النص وتلقّياته .. تأمّلات حول سؤال التأويل

يضعنا سؤال النص والتأويل بادئ ذي بدء، في صميم نظرية التلقي التي اشترعتها مدرسة كونسطانس الألمانية على يد رائديها هانز روبرت ياوس وفولفغانج إيزر، في أواخر الستينيات من القرن الفارط اللذين أدرجا المتلقي ومن منظور نظري ومنهجي تأسيسي كطرف فاعل في النص، أي كمنتج ثان له ماليء لبياضاته وفراغاته، وفاحص متأمل في استراتيجيته ومقاصده .
وحول النص وتأويله تواترت وتضافرت جهود باحثين آخرين من عيار غادامير وبول ريكور وأمبرتو إيكو في تشييد النسق النظري والمفاهيمي لسؤال التأويل .
كما يضعنا سؤال النص والتأويل عطفا، في صميم نقد النقد، أي نقد التلقيات والاستجابات المختلفة للنص، سواء من عموم المتلقين والقراء أو من خواصهم من النقاد والباحثين المشتغلين على النصوص، بما يعني أن ثمة تلقيين متقاطبين، تلقيا صامتا لدى عموم القراء وتلقيا صائتا لدى النقاد ودارسي النصوص الأدبية .
وليس في مُكنة هذه الكلمة ولا من قصدها تفصيل القول في مقام كهذا في البرنامج النظري لنظرية التلقي وخريطة طريقها مما كثرت حوله الدلاء في الآونة الأخيرة بعد أن استنفدت حرب المناهج في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الفارط مؤونتها وذخيرتها الحية، بل غايتنا الاهتداء بروح النظرية وبوصلتها في مقاربة النص .
والنص المعني في هذه الورقة النقدية، هو النص الشعري حصرا سؤالا موصولا وشغلا شاغلا لجمعية أصدقاء المعتمد، على مر مواسمها اليانعة .
والخصّيصة البدهية الملازمة للنص الشعري وبخاصة منه الحديث والحداثي، هي أنه يكْني ويلمّح أكثر مما يعني ويصرح، وفقا لطقوس المجاز الشعري أو الانزياح حسب المصطلح اللساني والأسلوبي الحديث، حيث الدال الشعري مُشرع ومنفتح على حقول دلالية فسيحة ومُتصا دية بحسب الخلفية – المرجعية التي يمتح منها النص استعاراته، خلافا للنص النثري المألوف الذي يطابق فيه الدال مدلوله .
هذه بدَهيات معروفة يحسُن التذكير بها ونحن نتأمل سؤال النص والتأويل .
ففي منطقة المجاز أو الانزياح الشعري تحديدا، يجد الغموض الشعري كلأه ومرعاه عن بيّنة شعرية أو ضلال شعري. وفي هذه المنطقة تحديدا وعطفا ، يجد التأويل الشعري مرتعه ومجاله الحيوي عن بينة تأويلية أيضا أو عن « تأويل مفرط « أو « فوضى تأويلية « حسب تعبير أمبرتو إيكو .
والغموض الشعري كما هو بادٍ للعيان ، أصبح بمثابة « التأشيرة « للدخول في أفق الحداثة الشعرية . وليس كل نص غامض يمتلك صفة ( النصّية ) أي الأدبية ، ويصبح من ثم مرتعا خصبا للتأويل .
إن النصوص الجيدة – الممتلئة وحدها تمتلك هذه القابلية . أما النصوص الهشة فيصدق فيها قول الشاعر:
مليئاتُ السنابل ينحنين تواضعا / والفارغات رؤوسهن شوامخ
وأعود هنا إلى السيميوطيقي التأويلي أمبرتو إيكو في مقاربة له بعنوان ( ملاحظات حول سيميائيات التلقي ) ، لأستقي منه الملاحظة التالية :
( وعلى الرغم من كون النصوص الأدبية يمكن أن تُؤول دلاليا ونقديا في الآن ذاته، فإن بعضها فقط مما تتحقق فيها الوظيفة الجمالية، هو الذي يسمح بتعايش وتداخل هذين النوعين من التأويل).معنى هذا أن النصوص التي تتحقق فيها شرائط ومعايير الأدبية هي القابلةُ والقمينة بالتأويل وإعمال النظر والفهم والتفسير .
وليست كل النصوص الشعرية التي تغمر المشهد الشعري العربي حائزة على أنصبتها الكافية من الأدبية والشعرية، بل قد يبدو العكس هو الغالب على هذه النصوص . ولعل غموض كثير من هذه النصوص وتهويمها المجازي، قناع لهشاشتها الشعرية والثقافية .
وأُعيذها نظراتٍ منك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
كما قال أبو الطيب .
مع موجات الانزياح الشعري الحديثة إذن وانقلاب الشعر على الشعر ، شطّ النص الشعري بعيدا في أفق التخييل والفانطاستيك حدّ التهويم والتعويم الدلاليين، مما شوّش على المتلقي سلاسة التلقي وأضحى تأويل الشعر بديلا عن فهمه وإدراك مقاصده ومراميه التي أمست دائرة في فلك (معنى المعنى) حسب تعبير القاضي الجرجاني والناقد الإنجليزي ريشاردز، علما بأن معظم شعراء الحداثة يرون رأي الشاعر الفرنسي فاليري بأنه ( لا يوجد معنى حقيقي للشعر)، وهذا ما فتح باب التأويل على مصراعيه وبلا ضابط أو رابط في الأغلب الأعم ، أمام التلقي النقدي للشعر، مما يعيدنا إلى قولة البحتري الشهيرة ( علينا أن نقول وعليكم أن تتأوّلوا )، أو إلى بيته اللاذع :
عليّ نحت القوافي من معادنها وما علي إذا لم تفهم البقر
كما يعيدنا إلى قولة أستاذه أبي تمام في رده على السائل ( لماذا لا تقول ما يفهم ؟ بقوله – لماذا لا تفهم ما يقال ؟) .
بما يعني حضور هاجس التأويل في الذاكرة العربية منذ بدأ الشعر يقدح زناد الغموض .
هكذا يكون النص الشعري الحداثي وبخاصة في تجلياته الأخيرة ، قد استكمل دائرة انزياحاته :
– انزياح عروضي
– انزياح لغوي – انزياح بلاغي – انزياح دلالي – معنوي – انزياح التزامي
وليس كل انزياح بالطبع، مؤسّسا على خبرة ودراية وإحاطة ووعي بالمنزاح عنه والمنزاح إليه .
وسبق لأحد رواد الشعر الحديث على المستوى العالمي وهو إيليوت، أن جهر بوصاته النقدية الثاقبة (قبل أن تخرق قاعدة، تعلم كيف تطبقها أولا) .
لا تستبطن هذه الملاحظات والتأملات النظرية أدنى نية للمُماحكة والاستفزاز، ولا تروم بتاتا همزا ولمزا للراهن الشعري ما بعد الحداثي وغضّا من قيمته ، فهو على غرار الشعر في كل زمان ومكان ، فيه الغثّ والسمين والجيد والرديء . بل هي أسئلة تناوش سؤال التأويل وتومئ إلى كثير من محاذيره ومطبّاته، بحيث أصبح كثير من القراءات والتلقيات التأويلية ، تحليقا في سديم الخيال وتحميلا للنص فوق ما يحتمل، أي « تأويلا مفرطا « أو « فوضى تأويلية « في مقابل « الفوضى الإبداعية «، حسب عبارات إيكو مرة أخرى .
ولعل سؤال التأويل هنا، يعيدنا بصيغة مجدّدة إلى أسئلة من قبيل:
سياق النص – مرجعية النص – مقصدية ورسالة النص – واقعية وتاريخية النص – لاشعور النص ..وهي الأسئلة الساخنة التي أزاحتها وهمّشتها المناهج البنيوية والشكلية واللسانية والأسلوبية التي رفعت شعار ( النص ولا شيء سوى النص ) .
والأهمّ من هذا، استعادة القارئ المتلقي كشريك وفاعل نصي، بعد أن كان حلقة شبه مفقودة أو هامشية غيرِ مُفكر فيها كفاية، في المناهج السابقة .
والتأويل بالمناسبة، هو مجموع نظريات ومناهج وأفكار متقاطعة في طريق مراودة النص والتجسس على مُضمراته وأسراره .
ويمكن اعتبار كثير من القراءات والأبحاث النقدية التي قاربت محطاتٍ وعلامات من المتن الشعري المغربي الحديث والمعاصر على امتداد العقود الأخيرة ، ذاتَ منحى تأويلي إلى هذا الحدّ أو ذاك وبوسائط نظرية ومنهجية ومُصطلحية مختلفة، حيث كان لباراديغم المناهج السوسيولوجية والماركسية والرؤية للعالم، بعضُ نفوذ ودالة .
وهنا أخلص، بعد هذه الملاحظات والتأملات النظرية المجتزأة حول سؤال التلقي والتأويل، لأقوم بإطلالة قرائية خاصة ومقارِنة على التجربة الشعرية الباذخة لشاعر الأجيال أحمد بنميمون ، باعتباري مجايلا للشاعر وقارئا مبكّرا له، وشاهدَ مرحلة .
كيف قرأتُ وأولت بنميمون في السبعينيات من قرن ولى ، وكيف يمكن قراءته وتأويله الآن في طلائع العقد الثالث من الألفية الثالثة ؟
سأكون مقتصدا ومحددا مراعاة لمقام التلقّي، وأحيل إلى أحد نصوصه المبكرة( تخطيطات تجريبية) من مجموعته الشعرية الرائدة (تخطيطات حديثة في هندسة الفقر ) . كما سأحيل راهنا إلى أحد نصوص مجموعته الشعرية المتميزة ( تأتي بقبض الجمر) الصادرة في 2012 .
أفتح كتابي الأول ( درجة الوعي في الكتابة ) الذي أصبح من قبيل العناوين النقدية الأثرية على نص ( اللحظة التاريخية والشعر ) ، وأقرأ لكم الفقرة التالية :
– ( إن هناك مستويين للفهم تجاه قصيدة ( تخطيطات تجريبية )، المستوى الأول مباشر وظاهراتي تفقد فيه اللغة الشعرية امتداداتها الرمزية والإيحائية البعيدة، وتنحصر ضمن دلالاتها وأبعادها التداولية والقريبة، وبالتالي تهرب اللحظة التاريخية من النص لتحل محلها لحظة ذاتية وخصوصية يصبح طرفا العلاقة فيها ، الشاعر والمرأة ككائن حسي مكتف بذاته. وحينئذ يدخل النص إلى عالم الرومانسية من باب واسع . والمستوى الثاني للفهم يتعامل مع النص كبنية ضمن بنية، فتغدو الإشارات والعلامات اللغوية رموزا نائية الدلالة ، ويغدو مفهوم النص الظاهري مجرد غشاء شفاف لمفهومه الباطني. مجرد لعبة ضمن الكتابة الشعرية. وهنا تحل اللحظة التاريخية في النص وتصبح اللحظة الغنائية مجرد حامل لمحمول .
– لعينيك جذع المياه ومقدمك النبع، عودي
ليرحل الظمأ القاتل ويشتعل الفرح الذابل
– فإن تبعدي دربك عني، فهذي دمائي تموج بفيض الثمر
بجسمك قُربي ومقدمك الارتواء / فكل الفصول بعيني غيوم
وكل السنين مطر . ) 1
ذاك تأويل أملته اللحظة التاريخية في السبعينيات، وهذا ضرب من التلقي الشعري آنئذ.
والسؤال: ما الفرق تُرى بين اللحظة التاريخية السبعينية للشاعر واللحظة التاريخية في طلائع الألفية الثالثة ؟ ماذا تغير بين الأمس واليوم؟
وبالتالي ما هو موقع وموقف الشاعر أحمد بنميمون الحالي من هذه الصيرورة التاريخية والشعرية ؟
من ضمن دواوينه الجديدة ، أعتمد في الإجابة كما ألمحت ديوانه (تأتي بقبض الجمر) .وهو من الدواوين الجيدة التي أنعشت مشهدنا الشعري الذي يتعرض لحالات جفاف شعري .
وفي قراءة أولية – مورفولوجية لهذا الديوان، سنلاحظ بأن الجمر بحقوله الدلالية والاستعارية يمثل إحدى التيمات الأساسية والمركزية في الديوان .
معنى هذا في التحليل أو التأويل الدلالي أن النار التي سكنت بنميمون منذ ديوانه الرائد (تخطيطات حديثة في هندسة الفقر) ومسرحيته الشعرية الباسلة (نار تحت الجلد) ما زالت تسكن كلمات الشاعر لم يخبُ لها ضرام ، وأن جمر السبعينيات ما فتئ يتلظّىّ في وجدانه وذاكرته .وماذا تُرى تغيّر وتطورمنذ تلك الأيام الساخنة إلى هذه الأيام الرمادية العجاف ، حتى يغيرَ الشاعر ما بنفسه ؟
وتأمل خريطة المشهد حواليك ، ليرتد إليك البصر خاسئا وهو حسير .
وحسبنا تصفح بعضِ عناوين النصوص وهي كلمات مفاتيح، لاستشفاف المناخ الشعري لهذا الديوان، وهي عناوين تندرج في قسمين . الأول تحت عنوان (حدائق السراب) ، والثاني تحت عنوان ( تأتي بقبض الجمر) .
وهذه أمثلة منها :
– لغة ضائعة – سيف الحياد – جثة أو طلقة –بضع دقائق حرب – من حصاد العقم والبهاء – سؤال الجمر – سؤال الرماد – سؤال الغضب – سؤال السراب – سؤال الخراب –سؤال الانتماء ..
ومن نص (سؤال الجمر) الذي يهديه الشاعر إلى رفيقه ومجايله عبد الله راجع والمنسج على منوال التدوير وتفعيلتي مستفعلن ومتفاعلن ، أسوق الفقرة التالية :
– ( إني لأمخرُ موج ويْلات وفي صدري ثبات الملحِفين على ارتياد ٍ
باعثا بإشارة الأقمار فيما جئتُه نورا وفتحا في جهادي
حتى نرى جيلا تدافع حولنا منّا تألق مُعلنا بدءَ الشروق
أمضي ولكن الخطى بالغدر ترتطم فماذا يقدر الشعراء
إني باعث حجرا والطفل في صدري توهّج ثائرا فأرا
ك عبد الله إمّا تنجلِ الأستارتحضر حاملا قمرا لمّا يدنسْ
إنه ضوء جديد
من يديك انداح وانتشر أيا زهرة الشعراء هاج الجمر واستعرَا
من خبأوا أقمارنا أمسِ انثنوا ليحاصروا البستان حتى ينهبوا الثمرا
فلتنطلق كلما تناشروا سيفا تراق عليه أيد تسرق القمرا ) 2
كل هذه العلامات والشفرات والرموز الشعرية تُوحي وكأنّ اللحظة التاريخية التي اكتنفت نص (تخطيطات تجريبية) ونظائره، لا تزال سارية المفعول في نسخة جديدة منقحة ومزيدة إلى نص (سؤال الجمر) ونظائره. كأن عنقاء بنميمون الشعرية ما تنفكّ عن الاحتراق والولادة، وكأن المراحل الطوال التي أعقبت السبعينيات آتية على الدوام بقبض الجمر ، وقبض الريح .
لقد اختلفت سيمياء الوقت وعلاماته وإيقاعاته، لكن الباراديغم التاريخي ظل يُعاود ثباته واستمراره وعناده وطنيا وعربيا،عقبة كؤودا أمام الربيع العربي المنشود وبشكل أقسى وأنكى ممّا كان عليه .
ورب يوم بكيت منه فلما / صرت في غيره بكيتُ عليه
هذا هو التأويل الذي تقودنا إليه استعارات أحمد بنميمون، أو بالأحرى هذا هو تأويلي أو تلقي الخاص لاستعارات الشاعر، ولكل تأويله وتلقّيه .

إحالات:
1 – نجيب العوفي / درجة الوعي في الكتابة . ط 1 .1980 . دار النشر المغربية – الدار
البيضاء . ص 177
2 – أحمد بنميمون / تأتي بقبض الجمر . ط 1 . 2012 . مطبعة إيمبريما مدري . تطوان ص 83 – 84