بجرة قلم : مقايضة

 

 

الموت…
تلك الكلمة التي تحمل بين حروفها أعمق المعاني وأقساها؛
تلك الحروف التي تتكتل وتترابط لتضع نقطة النهاية؛
وتلك النهاية الحتمية للحياة والبداية المقدرة للوجع…
كتب محمود درويش وهو يطلب من الموت أن ينتظره وأن يكون صبورا:
«أَيُّها الموتُ انتظرني خارج الأرض
انتظرني في بلادِكَ ..
ريثما أُنهي حديثاً عابراً مَعَ ما تبقَّى من حياتي
قرب خيمتكَ … انتظِرْني…»
ثم كتب مجددا وهو يُكذب قصيدته السابقة، ويتراجع في ملتمسه المتعلق بالانتظار:
«وربَّما ماتَت…
فإن الموت يعشق فجأة مثلي
وإن الموتَ مثلي
لا يحبُّ الانتظار»
ليبوح بكل ما تحمله حروف الوجع من معنى، بقوله إنه “في حضرة الغياب… الموت لا يوجع الموتى… الموت يوجع الأحياء“.
وكيف لا يُمكننا أن نستشعر عمق هذه الكلمات، ونحن نودع كل يوم شخصا طيبا دون سابق إنذار؟ يرحل في غفلة منا… يخطفه الموت ويمضي به مهرولا تاركا خلفه الأثر والذكرى… كيف لا نشعر بثقلها ونحن بتنا نتنفس رائحة الموت أكثر من أي عبير فوق الأرض…؟
كيف لا؟ وفي كل مرة ينخر الفقد أرواحنا يتحسر القلب على لحظات البعد والجفاء…
«على هذه الأرض ما يستحق الحياة» ولعل أروع ما بها أولئك الذين يُشبهوننا يجملون الحياة من حولنا ويزرعون بساتين المحبة… بعضهم تربطنا بهم علاقة الدم، والبعض الآخر جمعتنا بهم ظروف ومواقف، ولحظات تداهم سكون الذاكرة بين الفينة والأخرى…
«على هذه الأرض ما يستحق الحياة» ولعل أبسط ما يُمكننا فعله هو التشبث بها، مقايضتها على أحبابنا، ومبادلتهم الحب والمودة… قبل أن نتجرع فيهم مرارة الفقد…
إن أقسى ما يُمكن أن يعيشه المرء، هو أن يهدر ما تبقى من أيام حياته، والتي لا أحد يعلم كم يُقدر عددها، في الانزواء بعيدا عن أحبابه… في اختيار الجانب المظلم من الحياة… في العتاب، وفي إزاحة الستار عن مشاعر الكره والضغينة والسوء… والتي تسكنه تماما كما يحيا الخير والحب بداخله.
وبقدر ما يقسو على نفسه وهو يسبح في المشاعر السالبة للجمال… بقدر ما ستقسو الحياة عليه حينما يُهرول خلف إحدى الجنائز محترق الفؤاد…
الموت لا ينتظر… ولا يخبرنا بموعده أبدا؛
الموت لا ينتظر ولعل وردة تُهديها لشخص وهو على قيد الحياة أثمن من باقة تنثرها فوق قبره… لعل قبلة تطبعها على يد والديك اليوم، أغلى من قبلة ممزوجة بدموع الحرقة فوق جبين أحدهما… ابتسامة أو كلمة طيبة في وجه معارفنا أصدقائنا وأحبابنا اليوم أحسن وأفضل وأصفى من عزاء تُقدمه أو تستقبله بعد كدر…
الموت لا ينتظر، والحياة أقصر مما تبدو عليه، وأسهل مما نعتقد تحلو بالبسمة والرضا والتفاؤل والحب… والعلاقات الطاهرة… وتكتسي ألوان الجمال بالتسامح والود والحب والرحمة…
الموت لا ينتظر، وشعور الندامة، لوم الذات، وجلدها بعده… أكثر قساوة ووجعا من الموت نفسه.

*شاعرة وإعلامية


الكاتب : مريم كرودي

  

بتاريخ : 09/11/2022