الإشارات نظام مميز لا مكان فيه لما هو خاطئ وما هو صحيح. فالكلمة تدعم بعضها، والسواد يتكئ على البياض، والألوان تتشابك، ليس لفائدة الشك، بل لفائدة يقين ما. لا مكان للتوهمات والتخيلات، وليس للكلمة في هذه «الإشارات» معايير تحدد استعمالاتها المعقولة. فاللغة ليست لعبة لقول الحقائق [حتى لو كانت متخيلة]، ولا يمكن التعامل معها كصيغة تجريبية للقول، كما أنها ليست موقفا شعريا!
الإشارات مستثناة من حركة جريان المجاز، ولا يمكنها أن تكون عرضة للتأويل، كما ليس بالإمكان وضعها محل شك أو افتحاص؛ فهي مما يملك «العارفُ»، أي مجال محفوظ له. ألا يوحي «مقام الإشارة»، وهو عنوان الكتاب [المنجزة] (لابيرفورمانس) التي يقترحها علينا عبد الله بلعباس، بسياق تصوفي؟ فالمقام، لدى الصوفية مرتبة من المراتب التي يطرقها السالك نحو السر الإلهي (إدراك المعاني الخفية). بينما الإشارة رمز لا يدرك جوهره إلا الخاصة المحاصرين بصفاء الرؤية.
يقول الجنيد البغدادي: «طريقنا فيه إشارات لا يعرفها إلا أهلها.»
وذكر أبو القاسم القُشَيري، في رسالته، أن «أهل الحقيقة يتكلمون بلغة الإشارة التي لا يدركها إلا من ذاقها».
ويرى ابن عربي أن كل ظاهر يحجب باطنًا، وأن كل نص له تأويل إشاري. يقول: «في الظلمة كنوزٌ للنور لا يدركها إلا من امتلك قلبًا يرى بلا عيون.»
أما السهروردي، فيرى أن «الإشارات لا تُقال، بل تُرى ويُلمح بها، وتدل على النور: أول ما يُشرق في قلب العارف عند بداية الاتصال بعالم الأنوار.»
الإشارات زمن آخر. زمن سائل بالمعنى الذي أورده لودفيغ فتغنشتاين في كتابه: «في اليقين» حين قابل بين مياه النهر وقاع النهر. الحركة غير منقطعة بين المياه والقاع. المياه تتدفق والقاع يتحول والمجرى يتلقى تغييرات دائمة ولا مرئية، رغم أن صورة الزمن/ النهر/ قلب العارف واحدة.
الإشارات يقين أعمى. هذا عنوان «الفكرة الأصيلة» للديوان. لا شيء فوق ما لا نحتاجُ إلى مسوغ للاقتناع به. ذلك ما نجده، أيضا في رسوم الكتاب التي تبرهن على أن السواد «لون كامل»، كما يقول ميشيل باستورو. اللون الأسود هو حقيقة الألوان لأنه يقع قبلها. هل هو حقيقة العدم؟ هل هو المرآة غير المجلوة. إنه ليس لون «الشر» كما يقول اللاهوتيون، وليس «لونا مميتا»، كما يقر الرهبان البنيدكتينيون الذين احتضنوه وكرّموه.
إن الأسود في «مقام الإشارة» ليس مجرد غياب للنور، بل هو حجاب بين العبد وربه. عندما يُخاطب المتصوف الله، تكون الظلمة مرحلة أولى لفهم الذات والتجرد من كل صور التعلق المادية. فهو يرمز للسر الذي لا يُدرك إلا بتجربة العبور المباشرة. هو لون اللاوعي والغامض، حيث تجتمع كل طاقات الروح في حالة صفاء وتأمل وتجلٍّ. هو حالة روحية تتجاوز كل الأشكال والصفات، مرحلة الصفاء التي تسبق النور والوعي الكامل. رمز للغيبوبة الروحية والسكينة العميقة التي تسبق حالة الاتحاد مع الحق.
السواد [هل هو سواد خالص؟] في «مقام الإشارة» حالة من التبادل الروحي مع اللغة التي ليست جسداً ثابتاً. كما أن الأشكال نظام جسدي يبدو أنه لا يعرف وجهته خارج اللغة وصيرورتها وتحولها. يقول عبد الله بلعباس:
«اليد تبني،
العين تحرس،
اللغة تستأجر..»
لا ندري إن كانت اللغة، في هذه الشذرة، تَستأجر [ماذا؟] أم تُستأجر، أي هل هي فاعل أم نائب فاعل، غير أن اللغة نفسها تبقى مجرد وجهة نظرٍ تخلق الكثير من الحقائق المتعدِّدة الوجوه والأشكال. إنها مثل اليد: تبني المعنى، ومثل العين: تحرسه، ومثل الأدوات: لا تملك نفسها بل تستعمل ضمن شبكات ثقافية جاهزة.
إن اللغة، هنا، موجودة مثل حياتنا، بعيدا عن مشاكل «المجاز» الزائفة، كأن الإشارة دفاعُ اليائسِ، لأنه لا يترك المعنى للقارئ، بل تتحول الإشارة لديه إلى تشوير نحو اتجاه مكشوف وواضح. لا هامش، ولا توضيح: حكمة؟ استنتاج؟ تأمل؟
كل إشارات بلعباس (61 شذرة و61 رسما) تقول لنا دون أن تساورها الشكوك:
[انظر عن قرب،
انظر إلى العبارة،
انظر إلى نفيها،
لا تستخدم الأثاث على نجو سيء كي لا تتعثر به،
لا تقل أنا أعرف،
انظر فقط عن قرب،
انظر بانتباه،
ما تعرفه
ما جعلوك تعرفه
هراء دون معنى]
المعنى لا يوجد دائما في مكانه الصحيح، لأن «العادة» تفتقر كثيرا إلى الإبصار، وليس لها أي وضع ملائم خارج اليقين، كأن الإشارات تبوح لنا بسر ما:
«كنت أعتقد أنني كنت أعرف، لكني عرفت الآن، وأريدكم أن تعرفوا ما أعرفه».
لا يمكن أن نخطئ نبرة اليقين التي نتعثر بها، مرارا وتكرارا، في هذا إشارات/ شذرات هذا الكتاب. لا يتعلق الأمر بأي اكتشاف طارئ، ولا بأي إغراء شعري، ولا بأي صيد سماوي، ولا بأي تهافت فلسفي. مجرد تأكيداتٍ ليقين ما، أشبهَ بالوصايا والتعليمات. نقدٌ موجه ضد صورة ما. ضد الصورة العامة التي توهمنا بأنها التعبير الموثوق بشكل قاطع عن حالة ما.
الإشارات دحض لأي احتمال للخطأ. يقين أعمى يواجه يقينا آخر عاما. ركوب على الدليل الذي يفضي إلى إنهاء “حدوث الخطأ”.
يقول بلعباس:
«نصف الطريق
خطوك
نصفها الثاني
أخطاؤك».
اليقين في هذه الشذرة «لا يكون نتيجة برهان، بل هو ممارسة»، كما يقول فتغنشتاين. تصبح «أخطاؤك» ليست شيئًا عارضًا بل جزءًا بنيويًا من الطريق. «إنك لا تشك في الطريق حين تمشي، لأنك تفترض أن خطوك يحملك. لكن ماذا لو كانت أخطاؤك تحملك أيضًا؟».
هذه الشذرة مثلا لا تدّعي تمثيل الواقع كما تفعل العبارات العلمية، لكنها تعمل داخل «لعبة لغوية» تخلق المعنى بالصمت والتكرار والتأمل. لا تصف الواقع، بل تكشف عن حدود ما يمكن التفكير فيه، بإحداث زلزال لغوي أو وجودي.
اللغة تقول لنا:
[هذه حياتي،
وهذا ما أقوم به،
هكذا أتصرف،
ماذا أقول أكثر من ذلك؟].
يقول بلعباس أيضا:
«لن تخسر شيئا،
أنت فقط
تفقد ما راكمته».
لا وجود للخسارة، كأن الاضطراب يأتي من السؤال الذي لا ضرورة له. الشك هو الجزء الدراماتيكي في الحياة، والوصول إلى المعنى [النور] لا يتم إلا بهدم اليقينيات المتجذرة [الزائفة]. فما نملكه لا يُملك. «أنا لا أسأل ما إذا كان لي جسد. أنا فقط أعيش به»، يقول فتغنشتاين.
لا شيء يسمح بالشك في هذا الكتاب. كل الأشياء توجد على نحو مطلق، ولا تتغير إلا بمقدار ما تفعله مياه النهر في قاع النهر، أو ما يفعله سائل القهوة [أو أي مادة أخرى عرضية] بالأشكال المائية التي تترابط في نظام واحد يتصل بمقام الإشارة، إذ يستخدم بلعباس رسوماته [الأسود وتدرجاته] في سياقات تأملية من أجل إحداث الأثر الوجودي أو التحولي المطلق، دون أي نزوع انعكاسي مع الشذرات. الأسود هو حالة «الاحتجاب» عن الوجود الظاهري. العدم الذي يحتضن كل شيء». الغطاء الذي يحجب نور الحقائق الإلهية. الصمت التام والخلوة مع الله، حيث يتحقق الإخلاص والصفاء الروحي.
هنا لا بد من نطرح السؤال: هل يبني بلعباس باستعمال الأسود طريقة إشارية للقول لماذا هذا التأكيد اللوني؟ هل يمكن أن نسند إليه يقينا ما؟ هل يمكن أن نشك في نظام أدلته، خاصة أنه يحضر بصيغ مختلفة عند فنانين عالميين كبار، أمثال غوزافو سوبريغو الذي يستخدم اللون الأسود ليبرز التوتر بين الظلام والنور، ويخلق مشاهد تشبه الكون الغامض واللاوعي البشري؛ وتشارلز نيومان الذي يستخدم الأسود مع عناصر هندسية دقيقة، ليعبر عن التباين بين الشكل والفراغ؛ وأد رينهاردت الذي يستعمل الأسود لخلق حالة من «النقاء الفني»، بعيدًا عن التشويش البصري، وتحويل اللون الأسود إلى تجربة بصرية تأملية؛ وكازيميررماليفيتش الذي يعتمد فقط على الأسود الكامل؛ وجوزيف ألبرز الذي اشتغل على دراسة الألوان لكن أيضًا على تأثيرات تدرجات الأسود والرمادي في سلسلة أعماله «التفاعل اللوني»؛ وروبرت روشنبرغ الذي استخدم الأبيض والأسود فقط، ووظف التباين الشديد لتوصيل رسائل فنية؛ وفرانك ستيلا الذي اعتمد على تدرجات الأسود مع أشكال هندسية صارمة، ليبرز العلاقة بين الشكل والفراغ؛ وأنيس سراج كبور الذي يستخدم اللون الأسود لخلق إحساس باللا نهاية والفراغ المملوء بالغموض، ما دام الأسود عنده ليس مجرد لون، بل فضاءً يستوعب النور والظل والعمق اللامحدود.
يقول بلعباس:
«اسمك،
أنت محموله،
عنوان مؤقت»
بينما يقول فتغنشتاين:
«لا يوجد جوهرٌ ثابتٌ خلف الاسم؛ الاسمُ مجردُ وظيفةٍ في لعبةٍ لغويةٍ».
الاسم، إذن، ليس إلا أداة، اتفاق، علامة مؤقتة، وليس هناك «هوية ثابتة» تُبنى على اسم.
ختاما، يمكن القول إن بعض القناعات ليست ناتجة عن تفكير أو دليل، بل تُفهم وتُمارس كجزء من شكل حياة. هذا هو الإطار الذي يجعل التفكير ممكنًا. هذا هو التشوير: هجران الأحكام الأساسية، أي وضعها خارج المسار الثقافي، لفائدة «ما حدث وما سيحدث» أو لفائدة ما يسميه فتغنشتاين «حياة السنجاب»..