الموجة والقمر

واحد منهما في السماء والآخر بعرض البحر، لكن الحديث بينهما وكأنهما صديقان مقربان لا يتوقف، حوار ليلي دائم سواء ماج البحر أو هدأ.. كل شيء كان يمر كما اختارته الطبيعة، لكل منهم ذبذباته في العباب.. الى أن غير حوار شيق، ذاك الذي دار بينهما في ليلة من ليالي همسات البرد القارس، طقس الليالي الطويلة الباردة..
ماإن اقترب الغروب حتى تمايل القمر وأطلت ابتسامته على ليل المدينة، يغير الاتجاه ويسير بخطى حثيثة ليقترب من الموجة ما لبث أن سألها: «كم من مهموم فرجت همه اليوم يا جميلة؟» لتجيبه الموجة وهي في أبهى حللها، مزينة بزبد البحر: «كثيرون يا عزيزي!من حضروا اليوم و في سريرتهم الكثير من البوح.. منهم من كتب على جسدي جرحه ومنهم من همس لي بسره .. كلمات نطقوا بها في لحظة سرقوها من الزمن أو لم ينطقوا بها و كتموها بحلقهم خيفة جرح الآخرين، كثيرون هم من زاروني يا قمرو، العاشق والخائن، الصادق والكاذب، الشارد والجريح، الكل اجتمع حول صوتي.. والذي اختفى بين طيات أنينهم، ولعل الشيء نفسه تعيشه يا صاحب الوجه البريء، أليس كذلك؟»..
«هو كذلك يا عزيزتي، فكم من حالم يسهر على ضوئي وينسى العالم ومن حوله، ليستفيض بالحديث ويتمنى أن يتوقف الزمن ليفعل كل ما بخاطره دون حسيب و لا رقيب..»
تجيب الموجة باندهاش: «أتعجب لأمر هؤلاء.. كيف يكتبون النهار ويعيشونه بالنثر، وينتهي بهم الليل بأحضان الشعر وأبياته، كيف يعقل أن تعيش حياتين داخل حياة واحدة؟..»، ضحك القمر وعلق مندهشا: «قد أكون أنا السبب المباشر، كلما أطل علي الليل إلا وانبجست صوري وأضاء نوري قلوب الحيارى، فلا يملكون الكلمات المباشرة.. يكتفون فقط بنبض القلوب وبعض من ألم يكتمونه عن الآخرين.. لعلها الطبيعة الإنسانية عزيزتي»..
ابتسمت الموجة للحظة، وبعد أن قلبت «شالها» للحظة على ذبذبات الرمل، رفعت رأسها ورمقت القمر بإمعان، ثم قالت: «هل تعلم أني أحيانا أهمس لك بالكلام ولا تجيبني أجدك مشغولا بالإنصات إليهم، أنت بعيد عنهم ويشرئبون بأعناقهم إليك.. أما أنا فيرمقونني بنظراتهم، ويتمسحون بأقدامهم وأحيانا تنصاع أجسادهم إلي ممرغة بلهيب الرغبة والحب..»..
التزم القمر الصمت للحظات معدودات ثم أجاب: «هناك من يريد كل شيء ولا يعلم أنه سيترك كل شيء، وهناك من يريد بعضه فقط شيئا جميلا في كنف الحياة، لكنه لا يستطيع الوصول إليه، وإليه أحيانا أمد ضوئي على اتساعه وأتقاسمه الحنين والوجع.. صدقيني لا أعرف الإجابة فكم أريد صراحة أن اسأل عن حال بعضهم والذين تاهوا، ولكن دعيني أخبرك أن هناك حالات ليست كغيرها.. تأتي لزيارتي في تمام صفاء إنعاسي فوق سطحك الدافئ، صادقة الكلام، واثقة الخطى، ومرفوعة الرأس، أو هكذا كانت قبل أن يجعلها العشق شاردة لا تفرق بين الشعر والصمت ولمسة الأيدي.. كم من مرة قلت ربما لن يشرق الصباح وسيزورني الأجل، وتنتهي قصتي ومازلت لنهايتها لم تكتب، ولكن سرعان ما تقبلني ورود الربيع وألوانها البراقة على خدي تسير، أنسى الموت و أتشبث بالحياة.. وأنت يا هائجة الطباع ألم تعيشي تجربة العصيان والثورة على الواقع باسم العشق؟»
ضحكت الموجة و أجابت: «الموت لا يأتي إلا بأجله، فأنا أعرفك وأعرف معدنك الطيب الأصيل، سأظل أحميك ولو من بعيد، و لن أرضى أن تترك العالم و تزيد في ظلامه السديم، و أما عن سؤالك، فكيف في نظرك للسمكة أن تترك محيطها، وكيف للدودة أن تعيش دودة و فراشة في نفس الوقت، أسبق لك أن سمعت عن بحر بلا ماء؟.. لكن، هو له القدرة على كل شيء حكايات نسجتها الأجساد بقربي، حكتها الألسن أمامي حتى شفاه الصمت سمعتها، وحينها يتغير كل شيء لا سمكة ترنو لمحيط ولا فراشة تسأل عن يعسوب، في لحظة فقط يتغير الليل أراك أنت تزهو في السماء منتشيا معهم.. وهم بجانبي يرقصون..»
ملأت قهقهات الموجة المكان، ثم واصلت الحديث.. «هو قدري أن أعيش العشق أن أنصت إليه والى نبضه.. في زياراتهم الليلية.. أحيانا أفرح قبلهم ومرات أداوي جروحهم، يتركونها خلفهم.. لا يلتفتون حتى وحين تتجمع أتركها للزمن وتمسي جروحي لعلها تذوب بين ماء عذب رغم ملحه الأجاج، غير أني أفكر دوما أنك هنا تحرسني حتى من نفسي،..» ابتسم القمر وظلل بنوره خد الموجة، انجلى الأمر كلمسة عاشق متيم، إلا أن تدخل الرمل وصاح بأعلى صوته:
«أنا هنا وكأنكم نسيتم عنصرا لا تكتمل قواعد اللعبة إلا به، أنا من يعيش الحياة كلها وفي نفس اليوم، أنا الذي يبكي، ويفرح، ويحزن، ويغني، وينجح، ويفشل، أنا الذي يؤنبه ضميره عندما تلسع حرارة حبيباته أقدام المحبين، أنا الذي أسقط تاجه بلحظة تيه ونسيان للزمن، أنا بئر الأسرار.. كل شيء ينتهي في «جبي» السري وعلى بساطي السحري يسمونها رمالي الذهبية، أنا الذي تركت أثرا مابين الجزيرة والمنحوتة، الى اليوم مازلت أبحث عن معنى العرق الذي تركته الأجساد هنا وهي تتمرغ طلبا للتطهر..».
أطل شعاع الفجر،عانقت الموجة فتات الصخرة، كان ضوء، سليل البياض، يضع على خدها قبلة يوم جديد..


الكاتب : صوفية الصافي 

  

بتاريخ : 20/09/2024