تستحضر مدينة مكناس ومعها الشعب المغربي، في الثاني من شتنبر من كل سنة، ذكرى انتفاضة ماء بوفكران أو ما يعرف بـ»معركة الماء لحلو» التي اندلعت سنة 1937، باعتبارها محطة مفصلية في مسار النضال الوطني ضد نظام الحماية الفرنسية. لقد جسدت تلك الانتفاضة أول مواجهة حضرية كبرى مع المستعمر حول مورد حيوي هو الماء، وأكدت أن المقاومة لم تتوقف رغم محاولات فرنسا القضاء عليها بعد 1934.
اندلعت الأحداث في فاتح وثاني شتنبر 1937 على خلفية قرار استعماري يقضي بتحويل جزء من مياه وادي بوفكران لفائدة المعمرين الفرنسيين والضيعات الزراعية والمرافق العسكرية بالمدينة الجديدة. القرار الذي صدر بمرسوم وزاري بتاريخ 12 نونبر 1936، ونُشر في الجريدة الرسمية عدد 1268 بتاريخ 12 أبريل 1937، نص على توزيع مياه الوادي بين المستوطنين وسكان مكناس، وأحدث لجنة للتنفيذ في 12 فبراير 1937. غير أن التطبيق الفعلي أسفر عن تقليص صبيب المياه الموجه للأحياء الشعبية والمدينة القديمة، في وقت كانت فيه الحاجة إلى الماء متزايدة.
هذا القرار جاء في سياق اجتماعي صعب تميز بالأزمة الاقتصادية، وفرض ضرائب مجحفة على السكان، وتهجير أعداد منهم من المدينة العتيقة نحو المدينة الجديدة لتمكين المعمرين من الاستيلاء على الأراضي الخصبة المحيطة بالعاصمة الإسماعيلية. ووجد الوطنيون المكناسيون، الذين كانوا على اتصال بالحركة الوطنية في فاس ومدن أخرى، في أزمة الماء فرصة لتأطير تذمر السكان وتعبئتهم ضد السياسة الاستعمارية. فتم تشكيل «لجنة الدفاع عن ماء بوفكران» وتقديم العرائض والاحتجاجات السلمية، لكن السلطات الفرنسية تمادت في تعنتها.
في مطلع شتنبر 1937 انفجرت المواجهة. خرجت حشود من ساكنة مكناس نحو وادي بوفكران للتعبير عن رفضها لحرمانها من مصدر عيشها. تطورت الاحتجاجات إلى صدام مباشر مع القوات الاستعمارية، التي واجهت المتظاهرين بقوة السلاح. فكانت معركة ضارية سقط خلالها شهداء وجرحى، وأبان فيها المواطنون عن استعداد للتضحية دفاعا عن حقهم في الماء وعن كرامتهم. لقد فاجأ رد فعل السكان سلطات الحماية التي لم تكن تتوقع أن يبلغ الوعي السياسي والنضالي هذا المستوى من التنظيم والتعبئة.
مثلت انتفاضة ماء بوفكران تحولا في أسلوب مقاومة الاستعمار، إذ انتقلت المعركة من الجبال والبوادي إلى قلب المدن، ومن العمل المسلح المتفرق إلى الجمع بين النضال السياسي والاحتجاج الشعبي. وهو ما جعلها تمهيدا لمراحل لاحقة من الحركة الوطنية، سواء في مواجهة ما عرف بالظهير البربري، أو في المساهمة في تعبئة الشارع المغربي وصولا إلى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944.
وقد أولى الملك الراحل الحسن الثاني أهمية خاصة لهذه المحطة حين استحضرها خلال زيارته للمنطقة يوم 27 يوليوز 1992 قائلا: «قضية بوفكران: بوفكران وما أدراك ما بوفكران، لأنني لما فتحت عيني في الثامنة من عمري وقعت واقعة بوفكران، واستشهد فيها الرجال والنساء… حيا الله شهداء بوفكران، وحيا الله الناس الذين ضحوا بكل غال ونفيس في سبيل الحفاظ على مائهم».
ذاكرة مكناس النضالية لا تقف عند أحداث بوفكران، بل تمتد إلى بداية الاحتلال سنة 1911، حين واجهت قبائل بني مطير وكروان وعرب سايس القوات الفرنسية بقيادة الجنرال مواني، كما تواصلت في مراحل متعددة من الحركة الوطنية والمقاومة المسلحة. غير أن انتفاضة 1937 تظل علامة فارقة لأنها ربطت بين الدفاع عن مورد أساسي وبين بروز وعي جماعي منظم في الحواضر.
وبمناسبة الذكرى الثامنة والثمانين لهذه الانتفاضة، تنظم المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير يوم الاثنين 8 شتنبر 2025، ابتداء من الساعة الرابعة عصرا، بقاعة الاجتماعات بملحقة عمالة مكناس، مهرجانا خطابيا وندوة فكرية تحت عنوان: «أحداث بوفكران، وثائق وذاكرة وامتدادات». ويتضمن البرنامج كلمات وشهادات وعروضا بحثية تسلط الضوء على هذه المحطة التاريخية وما تختزنه من دروس، بحضور السلطات المحلية والمنتخبين ونشطاء المجتمع المدني وأفراد أسرة المقاومة. كما سيجري تكريم عدد من قدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير وتوزيع إعانات اجتماعية ومالية لفائدة المنتمين لهذه الفئة.
إحياء ذكرى بوفكران اليوم لا يقتصر على تخليد حدث تاريخي مضى، بل يحمل دلالات حاضرة في ترسيخ قيم التضحية والوفاء، وتعزيز الروح الوطنية لدى الناشئة والأجيال الجديدة. وهو تذكير أيضا بأن الدفاع عن الحقوق الأساسية، ومنها الحق في الموارد الطبيعية، كان جزءا لا يتجزأ من معركة التحرر الوطني، وأن صون هذه القيم يبقى أساسيا في مواصلة مسيرة بناء المغرب الحديث في ظل الوحدة الوطنية والترابية.
انتفاضة ماء بوفكران في ذكراها 88:حين تحولت أزمة الماء إلى مواجهة مفتوحة مع سلطات الحماية

بتاريخ : 01/09/2025