بعد ثلاثين عاماً

لم أحلم أن أكون شاعرا، كل ما حلمت به هو أن أبقى طفلا، حتى ولو كبرت أشجار البرتقال في حديقتنا، حتى ولو سقطت حبات توت على جانبي الطريق، حتى ولو غابت الحياة تحت أنياب النسيان.
بعد ثلاثين عاماً، كَهذا الطريق، قطعتُه؛ اشتعلت بداخلي الحياة تلك الحياة التي كانت تشبه أزهار الربيع حيةً، فيها يرتدي وجهي مزيدا من الضوء.
بعد ثلاثين عاماً، أدرك الآن أن الحياة عاهرة، تجمعنا في مَفارِق لنشقى بكل أفراحنا كأننا عساكر حربٍ يستبدلون البنادق، هي نفسها الحياة لا موطئ قدمٍ لي فيها الآن، نفسها من أبصرتْ قبل أكثر من ربع قرن دموعي المنزلقة، حينها فقط كنت أرغب باستعادة حقي في أن أزيح ستارة ما وراء هذا الضباب، لكنني منذ ولادتي كنت ابن الساعات المتأخرة من الليل، حيث لوحدي أُبحرُ كاملا في يقظة الروح في السؤال، كم يحتاج طفل مثلي من أحلام كي يقاوم هذا الخراب..
قبل ثلاثين عاماً كنت مؤمناً بالحياة لكنني كنت على علم أنها عاهرة لهذا أحببت الواقع بشكله العام، وتخلصتُ من الحلم كي لا أموت مرتين، موت واحد لشخص مثلي يكفي..!
موت يتيم يشبه الملجأ الأخير، أو صرخة صامتة تلح على هذا العالم بأن يعلنَ حداد موت أشبه بالنظيف.
بعد ثلاثين عاماً، شعرتُ فيها مرات ومرات أنني يمكنني فيها أن أكون شبيها بشاعر يكتب الشّعر في ساعات متأخرة، يكتب بكل ما تحتاجه حكمة التجربة القصيرة، يكتب بأبسط مقومات الحياة؛ قلعة الألم؛ مصدر الكتابة.
حلمتُ كثيرا لكنني تجاهلتُ ما حلمتُ..
كنت أعرف أنني لست شاعراً لأطلق هذا الاسم على طفل يكتبُ جاهدا على برهنة صحة افتعال ما يشعره بامتنان وبلا امتنان أيضا، يكتب باختلاف هذه اللعبة المستمرة منذ اكتشافها.
بعد ثلاثين عاماً، وأكثر من ذلك أحاول جاهدا كلما سرقت من الحياة كما تسرق النساء المنكوبات فرحا قصيرا نظيفا يطل من نافذة لشدة الإهمال فقدتُ مثلهن ضوء الإطار، ضوء الشمس المشرقة في بحر واضح الزرقة…
بعد ثلاثين عاماً، لا أعرف عمّا يفتش هذا الطفل بداخلي،
هل في وسع هذا السؤال والمكان والزمان واللامكان واللازمان، هل في وسعي الآن، حينما يتسع المكان والحلم أو حينما يتقلص المنفى بداخلي، أن أحاول إعادة تركيب كل هذه الأشياء بأسمائها الأولى، أن أسمي مثلا نشوة النوم فرحا ولو من دلالة السعادة، وأن يحملني البحر خفيفا إلى هواء غير ثابت في قصيدة لا تنتهي كي لا أنتهي من سفر لا أريده أن ينتهي فيَّ رغم هذه الحياة التي لن تتصالح يوما مع الواقع.
بعد ثلاثين عاماً، هي اللغة من أحب، وهي اللغة ما أكتب
لكن هل يحيا ما مات بداخلنا، كي نكتبه في لغة نقيم لها ما استطعنا من حب ووقت وقهوة تقفز بنا صائبة إلى رئة تحتمل أوكسجين الشوق والحنين، وإلى تلك التجربة التي رحلت بصحبتنا لنقطع كل هذا الطريق، بعد ثلاثين عاماً..
هل ما زلتُ قادراً على استجماع كل هذه اللغة من جديد، وهذا العمر يغيرُ إيقاعي كما يغيّرُ الماضي بداخلي خرائط الليالي، نفسه المجهول الآن يحاصرني، نفسه أنا
لازلت غامضاً في هيئة إنسان.
بقدر ما هو أمر عادي بقدر أنني أسأل بصمتٍ
ما جدوى أن يعيش الإنسان حياة بعد الثلاثين..؟


الكاتب : عاطف معاوية  

  

بتاريخ : 14/09/2024