المفكر والفيلسوف محمد سبيلا .. فارس الحداثة وحارس الأنوار (21)

رحل عنا المفكر الكبير، والمناضل الاتحادي الأصيل، محمد سبيلا . وبرحيله، يفقد النضال الديموقراطي الذي أعطاه الفقيد أزهى أيام عمره والفكر الحداثي الذي اهداه عصارة عقله وتفكيره فارسا شهما دافع باستماتة عن أفق إنساني رحب وقيم كونية في خدمة المغرب الحر ، منذ فجر الاستقلال، كما يفقد المغرب والعالم العربي أحد المفكرين الكبار ورائد من رواد الحداثة بالمغرب.
انشغل الراحل، على نحو شامل، بأسئلة الحداثة وما بعد الحداثة، و»عقلنة» الخطاب الديني، وقضايا الدولة المدنية والفرق بينها وبين الدولة الكهنوتية، وما تطرحه الحركات الإسلامية في هذا الصدد. كما كان يرى أن الانتقال الفكري والثقافي هو انتقال بطيء وعسير، أو بعبارة أخرى أن الزمن التاريخي وزمن التحول الاجتماعي يختلف عن الزمن الثقافي، فالزمن الثقافي زمن بطيء، والانتقال إلى الديمقراطية -الذي يعد رهان العالم العربي- دون الانتقال إلى ثقافة الحداثة، لأن هناك اقتباسا فقط لجزء من الحداثة، هو الحداثة السياسية.
وقد كتب محمد سبيلا عددا من الكتب والمقالات والدراسات في حقل الفلسفة والفكر، ونشرها في صحف ومجلات مغربية وعربية، منها: مجلة «أقلام» و«آفاق الوحدة» و«الفكر العربي المعاصر» و«المستقبل العربي». كما ساهم في الترجمة في التأليف المدرسي والجامعي، ومن مؤلفاته المنشورة «مخاضات الحداثة» و«في الشرط الفلسفي المعاصر» و«حوارات في الثقافة و السياسة» و«الحداثة وما بعد الحداثة» و«الأصولية والحداثة»، وترجم كتاب «الفلسفة بين العلم والأيديولوجيا» للويس ألتوسير، فضلا عن «التقنية – الحقيقة – الوجود» لمارتن هايدغر، و«التحليل النفسي» لبول لوران أسون، و«التحليل النفسي» لكاترين كليمان.
في ما يلي، نعيد نشر مجموعة من المقالات والحوارات التي أنجزها الراحل، ونشرها في مجموعة من المنصات المغربية والعربية، وأيضا بعض المقالات التي كتبت عنه وعن فكره..

رسالة شكر وتقدير إلى الأستاذ محمد سبيلا (3)

 

الأخ العزيز الأستاذ الدكتور محمد سبيلا المحترم

نحن تأملنا –مرة أخرى- هذه الأفعال وجدناها أفعالا لا قبل للإنسان بها، لذلك كان الخالق جل جلاله هو الذي يتولى “التسوية” فيها، أي في الشمس، والسماء، والأرض، والنفس الإنسانية
وأما بالنسبة للشطر الثاني من القانون وهو الذي أطلق عليه لفظ “التزكية” فنجد الخالق سبحانه قد أوكله إلى الإنسان خليفته كما هو واضح في قوله تعالى : ” قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا” إذ لا يخفى أن كلمة “من” صادقة على الإنسان الذي يزكي نفسه باختياره لها ما به كمالها… وصادقة كذلك على الإنسان الذي يدسي نفسه بما يختاره لها من فجور ورذائل من طريقها تتدحرج إلى أسفل سافلين…
ومعنى هذا أن الخالق سبحانه قد أقسم بهذه الكائنات المتميزة في خلقتها أنه سبحانه قد جعل مصير الإنسان – بعد التسوية له – بيده فهو الذي إن شاء زكى نفسه باتباع ما ألهمه إياها من التقوى والاستقامة وحينئد يكون الفلاح لامحالة دنيا وأخرى… وهو كذلك الذي إن شاء لها الانغماس في الفجور كان الخسران المبين لهذا الإنسان لامحالة ..
هذا وإذا تركنا هذه السورة جانبا والتفتنا إلى القرآن بأكمله وجدنا الخالق سبحانه يؤكد هذا القانون ببيان هذا النوع من العلاقة الرابطة بينه وبين الإنسان من مستويات عدة حيث نجده دائما يتولى الخلق والتقدير المحكمين للكائنات، ويترك الذرء والتكثير فيها للإنسان، نجده يرسي القواعد في خلقه الكائنات، ويترك للإنسان رفع هذه القواعد: فهو مثلا في اللغة يخص الإنسان باستعداد كامن فيه للنطق بكل اللغات “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا” (البقرة 31) ثم يأتي الإنسان ليفجر هذا الاستعداد في إبداعاته الأدبية والخطابية والعلمية والتقنية… وهو سبحانه يخلق القدرة والاستطاعة في الإنسان ويأتي هذا الإنسان فيعطيها ذلك الامتداد من طريق ما يحدثه من تكنولوجيا يكون له بها سلطان لا في الأرض التي هو خليفة فيها فحسب، بل حتى في السماء التي هي بعيدة عنه ، والأمر كذلك في السمع والبصروالعقل وفي التناسل، وفي الأحكام الشرعية يشرع البعض منها ويترك البعض للإنسان، بل حتى في الأجل، أجل الإنسان نجد صريح هذه الآية الكريمة: ” ثم قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ” (الأنعام2) يدل على حصول أجلين لكل إنسان. يقول الإمام الرازي في تفسيره بعد سرده أقوالا في بيان المقصود من الأجلين: “والقول السادس وهو قول حكماء الإسلام أن لكل إنسان أجلين، أحدهما الآجال الطبيعية، والثاني الآجال الاخترامية، أما الآجال الطبيعية فهي التي لو بقي ذلك المزاج مصونا من العوارض الخارجية، لانتهت مدة بقائه إلى الوقت الفلاني(أي المسمى) وأما الآجال الاخترامية، فهي التي تحصل بسبب من الأسباب الخارجية كالغرق، والحرق، ولذغ الحشرات وغيرها من الأمور المعضلة” (مفاتيح الغيب 12/153-154)
هذا نوع من الاكتساح وهناك نوع آخر، ويتجلى هذه المرة في هذا التطابق الحاصل بين هذا الذي تمت فطرة الإنسان عليه من تقوى وفجور، وبين هذا الدين المعبر به عما تمت فطرة الإنسان عليه، يقول سبحانه : ” فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ” (الروم 30) ويقول قاضي القضاة عبد الجبار: “كل ما على المكلف فعله أو تركه قد ركب الله جمله في العقول، وإنما لايكون في قوة العقول التنبيه على تفاصيلها، سواء كان في أمور الدين، أو أمور المعاش ومنافع الناس، وسواء كان الديني من باب العقليات أو الشرعيات، وهذا فصل أذا عرفته تبينت أن كل التكاليف مطابقة للعقول، وكذلك أحوال المعاملات وما يتصل بها بالضر والنفع”(المحيط بالتكليف ص 31-32)
– هذا عن الاكتساح العلمي، وأما عن الاكتساح الأخلاقي فيتجلى من خلال هذه الموازنة بين هذا الذي تمت الإجابة به عن سؤال وبين هذا الذي يقوله ابن رشد في كتابه الفقهي (بداية المجتهد)
يقول الأستاذ محمد سبيلا في الإجابة عن هذا السؤال الذي قال فيه صاحبه : ظهرت في الغرب نزعات أخلاقية قامت بنقد الحداثة، ثم ما لبث أن انتقل هذا النقد الأخلاقي للمجال العربي الإسلامي” (ص 521):” عندما نقول إن الحضارة بدون أخلاق، فإننا نبالغ كثيرا، لأن هناك ضوابط قانونية تفرزها الحداثة رغم توسيعها للحريات العديدة كاختيار ثقافي، لذا يجب التفكير داخل البنية و تفكيكها” (ص 522) أو بتعبير آخر للأستاذ نفسه، إن النقد العميق هو النقد الداخلي لبنية الحداثة ولديناميكيتها التاريخية، مما يجعلها تنفتح على آفاق أخرى (حيث يحدث من طريقه) نوعا من الآلية الداخلية التعديلية للمسألة الأخلاقية، لحلها لا عن طريق التبشير الأخلاقي، بل عن طريق التأطير القانوني، لأن الانتقال من النقد الأخلاقي إلى التأطير القانوني، انتقال نوعي من الضمير الفردي إلى الضمير الجماعي، ومن الضبط الفردي إلى الضبط الجماعي الذي يزجر المخالفات والانحرافات التي يمكن أن تسيء إلى المجتمع”(ص 522)
إن هذا التفسير للنقد الأخلاقي في بعديه التبشيري والقانوني يذكرني بما جاء لدى العالم الكبير ابن رشد في كتابيه: فصل المقال ص 115 وبداية المجتهد 2/508 حيث نجده يقسم الأحكام الشرعية في علاقتها بمحاسن الأخلاق قسمين: قسم الواجب والمحرم الذي يقضي به الحكام، وقسم المندوب والمكروه الذي لايقضي به الحكام في النزاعات والخصومات، حيث يقول في علاقة هذا الذي يقضي به الحكام بالقيم الأخلاقية، بعد أن يلقي نظرة خاطفة على الذي لايقضي به الحكام :”قال القاضي رضي الله عنه : وينبغي أن تعلم أن الأحكام الشرعية تنقسم قسمين: قسم يقضي به الحكام ، وجل ما ذكرنا في هذا الكتاب (بداية المجتهد) هو داخل في هذا القسم، وقسم لايقضي به الحكام، وهذا أكثره، وهو داخل في المندوب إليه، وهذا الجنس من الأحكام هو مثل رد السلام وتشميت العاطس”،ومثل الأدب في المأكل والمشرب والملبس والمجلس، والمشي والتحدث ومعاشرة الناس وهلم جرا
أما القسم الواجب الذي يقضي به الحكام والذي هو الواجب والمحرم، فنجده يتمحور حول هذه الفضائل الأربع التي هي : فضيلة العفة وفضيلة العدل وفضيلة الشجاعة وفضيلة السخاء وما يتفرع عنها، يقول : وينبغي أن تعلم أن السنن الشرعية العملية المقصود منها هو الفضائل النفسانية وأن هذه الفضائل :
“منها ما يرجع إلى تعظيم من يجب تعظيمه، وشكر من يجب شكره، وفي هذا الجنس تدخل العبادات…
ومنها ما يرجع إلى الفضيلة التي تسمى “عفة” وهذه صنفان: السنن الواردة في المطعم والمشرب، والسنن الواردة في المناكح.
ومنها ما يرجع إلى جلب العدل والكف عن الجور، وهذه هي أجناس السنن التي تقتضي العدل في الأموال، والتي تقتضي العدل في الأبدان، وفي هذا الجنس (أي العدل في الأبدان) يدخل القصاص والحروب والعقوبات، لأن هذه كلها إنما يطلب بها العدل، ومنها السنن الواردة في الأعراض: (القذف)
ومنها السنن الواردة في جميع الأموال وتقويمها، وهي التي يقصد بها طلب الفضيلة التي تسمى “السخاء” وتجنب الرذيلة التي تسمى “البخل”. والزكاة تدخل في هذا الباب من وجه، وتدخل أيضا من باب الاشتراك في الأموال، وكذلك الأمر في الصدقات.
ومنها سنن واردة في الاجتماع الذي هو شرط في حياة الإنسان، وحفظ فضائله العملية والعلمية وهي المعبر عنها ب”الرياسة ” ولكذلك لزم أيضا أن تكون سنن الأئمة والقَوَّام بالدين
ومن السنن المهمة في حين الاجتماع السنن الواردة في المحبة والبغضة، والتعاون على إقامة هذه السنن، وهو الذي يسمى النهي عن المنكر، والأمر بالمعروف” (بداية المجتهد 2/508)
ثم أخيرا يفسر ما يقصده بالمحبة والبغض فيقول: إن ما يقصده بالمحبة والبغض إنما هي: “الدينية التي تكون إما من قبل الإخلال بهذه السنن، وإما من قبل سوء المعتقد في الشريعة”،
ومعنى كل هذا أن القارئ للكتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) سوف يجد أن ما أجمله ابن رشد في نهاية كتابه هذا، حاضر بقوة في كل باب، باب، خاصة ونحن نعلم أنه قد حدد لكل باب ما يناسبه من الفضائل: ففضيلة العدل تناسب الأموال والجنايات ، وفضيلة العفة تناسب المناكح والمطعم والمشرب، وفضيلة السخاء والبعد عن الرذيلة تناسب الزكاة والصدقات… بل سوف يجد أن للقاعدة الخلقية تأثيرا في تأويل بعض النصوص… (انظر كتابنا: إصلاح الفكر الديني حمن منظور ابن رشد ص 143)
وبعد، أليست الحداثة ضربا من تزكية العقل الذي أناط به الخالق جل جلاله عمارة الأرض، كما أناط به التكليف بجميع أبعاده، بحيث لو لم يقم الإنسان بتزكيته لن يكون هناك إسلام، ولن يكون هناك عمران. وأليس كتاب “مخاضات الحداثة” وغيره من كتب الأستاذ محمد سبيلا هي بحق ضرب من التزكية لهذا العقل “المؤسس لموضوعية الموضوعات”، وضرب من الامتثال لهذا الأمر الإلهي: ” قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ” من جهة، ثم لهذا المقصد العمراني الإلهي: ” هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا” (هود 61) من جهة أخرى.
وفي الأخير أرجو من الأستاذ الكريم أن يتدارك ما يمكن أن يوجد في هذه الورقة من كبائر، وبالأخص في القسم الذي له علاقة بالحداثة.
مع تحياتي وتقديراتي
(*) أستاذ مادة أصول
الفقه بجامعة سيدي
محمد بن عبد الله – فاس


الكاتب : n إدريس حمادي (*)

  

بتاريخ : 24/08/2021