذف كل شيء يُمكن حذفه بأسرع وقت ممكن، دون ندم أو التفات. إفراغ العربة من كل الأثقال التي تعوق سيرها بالسرعة المناسبة أو من الممكن أن تُعجل بانقلابها، والاستغناء الشامل عن «الصفحات الرملية» التي يختنق الهواء بها. هناك دائما خيارات كثيرة لإفراغ النص من «الزوائد المؤذية» وضخه بالطاقة اللازمة ليكون رشيقا وقادرا على التدفق والانسياب دون حواجز (حشو، شروح، إطناب، زخرفة، تكرار). ذلك أن كل نص رشيق ينبغي أن يخضع لهندسة ما، وأن يكون فعل «التشطيب» هو النشاط الكتابي الحقيقي الذي يقطع الأنفاس، لأنه هو الطريق إلى تنظيم وحدات هذا النص على خط متماسك.
إن زفايغ يكتب بمزاج القارئ الذي ترهقه التفاصيل الرملية، أي القارئ الملول الذي يقفز على عشرات الصفحات دون أن يتحسر عليها، لأنه يشعر بأنها عديمة الأهمية ولا تعنيه. القارئ الذي يبني معانيه بالحذف والتخلي عن كل الاشياء الزائدة عن حاجته. القارئ المناهض للموسوعة، والمكتفي بما يصر، مبنى ومعنى، على البقاء. القارئ المتحيز للأساسي، والمؤمن بأن النص، كل نص، يكتب بميزانية ثابتة، أي بأقل قدر ممكن من الكلمات، بل يؤمن بأن «الحذف» هو أصل الكتابة ومنتهاها، مثلما كان يؤمن غوستاف فلوبير بأن «سلة المهملات أفضل أصدقاء الكاتب».
ليس للنصوص السمينة أو المتورمة أي فكرة عن «التشطيب» أو أي نظام غذائي لإنقاص الوزن. لا تشعر بالخجل أو عدم الثقة بالنفس، وانشغالها الأساس هو «التخرتت»، أي أن تكون أكبر حجما، لأنها تتوهم عن خطأ أن البدانة دليل لياقة عالية، وقدرة لا تضاهى على الاستطراد في التخيل. ولذلك، تحصن نفسها ضد الحمية. تريد أن تقول كل شيء، وأن تستفيض في ذكر التفاصيل، والالتواء على المحكي الإطار لصالح المحكيات الانشطارية الأخرى، بل إنها تشرد أحيانا وتفلت من يدها كل خيوط الحكاية. تتغاضى عن كل إهمال، ولا تتبنى أي معيار صارم متشدد مع نفسها. لا قياسات، ولا اهتمام بالإيقاع والحيوية. لا إجراءات وقائية من الترهل، ولا توق إلى أي شكل آمن.
لقد أصبحت النصوص سعيدة جدا بوضع نفسها في خدمة الأوزان والأحجام الكبيرة، حتى أصبحنا أمام «نصوص السومو» الثقيلة والسمينة بدل أن نكون وجها لوجه مع نصوص الرقص الإيقاعي النحيفة والرشيقة، كأن الكتابة تحولت إلى حلبة للتنافس على تناول « الأوكساندرولون» (حبوب محفزة للشهية)، حتى أن الناقد سعيد يقطين اعتبر البدانة الروائية مرضا، وكتب: «الروايات المبنية على الإيجاز هي في الواقع أصعب من كتابة الرواية الطويلة. إنها الرواية التي لا يمكن أن نحذف منها كلمة واحدة. وهذه هي الرواية الحقيقية في رأيي. وأعطي هنا مثال رواية «الغريب» لكامو. فكلما قرأت هذه الرواية، ظهرت لي بشكل مختلف. أما الروايات الضخمة فلا يمكن أن نعيد قراءتها؟ البدانة الروائية نتاج الكتابة السريعة، تماما كما أن الوجبات السريعة لا تؤدي إلا إلى البدانة: مرض العصر».
وتبعا لذلك، يمكن القول إن النص التحفة (الجدير بالقراءة والتتبع والاهتمام) هو النص الخاضع للتشطيب، أي النص الذي جرى تبييضه وتشذيب أجزائه، وإزالة شحومه، وإفراغه إفراغا تاما من زوائده. النص الذي يتجه قدما نحو التنازل عن الرغبات والاقتناع بعدم الحاجة لها.
لنتأمل هذا النص من رواية «في بلاد الأشياء الأخيرة» لبول أوستر: «تضاءلت أحجام سفن فيرديناند تدريجيا. من قناني الويسكي وقناني الجعة، تقلص عمله متحولا إلى زجاجات شراب السعال، وأنابيب الاختبار، ثم انحدارا إلى قوارير العطر الفارغة، إلى أن انتهى به الأمر مفبركا سفنا بأحجام ميكروسكوبية تقريبا. كان عمله غير قابل للتصور بالنسبة إلي، غير أن فرديناند ما كان ليبدو متعبا إطلاقا. وكلما تقلص حجم السفينة، كان يصبح أكثر تعلقا بها (…). «كلما أصبحت صغيرة غدت أفضل»، قال لي في إحدى الليالي متباهيا بإنجازاته كفنان. يوما ما سأصنع سفينة لن يستطع أحد رؤيتها..!»…»
ولنقرأ أيضا هذا المقطع من قصة «صدر حديثا» لأحمد بوزفور: ‘’… يحلم في البداية بكتابة رواية كبرى في حجم «الإخوة كرامازوف». لا يفكر في أية تفاصيل، يفكر في الحجم فقط، ثم يسأم فكرة الحجم ويسخر منها ليُفكِّر في التركيب والتعقيد والتشابك وتكثيف الزمن والوعي، فتصبح روايته الحلم في شكل «أوليس» ثم تزداد صغرا وعمقا، وتشع في خياله كالماسة من جميع الزوايا لتصبح قصيدة شعر، على أنه في الأخير يحلم بالجملة الخالدة، «الجملة الكمبيوتر»على حد تعبيره: جملة واحدة يجمع فيها الكون كله..».
يوحي نظام التقشف، في هذين النصين، بالتحولات الجوهرية التي تعتري النص على نحو متدرج، كأن «النقطة» (عدم الكلمات) هي الأفق. قلب نظام الاتساع رأسا على عقب، والاتجاه نحو الصمت. كل شيء يعتمد على الزهد في الزائد، والوصول إلى «كل شيء في شيء واحد» ( كل الكتب تخرج من كتاب واحد، وكل الكلمات تخرج من كلمة واحدة). هذا هو أفق الكتابة: العودة إلى البداية. الاتساع المعكوس. الحذف والتخلي والتخريق والكشط والاختزال، ذلك أن النص مجرد كتلة، أما العمل الحقيقي فموكول إلى المطرقة والإزميل.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 23/02/2024