للا حديث اليوم إلا عن الماء، فهو سر استمرار الحياة، ومحور كل تفاصيل العيش. هذه المادة التي تعامل مع استعمالها الخاص والعام، في وقت من الأوقات، بسخاء كبير لا حدود له وبدون ترشيد، اقتناعا بأنها ستظل تجري على سطح الأرض وفي باطنها دون توقف، وبأن السماء لن «تبخل» علينا يوما بالتساقطات المطرية والثلجية؛ علما بأن معدّلاتها ارتباطا بالموقع الجغرافي للمغرب تظل متوسطة؛ وبأن المناخ سيظل على وضعه ولن يعرف تقلّبات أو تأثيرات، لكن الأمور ومع توالي السنين بدأت تتغير، ولم نعد نعيش أجواء الأيام المطرية كما اعتادت على ذلك أجيال سابقة، حين كانت المياه تنزل من السماء بدون انقطاع ليلا ونهارا وتمتد لأسابيع في فترات سابقة، وأصبحنا اليوم نمر من فترة إجهاد مائي ترخي بتبعاتها على يوميات المغاربة ولياليهم.
مياه، حرص المرحوم الملك الحسن الثاني على أن يتم صونها وتحصينها وعدم تضييعها، فقرر بناء السدود أواخر ستينيات القرن الماضي، لبلوغ هدف سقي مليون هكتار، وللحفاظ على ما توفر من ماء في بلادنا، ولتشكيل احتياطي يواجه به المغرب مختلف الأزمات التي قد تقع بسبب الجفاف، وهو ما خفّف من وقعها عددا من الفترات، وأمّن استمرار تزويد الجميع بالماء الصالح للشرب والكافي للسقي من أجل مختلف الزراعات، ذات البعد المعاشي، بفضل ما تم تشييده من سدود، خاصة خلال سنتي 1985 و 1986.
ترشيد تأتّى بفضل حكمة وتبصر عميقين، لكن عددا من الممارسات ستؤدي إلى هدر وتقويض ما تم التأسيس له من خلال ممارسات، فردية وجماعية، وسياسات قطعت مع ما اعتاده المغرب فلاحيا، التي لم تعد وبكل أسف بالنفع على اقتصاد المغرب، بالانجرار نحو زراعات أدت إلى الإضرار بالرصيد المائي، من خلال فواكه وخضراوات غنية بهذه المادة التي كان يتم تصديرها على حساب أولويات زراعية كالحبوب، التي بات المغرب يستورد كميات جدّ مهمة منها لسدّ احتياجاته، وليسدد لأجلها ومقابلا لها أكثر مما كان يحصّله من مداخيل وارداته الفلاحية؟
مياه، استبيحت خلال كل السنوات الفارطة وتم إهمال بعض مصادرها، فهذه عيون في الدارالبيضاء نموذجا، في البرنوصي وعين الذئاب و»سندباد» تضخ المياه النقيّة بدون توقف، دون أن تتدخل جهة ما لسنوات طويلة، لوقف هذا الهدر المائي، ولم يتم التحرك في هذا الإطار إلا قبل أيام بعد طول عتاب. وحين الحديث عن العاصمة الاقتصادية يستحضر سكانها كيف أن «وديانا» تجري تحتها، وهو ما كانت توضحه أشغال بناء عدد من الإقامات والمرافق في مختلف تراب المدينة، التي حين كان يتم حفر أساساتها كانت المياه تطفو على السطح وتخرج إلى الخارج بكميات جد ضخمة لأيام، بل وحتى لشهور، بدون استثمار؟
استباحة، تعددت أشكالها وصورها، في المدن والبوادي، ومن بين عناوينها التوجه للتأسيس لفلاحة ليست ابنة بيئتها، بالاعتماد على حفر الأثقاب والآبار بشكل عشوائي وعلى عمق جدّ كبير، لاستغلال ذلك المخزون الغني في «زراعات» لا يستفيد منها إلا المعنيون بها، ولملء المسابح، وسقي الملاعب الخاصة، ولاستثمارها في صناعات تُطرح أكثر من علامة استفهام حول كلفتها قبل جدواها، سواء المتعلقة بالمجال «الغذائي» أو غيرها، في الوقت الذي كانت فئات تتكبد المشاق وتقطع الكيلومترات بحثا عن ماء للشرب، لها ولماشيتها، وللحياة بشكل عام!
مشاق، سيتبين على أن رقعتها ستتسع وبأن حدّتها ستزداد بمرور الأيام، بسبب الاستنزاف المتواصل الذي أدى إلى شحّ مائي، بات يتطلب اتخاذ تدابير جد مستعجلة لتدارك تأخير كان من الممكن هو الآخر تفاديه، من خلال التوجه السريع بشكل أكبر نحو حلول أخرى تتمثل في معالجة واسعة للمياه العادمة، وفي تحلية ماء البحر، وفي اعتماد تقنيات أخرى متطورة للحصول على الماء. حلول إلى جانب الطريق السيّار المائي الذي كان خطوة مهمة لتفادي العطش في مدن كالدارالبيضاء نموذجا، كان من الممكن أن تغنينا عن وضعية التقشف التي أعلنت عنها مصالح الإدارة الترابية ودعت، تحت طائلة الجزاءات، إلى تبنيها واعتمادها، علما أن من بينها إجراءات لها العديد من التبعات، وتحتاج إلى إعادة النظر والعقلنة، حتى يتم توجيه جهود الحفاظ على الماء نحو هدفها الصحيح ولا تظل طريقها؟
إن الحفاظ على الماء وتوفير كل السبل الممكنة والمتاحة للرفع من مخزونه، وهو الذي سنّت التشريعات لأجل حمايته وعدم المساس به، يعتبر من بين الأولويات الأساسية من أجل استمرار العيش ولتحقيق سيادة مائية، تضمن الاكتفاء وتفادي كل عجز وخصاص، وتحول دون السقوط في العطش بمختلف صوره وأبعاده، وهو ما يتطلّب اليوم وأكثر من وقت مضى، وفي ظل هذه الأزمة غير المسبوقة؛ قياسا على ما سبق وبناء على عدد سكان المغرب؛ تعبئة مجتمعية لكي يتعامل الكلّ، أفرادا ومؤسسات، مع الماء كثروة وطنية يجب حمايتها والحفاظ عليها والوقوف في وجه كل أشكال الهدر التي قد يتعرض لها، مهما كانت صيغها، لأن الأمر يتعلق بأمن مائي لايجب المساس به.
بالصدى : تعبئة مجتمعية من أجل سيادة مائية
الكاتب : وحيد مبارك
بتاريخ : 08/02/2024