النص الروائي والنص الرحلي: أيّة علاقة؟

في رحاب الأدب، تتلاقى ينابيع الإبداع لتروي حكاياتٍ تلامس أرواحنا وتُثري عقولنا، ومن بين هذه الينابيع، يبرز كل من النصّ الروائي والنصّ الرحلي، حاملين رسالتين مختلفتين، يجمعهما خيط رفيع من التشابكات والتلاقيات. فالنصّ الروائي، بِخياله الخصب وأحداثه المُنسوجة من خيوط الإبداع، يُبحر بنا في عوالم مُتخيّلة، يمسك بِمشاعرنا ويُحرّك خيالاتنا، تاركاً لنا فسحةً للتأمل والتساؤل. بينما النصّ الرحلي، بِواقعيته المُلموسة وتجاربه المُعاشة، يأخذنا في جولةٍ عبر مساراتٍ حقيقية، يُعرّفنا على ثقافاتٍ جديدة ويُوسّع مداركنا عن العالم. وعلى الرغم من اختلاف أهدافهما وخصائصهما، إلا أنّ هذين النوعين يتقاطعان في العديد من النقاط. فالرواية، في رحلتها السردية، قد تستقي إلهامها من أحداثٍ واقعية، أو تُبحرُ بِشخصياتها عبر أماكنَ مُلموسة. كما أنّ النصّ الرحلي، في سعيه لِتوثيق تجاربه، قد يلجأ إلى أساليبَ سرديةٍ مُبتكرة تُضفي لمسةً إبداعيةً على روايته. وهذا التلاقح بين الخيال والحقيقة، بين المُتخيّل والمُعاش، يُثري المشهدَ الثقافيّ ويُنعش مخيلة القارئ. فهو يُتيح لنا فرصة الاستمتاع بِحكايةٍ مُشوّقة، بينما نكتسبُ في الوقت نفسه معرفةً جديدةً عن العالم ونُوسّع آفاق تفكيرنا. فكأنّ النصّ الروائي والنصّ الرحلي، في حوارهما المُثمر، يُقدّمان لنا رحلةً مُزدوجةً، رحلةً في عوالم الخيال المُتّسعة، ورحلةً في دروب الواقع المُتنوّعة. رحلةٌ تُثري عقولنا وتُنعش أرواحنا، وتُبقينا مُتشوّقين لِمُتابعة فصولها المُتتالية.
فماهي أوجه التشابه والاختلاف بين هذين النصين الإبداعيين؟ وماهي مظاهر التماهي بينهما؟ وماهي علاقة التأثير والتأثر التي تؤطرهما؟ تلكم بعض الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها ومقاربتها في هذه الورقة البحثية المتواضعة.

أوجه التشابه

أ- الحكاية: يعتمد كلّ من النصّ الروائي والنصّ الرحلي على سرد حكاية، سواء كانت حقيقية أو متخيّلة. ففي الرواية، ينسج الكاتب قصة خيالية لشخصياته، بينما يُقدّم الرحّالة سرداً لتجاربه الشخصية خلال رحلته.
ب- العنصر البشري: يُركّز كلّ من النوعين على العنصر البشري، سواء كان ذلك من خلال الشخصيات الروائية أو من خلال تفاعل الرحّالة مع مختلف الأشخاص خلال رحلته.
ج- الوصف: يلعب الوصف دورًا هامّاً فيكلّ من النصّ الروائي والنصّ الرحلي. ففي الرواية، يُوظّف الكاتب الوصف لخلق صورة حية للأحداث والشخصيات والأماكن، بينما يُستخدم الوصف في النصّ الرحلي لِتقديم صورة مُفصّلة عن الأماكن التي زارها الرحّالة والعادات والتقاليد التي لاحظها.
د- اللغة: تُستخدم اللغة في كلّ من النصّ الروائي والنصّ الرحلي للتعبير عن الأفكار والمشاعر. ففي الرواية، يُوظّف الكاتب مختلف الأساليب اللغوية لبناء عالمه الروائي وجذب القارئ، بينما تستخدم اللغة في النصّ الرحلي لِتقديم معلومات مُوثّقة ونقل تجارب الرحّالة للقارئ.

أوجه الاختلاف

أ- الهدف: يختلف الهدف الأساسيّ لكلّ نوع. فهدف الرواية هو خلق عالم خياليّ يُمتّع القارئ ويُثير مشاعره، بينما يهدف النصّ الرحلي إلى نقل معلومات مُوثّقة عن الأماكن والعادات والتقاليد، بالإضافة إلى مشاركة القارئ تجارب الرحّالة الشخصية.
ب- البنية: تختلف بنية كلّ نوع. ففي الرواية، يتمّ ترتيب الأحداث بشكلٍ مُتخيّل قد لا يتوافق مع التسلسل الزمنيّ، بينما يتمّ ترتيب الأحداث في النصّ الرحلي بشكلٍ زمنيّ مُتسلسل يُعبّر عن مسار رحلة الرحّالة.
ج- الصدق: تُصنّف الرواية كعملٍ خياليّ، بينما يُصنّف النصّ الرحلي كعملٍ واقعيّ. ففي الرواية، يتمتّع الكاتب بحرية واسعة في خلق شخصياته وأحداثه، بينما يلتزم الرحّالة في نصّه بالصدق والموضوعية في نقل المعلومات.

علاقة التأثير والتأثر

في ما يتعلق بتأثير النص الروائي على النص الرحلي، يمكن للمسافر أو كاتب الرحلة أن يجد في الأعمال الروائية مصدرًا للإلهام والأفكار التي يمكن دمجها في كتابته الرحلية. فقد يقتبس شخصيات أو مواقف أو حتى قصصًا بأكملها من الأدب الروائي ليثري بها رحلته، مما يضفي على تجربته السفرية بُعدًا إضافيًا من الغموض والتشويق، ويمكن أن يستوحي المسافر أو مبدع الرحلة تقنيات سردية مبتكرة من أساليب الكتابة في الروايات، مما يُضفي جاذبية وتشويقًا على تسجيل رحلته ويجعلها تجربة لا تُنسى.
وفي سياق التأثير الذي يمارسه النص الرحلي على النص الروائي، يمكن للكاتب الروائي أن يستخدم خبراته وتجاربه في السفر كمصدر غني للإلهام لكتابة رواية مشوقة، حيث يمكن أن تُشكّل التجارب الشخصية والمشاهد الواقعية التي عاشها في رحلاته أو سفرياته أحداثًا وشخصيات في الرواية. يمكن أن يدمج الكاتب عناصر واقعية من مغامراته السفرية في إطار خيالي، ما يضيف عمقًا وواقعية إلى أحداث الرواية، ويجعل القارئ يشعر بتجاوز الحدود بين الواقع والخيال.

علاقة التبادل والتفاعل

إضافة إلى التأثير والتأثر، نجد علاقة التبادل والتفاعل بين الرحلة والرواية، والتي تتجلى في العناصر التالية:
يكمل كل نوع من النصين الآخر بما يُقدمه، حيث يمثل النص الروائي عينًا ثاقبة على عالم العواطف والأفكار البشرية والأخيلة، بينما يرصد النص الرحلي بعمق وتفصيل عالمنا الخارجي، فمن خلال التقاطهما للجوانب المختلفة من الواقع، يتكاملان ليقدما رؤية شاملة ومتوازنة.
ويثري كل منهما الآخر بفتح آفاق جديدة لأن النص الروائي، بقدرته على إلهام الكاتب أو المسافر، يفتح آفاقًا جديدة لفهم العالم وتصوّره، حيث يمكن أن تحفز الشخصيات والأحداث الخيالية التفكير بطرق مبتكرة ومختلفة. بينما يمكن للنص الرحلي أن يُقدم للكاتب أو المسافر مصادر غنية من الأفكار والتجارب لتغذية خياله وتوجيه قصصه نحو آفاق غير متوقعة ومثيرة.
بهذا التفاعل المستمر يتداخل ويرتبط وينسجم النص الروائي والنص الرحلي، مابين تكامل وتعزيز، حيث يسهم كل منهما في إثراء الآخر وتوسيع آفاقه، مما ينعكس بشكل إيجابي على تجربة القارئ أو المتلقي ويُثري المشهد الأدبي بعامة والسردي بخاصة، بتنوعه وغناه.
وصفوة القول، إن العلاقة بين النص الروائي والنص الرحلي هي علاقة مركبة ومتعددة الأوجه، فكلاهما يتناول تجارب إنسانية، ويستكشف مشاعر وأفكار الكاتب أو المسافر، ويمكن لكل من النوعين أن يؤثر على الآخر، وأن يكمل الآخر وأن يثريه. كما يشكلان حالة من الترابط والتكامل، ويمنحان لبعضهما أبعادا جديدة، حيث إن الرواية تضفي لمسة من الخيال على النص الرحلي بينما هذا الأخير يعطيها لمسة واقعية. وهكذا إذن يشكلان معا نافذة مهمة يطل من خلالها القارئ والمتلقي على العالم ويتعرف على مختلف الثقافات.


الكاتب : حسن لمين

  

بتاريخ : 25/04/2024