رواية الاحتفاء بالوجدان واللامرئي
بعد روايته الأولى: «رفيف الفصول» التي نال بها جائزة المغرب للكتاب سنة 2007، أصدر الروائي محمد المعزوز السنة الماضية رواية بعنوان «بأي ذنب رحلت؟» (2018)، وهي الرواية الثانية في تجربته السردية. إحدى عشر سنة هي المدة الفاصلة بين الروايتين، وقد يبدو هذا الإيقاع في الكتابة للوهلة الأولى بطيئا، غير أن قراءة الرواية الثانية قراءة فاحصة، تلتقطالخصائص الفنية والجمالية التي تحفل بها، والنفس الروائي الذي يصدر عنه الكاتب، يبرز لنا أن هذا الاختيار ينطوي على إمكانية أخرى: أن المعزوز آثر أن يشيد تجربته الروائية بترو وعمق، من خلال نصروائي متعدد، يحتفي بالسياسة والذاكرة والفن والفلسفة والميتافيزيقا، والبحث عن المجهول.هو نص روائي متوتر ومدهش، يتأبّى عن الاختزال في مقولات محددة أو تصنيفات جاهزة. ومن هذه الزاوية يلتقي الكاتب في هذه التجربة بالعديد من المبدعين الذين لا ينشغلون بهاجس الكم، بقدر ما يوثرون الحرص الشديد على الكتابة بحرفية وفن، وإنتاج أعمال جيدة تنطوي على فرادة واختلاف على مستويي الشكل والخطاب. ولعل في وصول هذه الرواية إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر وهي واحدة من أهم جوائز الرواية في العالم العربي، ما يقدم دليلا إضافيا على أننا بإزاء كاتب يصرّ في هذا النص على ارتياد أفق سردي جديد، يكتسب فيه النثر الواقعي إيقاعا مميزا من خلال أسلوب حاد، ومضبوط، وعلى درجة عالية من الفنية، والاستغلال الكثيف لطاقات وإمكانات اللغة. وبما أن الكاتب، كما يرى الروائي السوداني أمير تاج السر، حين يكتب، فهو يضع شيئا منه في النص، حتى ولو لم يكن ذلك صراحة1، فإن اهتمام المعزوز بالجماليات والفلسفة والأنثربولوجياهو ما جعله قريبا، من خلال صوت السارد، من المعضلة التي تواجهها شخصيات روايته: معضلة القيم، والزمن، والموت، والحياة، ودور الفن في مواجهة الارتداد واللاجدوى.
من هنا نعتبر أن رواية «بأي ذنب رحلت؟»لا تجسّد فقط تجربة مهمة في حاضر الرواية المغربية المعاصرة التي تنفتح على أسئلة وانشغالات شديدة التعقيد والعمق، وإنما تذكرنا أيضا بمجموعة من الأعمال الروائية التي شكل ظهورها لحظة مفصلية في التطورالذي حققته الرواية العربية،بدءا بنصوص جبران خليل جبران، وصولا إلى أعمالمن قبيل «رامة والتنين» و»الزمن الآخر» للكاتب المصري إدوارد الخراط، و»الزمن الموحش»و»وليمة لأعشاب البحر» للكاتب السوري حيدر حيدر. ولا أعني من هذه المقارنة أن الرواية تستفيد من هذه الأعمال الفنية أو أنها تعيد إنتاج الإشكاليات التي طرحت فيها، وإنما أريد أن أشدد على المفهوم المختلف للرواية، ولطرائق تشييدها الذي يجترحه المعزوز بين ثنايا نصه، والذي ينتهل عناصره من ذلك السؤال الوجودي العميق الذي يتمنع على السبر، ولا يمكن للروائي أن يخترق مجهولاته إلا إذا تمكن من أدوات السرد، واشتغل على اللغة اشتغالا كثيفا ومختلفا، بما أن الأدب هو عمل على اللغة. وعلى هذا الأساس يبدو لنا محمد المعزوز في هذاالنص متمكنا من أدواته السردية واللغوية، وعلى اطلاع واسع بالأعمال الأدبية والفلسفية الكبرى، وبالتجارب الروائية العالمية التي وسعت مفهوم الرواية، وأعادت لها قيمتها ككتابة منتجة للمعرفة، وملتصقة بأنفاس الفرد في عصر تتعمق فيه القطيعة بين الإنسان العالم.
بناء مفتوح وشخصيات قلقة
يأتي السرد في رواية «بأي ذنب رحلت؟» من خلال ضمير الغائب. وإذا كان هذا الأسلوب الفني يتعين بوصفه تقليدا راسخا في الرواية العالمية، خاصة الرواية الواقعية، فإن التحويرات التي طاولت أشكال الرواية ومضامينها، والمنعطفات التي شهدتها عبر مسيرتها التاريخية، قد فتحت أمام الروائيين منافذ إلى رؤى جديدة في تشييد عوالم الرواية بشكل يحرر النصّ من سيطرة الصوت الواحد، وتحكّمه في أنفاس الشخصيات،وحركتها في العالم المتخيل. ومن المؤكد أن الأولوية التي يمحضها السارد للعالم الداخلي للشخصيات على العالم الخارجي،هو شكل من أشكال عديدة تبرز تخلص هذه الرواية من الطرائق المألوفة في السرد، إذ تلتقي في ذلك بالنصوص الروائية الجيدة التي تبلور عالما روائيا ينضح بالدلالات والمعاني المتنافرة التي تشخص الحوارية الاجتماعية، وتستكشف الإيمان العميق لدى الكائن بوجود تلك النقطة التي تنتفي عندها الحدود بين الموت والحياة، الوجود والعدم، اللذة والألم. من هنا، نعتقد أن ما يَلفتُ النظر في هذه الرواية هو ذلك الاهتمام الذي يبديه كاتبها نحو طرائق السرد وأساليبه الفنية، ويتجلى هذا من خلال الحرص على بناء عالم روائي مفتوح لا يشدّ انتباه المتلقي من خلال تواتر الأحداث وتناميها على النحو الذي نجده في السرد التقليدي، بل من خلالاستكشاف المناطق الداجية في ذات الفرد، وتعميق التداخل بين الأزمنة، وفي هذا السياق ينهض التذكر بدور أساس ونافذ في تجذير الشخصيات في ماضيها، وربطها باللحظات القوية المؤثرة في حاضرها، ليس فقط من حيث وجودها الفردي، وإنما كذلك لجهة وجودها الجماعي، وما يطاله من تبدلات وتغيرات متسارعة. فالانحدار نحو الهاوية الذي يطبع الحاضر، بفعل أفول المعنى، ووطأة الأنساق التقليدية المغلقة التي تخنق أنفاس الفرد، ونزوعه إلى الحرية، لا يترك للشخصيات من هوامش المقاومة سوى الاحتماء بالذاكرة، واستيحاء اللحظات المشعّة التي تلقي بما تبقى من ضوء «وسط سطوة الغبش وقهر السقوط». (الرواية، ص314).
تتحرك في عالم الرواية مجموعة من الشخصيات التي تتميز بالاختلاف في المواقف والسلوك، وهي كلها تنتمي إلى النخبة المغربية المثقفة، وتعكس توزع وانشطار وجهات نظرها حيال ما يعيشه المغرب الراهن من تحولات وتبدلات عميقة تلقي بظلالها على الأحلام التي راودت المغاربة بعد الاستقلال والمتمثلة أساسا في الحرية والعدالة الاجتماعية، والإخفاق في تكريس مجتمع الحداثة الذي ينقل البلد إلى وضع أفضل. ومن الواضح أن الرواية تستبطن هذه الدلالة ابتداء من عنوانها الذي يحيل على النص القرآني في سورة التكوير: (إذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت). ومن هذا التناص تستدعي الرواية الرموز والإشارات الفلسفية، الصوفية والأنثربولوجية المجسّدة لضياع الإنسان، وإحساسه بالاغتراب واللاجدوى في عالم تتعمّق فيه الشروخ والفجوات بسبب فشو النزعات المتمركزة، والهويات المتصلبة، والسرديات النهائية. لكأن المعزوز يجعل من الكتابة الروائية في زمن انجلاء الأوهام ذلك الترياق المضاد للتنميط والاختزالية، والذي يدفع الإنسان إلى استكشاف المطلق في داخله، والسعي لمعرفة ما يجهله.
من بين الشخصيات الفاعلة في عالم الرواية نجد رؤوفا، وهو سياسي يمثل أنموذجا للانتهازية والوصولية المقيتة. إيمانه الشديد بتأويل مضلل لمقولة «الغاية تبرر الوسيلة»طبع نظرته للناس بالنفعية الصارخة. ما يهمه هو تحقيق أهدافه الخاصة ولو على حساب الوطن. وفي مقابل القيم المضادة التي تكثفها شخصية رؤوف، نجد شخصيات أخرى تلتقي على مستوى الوعي الحاد بمشاكل الكائن الداخلية، والإيمان بالقوة العلاجية للفن، وبقدرته على تمكين الفرد من مقاومة المؤسسات الخانقة، والتصدي لأشكال الابتذال الذي يلف وجوده بالأوهام والتصورات الخاطئة. في هذا السياق، نجد خالدا المثقف العضوي والمناضل الذي يسكنه هاجس البحث عن عالم مختلف ينضح بالقيم الإنسانية وبمعاني العيش المشترك.بعد نضاله في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ومشاركاته في أحداث ومظاهرات مفصلية في تاريخ المغرب الحديث، يصاب بالإحباط بعدما أبصر أن القيم التي دافع عنها لم يعد لها من مسوغ في منظورات السياسيين الجدد الباحثين عن تحقيق المكاسب والمنافع الخاصة. يذكرنا خالد بالبطل الإشكالي الذي تحدث عنه الفيلسوف جورج لوكاش، واعتبره بطلا يبحث عن قيم نبيلة في عالم منحط. وما يثير الانتباه في شخصية خالد هو مثاليته المجردة أو رومانسيتهالتي وقفت حاجزا أمام إدراكه العالم في شساعته وتعقده. يتجلى ذلك،على سبيل المثال،في الإيمان المطلق بالقضية الفلسطينية لدرجة أنه خير زوجته راحيل بين الامتثال لإرادته في بيع اللوحة الفنية التي ورثتها عن والدتها المنتحرة التي لم تترك لها سوى رسالة عن الحزن والفقد والضياع أو وضع حدّ للعلاقة بينهما. لم يستوعب خالد أن علاقة راحيل باللوحة هي أعقد وأعمق بكثير من أن تختزل في تأويل ضيق لموقف غير مناصر للقضية الفلسطينية. لقد كان وعيه أضيق من أن يستوعب الموقف الوجودي،أوذلك التماهي العصي عن السبر بين راحيل واللوحة الفنية، وهي كل ما تبقى لها من أم لم تعرفها وتجهل ملامحها. وهذا ما سيدركه في نهاية الرواية عندما حضر الحفل الموسيقي الذي أحيته راحيل، وماتت خلاله وهي في ذروة العزف، والارتقاء نحو عوالم المجهول.
بالإضافة إلى خالد، تبدو جيهان شخصية محورية في الرواية. فهي كاتبة ومثقفة تصرّ على الاختلاف والتميز ولا تريد أن تكون أية امرأة. تمتلك رغبة قوية في التغيير والقطع مع الرداءة.لذلك استطاعت أن تعيد النظر في تصوراتها وقناعاتها السابقة بعدما اكتشفت حقيقة رؤوف. وفي هذا السياق، تشكل علاقة الحب التي جمعتها بخالد حافزا أساسيا للبحث عن القيم الإيجابية التي تحمي كينونة الإنسان من الضياع والزوال. ولعل اهتمامها بالكتابة وشغفها بالبحث في سير المثقفين والمبدعين الذين انتحروا، ومن بينهم الفنانة راشيل، يجعل منها صوت المثقفة الشابة المتطلعة إلى الحرية والتغيير، وإلى رؤية مجتمعها على غير ما هو عليه في الحاضر. وما نلاحظه هو أن حضور المرأة في هذه الرواية يكتسي طابعا مميزا من خلال شخصيات أخرى تنضح برامجها السردية بأنماط الفعل الكاشفة لسعي الإنسان إلى تجاوز نفسه في إطار ما هو إنساني. ولا شك أن راحيل عازفة البيانو والكاتبة المبدعة هي مثال حي على هذه الرؤية. فقد جعلت من الفن جسرا للبحث عن الخلاص للبشرية من أعطاب زمن منذور للهاوية. راحيل هي زوجة خالد، وقد انفصلا بسبب لوحة فنية لتعيش حياتها وحيدة منعزلة تحمل رسالة والدتها عن الشقاء والحياة والموت، دون أن يموت فيها ذلك اليقين بالوجدان. لقاؤها بوليد عازف البيانو، المهووس بشوبان والذي قدم يده اليسرى قُربانا للموسيقى ولدورها في بلورة حس إنساني مشترك، أيقظ فيها جذوة الفن التي انطفأت منذ افتراقها عن خالد، وقررت أن تهدي له البيانو الذي يجسّد دمها وأنفاسها، وفي ذهنها صورة الفنانة «أنجليكاكاتالاني» لما أهدت ساعة ذهبية لشوبان مذهولة بألحانه وبما يصنعه من أجل الإنسانية.(الرواية، ص 104)
لا شك أن حياة راحيل تمثل عالما مكتفيا بذاته. خاصة عندما نضع سيرتها في سياق التجربة الوجودية التي عاشتها راشيل والدتها، وكذلك في سياق تجربة عبد لله بائع الخبز، وهو والدها المجهول بالنسبة لها، الذي لم تجد فيه الفيلسوف المتفرد بانشغاله وأفكاره حول الإنسان والعالم وحسب، بل كذلك صاحب اللوحة اللغز التي تحاصرها وتذكرها باللوحة التي ورثتها عن والدتها المنتحرة. ومن المؤكد أن اختيار الروائي بناء مفتوحا يسمح بالانتقال إلى أكثر من موضوع هو الذي أتاح له الانفتاح على شخصيات أخرى تمثل مرايا كاشفة للشخصيات الأساسية السابقة، مثل وليد عازف البيانو، ويحيى الطالب الذي عشقته راحيل قبل زواجها، وعائشة التي تكفلت براحيل قبل أن تسلمها لدار الأيتام بعدما أحست بأن الموت يداهمها. بالإضافة إلى زينب التي تكفلت بتربية راحيل في دار الأيتام، ولقنتها الأسرار ومبادئ الموسيقى والغناء، كما زرعت فيها مقت السياسة وحبّ الإنشاد والخلوة الصوفية. وليست معزوفات راحيل في الرواية سوى مكان لتجليات تلك المعرفة الرؤياوية أو ذلك السر الذي يتعذر على الانكشاف والاكتناه.
يمكن القول إنما يجمع بين هذه الشخصيات، خاصة خالد وراشيل وراحيل وعبد لله وجيهان ووليد، هو الرؤية السوريالية التي تقطع كليا مع الأشياء القائمة، وتحل محلها أشياء أخرى أكثر فعالية وجدوى، بحيث ترتسم حدودها في الحبّ الذي لا تتعين حقيقته في إرضاء الحواس فقط، كما ترتسم في داخل الكائن حيث تنتفي الفواصل بين الحلم والحقيقة، الموت والحياة، الوجود والعدم، الأنا والآخر. من هنا نلفي الشخصيات في مواجهتها وطأة الزمن وترقبها لصفعته في الطريق الذي تسلكه، تعبّر عن الحاجة الماسة إلى الوجدان لقهر الرتابة واللامعنى. وهذا ما يدفعنا إلى اعتبار رواية «بأي ذنب رحلت؟» رواية الوجدان، والحلم، واللاوعي،وهو ما يفسّره الحضور القوي للحوار الداخلي والاستبطان.
الفن مقاومةً وسبراً للمجهول
لعل ما نلاحظه من خلال مصائر الشخصيات وتجاربها وعلاقاتها، هو أن الروائي اختار خاتمة مفتوحة لروايته، يؤثثها الموت المفجع لراحيل وهي على الخشبة وفي ذروة الزمن الفني، من دون أن تلمس ذلك الخيط الذي يشدها إلى أصولها، سواء لجهة والدتها الفنانة راشيل أو لجهة والدها عبد لله المثقف المشدود إلى الفلسفة والموسيقى. هذه النهاية المفتوحة، تجعل من الصعب حصر دلالة «بأي ذنب رحلت» في موضوع واحد، لأن بناءها السردي متعدد الشخصيات والزوايا والمنظورات، وتركيبها القائم على التشظي والتجاور بين المحكيات، لا يفسح المجال فقط أمام تعدد التيمات وتنوعها، بل يجعل دلالة الرواية مفتوحة على تأويلات مختلفة، لانهائية. لنقل إن هذه البنية المرنة، المتشظية تعدّ من أهم ميزات هذاالنص الروائي،لأنها تتيح للقارء إمكانات متعددة لمحاورة الرواية، وتقصّي أبعاد ودلالات محكياتها.
في هذا السياق، نعتقد أن اللوحة الفنية تمثل نقطة الارتكاز التي ينمو حولها السرد الروائي، وتتشابك عبرها مصائر الشخصيات.فمن ألوانها وخطوطها،واللغز الذي يسكن فضاءها ويدثرها باللامرئي،تتناسل بسخاء الرموز والإشاراتالتي ترغم التأويل على أن يتحرّك باتجاه الحدود القصوى. إن قوة اللغز لا تتمثل فقط في كونه غير متاح للرؤية، وإنما أيضا في انفلاته الدائم من ضوء البصيرة2. وهذا الانفلات هو الذي يتيح للوحة الفنية الخلود واللامحدودية في الزمن.بهذا المعنى، نعتبر أن اللوحة الفنية هي الحقيقة المطلقة التي أدركتها راشيل عندما قررت أن تضع حدا لحياتها، فعهدت بها إلى زوجها عبد لله الفيلسوف كي يستجمع من خطوطها وألوانها ذلك الغياب الذي يظل دائما في حاجة إلى الكشف. كما أنها تمثل بداية اللقاء الملغز بين راحيل وعبد لله والدها حيث تتكشف خيوط المجهول الذي يلفهما. وهي، أي اللوحة،التي أشرعت الباب واسعا أمام عبد لله كي يلتقط بخلفيته الفلسفية ذلك اللامرئي الذي يجمع بين راحيل وراشيل من دون أن يجد له وصفا أو تعبيرا، بل ظل يعيشه، مثل الصوفي، كتجربة لا يدرك جوهرها بالوصف،وإنما بالحال والممارسة. من هنا كان الإنسان يتحدد في مفهوم عبد لله بالمشي. «فالإنسان موجود ليس لأنه يحيا وإنما لأنه يمشي». (الرواية، ص138).بهذا المعنى، لا تتعين اللوحة بوصفها فنا فضائيا وحسب، وإنما هي كذلك فن زمني، غير مفصول عن الكتابة3.هكذا تأخذ المقالة التي كتبها عبد لله عن لوحة راشيل دلالاتها على ذلك المجهول الذي سيقود جيهان إلى تعقب آثار نشأتها والبحث في أرشيف دار الأيتام عن أوراق نسبها، وبهذا البحث كذلك تنفتح الطريق التي تقود خالدا إلى البدايات أو الجوهر العميق للأشياء حيث تمّحي الفواصل المعطلة للبراءة الأصلية. وفي هذا المناخ يتولد وعي جديد.
إن ما يكتسي أهمية كبيرة في منظورنا هو أن اللوحة الفنية تفتح مجالا واسعا كي يسبر الروائي الحاضر الموجع لشخصياته، وهي تبحث عن منفذ إلى مسارات جديدة تسمح لها بإنتاج المعنى، والإصرار على الصمود ومواجهة التسلط والتغول. وتتضح هذه اللعبة الفنيةمن خلال ملفوظات الشخصيات، وأصواتها الملتصقة برحلتها التراجيدية،مما يفتح كوى أمام السرد لاستدعاء الذاكرة، والمقارنة بين الحاضر والماضي.وهذا ما يوفّر على مستوى التلقي مجالا مهمالتلمس تلك القوة التكلمية التي تنطوي عليها الرواية في نقدها لراهن المجتمع المغربي، ولضروب المجهول الذي يلف نخبته في زمن يكتسيه الظلام، ويعمه الشعور بالخوف. ورغم الكآبة التي تلقي بغيومها في سماء الشخصيات، فإن رواية المعزوز تتعين بوصفها رواية الأمل والمقاومة، والإيمان بقدرة الإنسان على التحرر من القيود الذي تختزل كينونته، وتلغي إنسانيته. ولعل علاقة جيهان بخالد، وفي انتفاضة راحيل ضدّ النسيان والفشل والانسياق وراء الفراغ، واستعادة الثقة في الذات والإيمان بدور الموسيقى في تصحيح المسار، وابتداع المعاني التي تستعصي على الموت والزوال، ما يؤشر على ولادة جديدة، وعلى وعي مختلف يستعصي على التدجين والاحتواء.
من المؤكد أن ملفوظات الشخصيات حول الكتابة والموسيقى والفن والحياة، خاصة ملفوظات خالد وجيهان وراحيل ووليد، تمثل بالنسبة للكاتب إمكانية لاستدعاء أحداث وشخصيات من عالم الأديان والأساطير البعيدة:كونفوشيوس، فينوس، وآشيل، وهومير، وإيزيس، وكذلك من عالم الأدب والفن: أندري مالرو، وخليل حاوي، وفريجينيا وولف، وسيلفيا بلات، بالإضافة إلى نصوص المتصوفة، وشيوخ فن الغناء في شرق المغرب. وعليه،فالتقاء الرواية بهذه الشخصيات المختلفةمن عالم الفن والأدب والسياسة عن طريق التناص،يؤكد على تشابه التيمات والموضوعات «الوجودية المميزة لجوهر الكينونة البشرية التي لا تحدها محدودية الزمان والمكان والبيئة المحلية4». ورغم أن أحداث هذه الرواية تدور في فضاء مدينة وجدة، وتلامس الواقع السياسي في المغرب، وترصد أعطابه المزمنة منذ التناوب، كما تشدد على أننا اليوم نواجه عالما تسكنه القيم المضادة لما حلم به المغاربة منذ الاستقلال، قيم المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية، وقيم الجمال وحب الحياة التي تستحق العيش، فإن الرواية تلتقي على مستوى رؤى الشخصيات وأحلامها وأسئلتها الوجودية بالمرجعيات الثقافية الأساسية ذات القيمة المطلقة في كل الثقافات والآداب رغم تعدد اللغات واختلافها. ومن هذه الزاوية تكتسب الرموز الدالة على الموت والنهاية والغياب والإحساس بالاقتلاع، كطائر الحسون الذي فقد عشّه، دلالات قوية على كونية الأفكار التي يستدعيها الكاتب من مخزون تجاربه وخبراته، ومن قراءاته المختلفة للآداب العالمية، إنها بمثابة مفاتيح أساسية لكل قراءة تطمح لأن يكون حوارها، مع الرواية، منتجا وماتعا.
على سبيل التركيب
استطاع محمد المعزوز في «بأي ذنب رحلت؟» أن ينسج في بناء سردي محكم عالما روائيا متخيلا ينضحُ بالحبّ والفن، والإيمان بالحياة بشكل مختلف. ومن هذه الزاوية تتعين الرواية بوصفها رواية الاحتفاء بالرومانسية والهامشية والتمرد على الخداع والزيف، كما أنها رواية الوجدان الذي يستعيد به الكائن توازنه الذي اختل في عالم تستوطنه الأنساق المغلقة والأحكام الجاهزة.وبهذا المعنى تردّ الرواية من خلال الفن والفلسفة والأدب والموسيقى، كوسائط توحد الشخصيات المتخيلة بينها وبين الحياة مهتدية بالمتصوفة وشيوخ الغناء والفنانين والمفكرين العظام، تردّ على نخب سياسية مشدودة إلى ما هو سطحي وضيق، وتحتج على التردي الذي يأخذ البلد نحو المجهول، وهو ينزاح عن ذلك الأفق المختلف الذي شخصت إليه أنظار المغاربة بعد الاستقلال، غير أن ألوانه انطفأت على أكف سياسيي اليوم المشدودين إلى المصالح والأهداف الضيقة. ومن الواضح أن اهتمام الرواية من خلال شخصياتها بالفن، وإبحارها في عالم الموسيقى، لا يعكس فقط مفهوما عن الرواية بوصفها كتابة عابرة للأنواع كما حددها إدوارد الخراط، وإنما يستجيب أيضا لأفق انتظار لدى الشخصيات، يتمثل في كون الفن سرّ الوجود، وهو القادر على تجديد الحياة، وإيقاظ الطاقة الكامنة في أعماق الإنسان. ولا شك أن المنزلة الأنطلوجية التي تحتلها الموسيقى عند شخصيات الرواية، تمثل، من منظور التناص،نقطة تفاعل خصب بين الروائي والرؤية الجبرانية التي تنيط «بالموسيقى وظيفة أنطلوجية تقوم على ملكة الرؤيا والكشف، إذ إنها توحي أسرارا غريبة، أكثر روعة من تلك التي في «كتب الأولين». ألا تخول المرء أن يرى بعين سمعه، وتولجه عالم الحكمة الإلهية. إنها السبيل الأمثل لبلوغ المعرفة بمفهومها السامي، أي معرفة وعاطفة في آن واحد، ولذلك فإنها تصدر عن القلب»5.بهذا المعنى يكتسب النص الروائي قوته من الشكل الفني الذي يبلوره، ومن المعرفة التي يستبطنها، والحضور في العالم لا حضورا مجرّدا، وإنما ذلك الحضور المكتنز بالمعاني والدلالات التي لا حدود لها.
الهوامش:
(Endnotes)
1 – أمين تاج السر: تحت ظلّ الكتابة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت2016.
2 – Eliane Chiron, L’Enigme du visible, Poïétique des arts visuels, Publications de la Sorbonne, Paris 2013.
3 – من الدراسات المهمة التي تناولت موضوع الرواية والرسم، دراسة الباحث التونسي مصطفى بوقطف بعنوان: الرواية والرسم من خلال نماذج روائية لإدوارد الخراط، دار كنوز، الأردن 2019.
4 – أنظر مقدمة الترجمة العربية التي أنجزتها الكاتبة لطيفة الدليمي لكتاب: روبرت إيغلسون، الرواية المعاصرة، مقدمة قصيرة جدا، دار المدى، دمشق 2017، ص12.
5 – بطرس الحلاق: جبران حداثة عربية: ذات تتكون وأدب يتجدد، ترجمة إياس حسن- جمالشحيد، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2013، ص406.