اختتمت بمركز الندوات والتكوينات التابع لجامعة الأخوين، بإفران فعاليات النسخة الخامسة من الندوة الدولية لربيع العلوم الاجتماعية، والمنظمة من طرف جامعة الأخوين إفران، وكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس الرباط، ومركز ابن خلدون لدراسات الهجرة والمواطنة، والمركز الدولي للعلوم الاجتماعية، بشراكة مع المعهد الألماني للدراسات الشرقية ببيروت – لبنان، وجامعة بادوفا بإيطاليا، والمركز العربي الألماني ببرلين.
وقد عرفت هذه الدورة التي تمحورت حول موضوع راهني وهو: «الديني والهجرة والنوع الاجتماعي: حركيات وتقاطعات وسرديات»، مشاركة فاعلة للعديد من الباحثات والباحثين من حقول السوسيولوجيا، والأنثروبولوجيا، والتاريخ، وعلم النفس، والفلسفة، والآداب، واللغات، من المغرب وخارجه.
تناولت الدكتورة وفاء بوكروش: باحثة في السوسيولوجيا، خلال اللقاء العلمي موضوع الهجرة النسائية السرية من المغرب إلى إسبانيا: تحليل سوسيولوجي من زواية النوع ،حيت اعتبرت أن بروز مشاركة النساء في الهجرة غير النظامية، لا سيما في السياق المغربي، يطرح أسئلة جديدة حول موقع المرأة داخل النسق الاجتماعي، والدوافع العميقة التي تحوّل فعل الهجرة من مجرد قرار اقتصادي إلى تعبير احتجاجي رمزي، مستحضرة أحداث مدينة الفنيدق الذي شكلت نموذجًا لافتًا لفهم هذه التحولات. حيث شهدت حركات هجرة جماعية شاركت فيها شابات بشكل لافت، في مشهد يختزل هشاشة الواقع الاجتماعي والاقتصادي، وتآكل الروابط التقليدية التي كانت تُوفر الحد الأدنى من الاستقرار». وأشارت بوكروش الى أن هذه الدراسة هي مساءلة ظاهرة الهجرة السرية من زاوية النوع الاجتماعي، لفهم دلالات الحضور النسائي فيها، وتحليل أبعادها السوسيولوجية الرمزية والسياسية، من خلال نموذج الفنيدق».
وفاء بوكروش أوضحت أن التحليل من منظور النوع يُظهر أن الهجرة النسائية ليست فعلاً فرديًا فحسب، بل تعبير عن تراكُم شعور جماعي بالإقصاء والتهميش. إنها فعل رمزي يُعلن من خلاله الجسد الأنثوي رفضه للبنية الثقافية والاجتماعية التي تقيّده وتُقصيه من فضاء الفعل والمشاركة».لكن مع إغلاق معبر باب سبتة تضيف بوكروش ، تلاشت مصادر الدخل فجأة دون بدائل. وقد ترك هذا التحول أثرًا بالغًا على النساء، باعتبارهن الفاعل الاقتصادي الأبرز في نشاط التهريب. وبغياب أي سياسة إنقاذ أو بديل تنموي حقيقي، وجدت آلاف النساء أنفسهن في وضعية اقتصادية واجتماعية صادمة، ما دفع بعضهن إلى التفكير في الهجرة، ليس كخيار عقلاني مدروس، بل كاستجابة قصوى لشعور عميق بالخسارة والخذلان» .
بوكروش وصفت مدينة الفنيدق بـ»مختبر اجتماعي للهشاشة النسائية»، حيث تلتقي فيه البطالة، انعدام الأفق، التفكك الأسري، والضغط المجتمعي. الهجرة هنا لم تعد فعلاً فرديًا فقط، بل تحوّلت إلى رد فعل جماعي، يعبّر عن فشل النموذج التنموي المحلي، وعجز المؤسسات عن مواكبة تحولات المجتمع، خاصة حين يتعلق الأمر بالنساء».
بوكروش تحدثت عن أسباب أخرى تدفع بالنساء إلى الهجرة، من ذلك ضغط اجتماعي مركب يتمثل في تحميل الفتاة مسؤولية تحسين وضع الأسرة، وإثبات قيمتها في مجتمع لا يعترف بها إلا إذا كانت منتجة أو متزوجة. هذا الضغط، المصحوب برغبة شخصية في التحرر، يتغذى من صور الحياة في «الضفة الأخرى»، التي يتم تداولها عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل، ما يخلق تناقضًا بين الواقع المرير والحلم المعولم، ويقوي منطق الهروب».
و توقفت الدكتورة بوكرش عند السوشيال ميديا معتبرة أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت اليوم فاعلًا سوسيولوجيًا حقيقيًا في تشكيل الوعي بالهجرة. لم تعد هذه المنصات مجرد وسيلة لنقل المعلومات، بل تحولت إلى فضاء إنتاج رمزي لرغبات الجماعة. تساهم الصور، الفيديوهات، والتعليقات في بناء ما يُعرف بثقافة الهجرة الرقمية، حيث يتم تقديم الهجرة كخلاص فردي و»بطولي»، يُضفي على الفعل الهجروي طابعًا شرعيًا وشعبيًا، خاصة في ظل الغياب شبه التام للرواية الرسمية أو الخطاب الإعلامي النقدي» .
وبالنسبة لبوكروش فإن الرد الرسمي على موجات الهجرة النسائية من الفنيدق ظل محصورا في المقاربة الأمنية، دون مساءلة حقيقية للدوافع الاجتماعية. لم يُفتح نقاش عمومي حول الحدث، ولم تُستدعَ أصوات فاعلة من المجتمع المدني أو التحليل السوسيولوجي، ما يُعبّر عن تجاهلٍ رمزي لرسالة الهجرة، ولقيمة الجسد الذي عبّر عن ألمه بالصمت والمجازفة»..
وخلصت الباحثة في علم السوسيولوجيا الى أن الهجرة النسائية السرية من المغرب إلى إسبانيا، كما تكشفها حالة الفنيدق، ليست مجرد نتيجة لفقر اقتصادي، بل انعكاسا لفقر رمزي، وغياب مشروع اجتماعي عادل يحتضن النساء. إنها فعل احتجاجي صامت، لكنه قوي، تُمارسه المرأة عبر جسدها، وعبر قرارها بالانفصال عن واقع لا يعترف بكرامتها ولا بمكانتها».
السوسيولوجي عبد الرحيم العطري أشاد في مداخلته بأهمية الدورة لما تطرحه من أفاق جديدة من المفاهيم التي تتشابك فيها الهويات، والسلطات الرمزية، والرهانات الجماعية والسياسية.وأضاف العطري أنه ليس من قبيل المصادفة أن تلتقي هذه المفاهيم الثلاثة في دورة واحدة، فهي مفاتيح ضرورية لفهم التحولات المجتمعية المعاصرة، بل إنها مرآة تعكس تعقيدات الواقع الذي تتداخل فيه أزمات المعنى، واختبارات العيش المشترك، وصراعات التأويل:.
و أوضح العطري أن الهويات لم تعد مقولات ثابتة، بل أصبحت قيد التفاوض الدائم، بفعل تسارع الحركيات البشرية، وتزايد هشاشة الأطر الجماعية، في سياق عالمي يتسم بتنامي الخطابات الشعبوية، وتصاعد النزعات الانغلاقية، وتزايد النزوح الجماعي الناتج عن الأزمات المناخية، والاقتصادية، والسياسية».
ذات المتحدث اعتبر أن هذه القضايا الثلاث، وأكثر من أي وقت مضى، في صلب رهانات معرفية وأخلاقية تستوجب تفكيكاً معمقاً، ومقاربة متعددة الأبعاد. وفي قلب هذا المشهد الدولي المعقّد، تبرز المملكة المغربية كحالة خاصة تُلهم الباحثين وصناع القرار على السواء» .
فالمغرب، بفضل الرؤية الملكية السامية ، يقول العطري، ظل وفياً لثقافة الانفتاح والاعتراف بالاختلاف، وللتعدد الثقافي والديني، وللعمل من أجل تعزيز السلم الاجتماعي، والعدالة المجالية، والتماسك الوطني. وقد شكّل هذا التعدد المغربي، العرقي والديني واللغوي، تربة خصبة لإنتاج خطاب حضاري متجذّر، يتصالح فيه التراث مع العصر، والتدين مع حقوق الإنسان، والهوية مع الكونية»، مؤكدا في ختام مداخلته أن الفهم الحقيقي لا يتحقق إلا حين نصغي بإمعان إلى السرديات المختلفة للآخرين».
هذا و تهدف هذه التظاهرة الكبرى، التي حضرها باحثون في العلوم الاجتماعية من مختلف المؤسسات الجامعية من داخل المغرب وخارجه، إلى خلق فضاءات للنقاش والتناظر الفكري بشأن الدين والتدين، والديناميات الهجروية بصيغة المؤنث، وتعبيراتها السوسيوثقافية، وامتداداتها، وتداعياتها النفسية والاقتصادية والمجالية، وتحديدًا في سياق المخاطر واللايقين.
للإشارة فقد نظم حفل تكريم لعضو أكاديمية المملكة المغربية، وأستاذ الاقتصاد والعلوم الاجتماعية، الأستاذ الدكتور إدريس الكراوي، و لعضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والرئيس المؤسس لجمعية الشعلة للتربية والثقافة، الأستاذ الدكتور عبد المقصود راشدي، وذلك خلال الجلسة الختامية لهذه الدورة الخامسة من ربيع العلوم الاجتماعية، احتفاءً بمسارهما الأكاديمي والمهني والإنساني المشرق، واعترافًا بحرصهما الدائم على إغناء الساحة العلمية والمدنية، بمزيد من الأعمال المشهود لها بالتميز والأصالة.