بعض ملامح التجربة الشعرية عند رضوان خِــديد

 

بداية علاقتي بأشعار رضوان خديد حددتها الصدفة وحدها. كان ذلك عشية يوم من الأيام العادية، كنت أزور المكتبة الوسائطية التاشفيني، بمدينة الجديدة، حيث أقيم. ولسبب لا أذكره ولجت مكتب المدير سي عبدالله السليماني الذي تجمعني به صداقة جميلة ومتواطئة في عدد من الأمور. كانت يدي أثناء الحوار، تعبث، أو تفحص بعض الكتب التي يكتنز بها مكتبه، وأثار انتباهي كتاب كان موضوعا بشكل بارز فوق طاولة داخل المكتب، وفي أكثر من نسخة، كان عنوانه: «فقه التغريبة ونوازل السبيل». امتدت يدي إلى الكتاب، ورحت أتصفحه، بدافع الفضول، في البداية. فإذا بالكتاب يرجني رجا جميلا، فقد وجدت فيه نصوصا شعرية باذخة، كما لم أقرأها منذ زمن طويل، وخاصة لشاعر مغربي. وحتى لا أظلم الشعراء الآخرين، فقد يفسر هذا بعدم لقائـي، لسبب أو لآخر، ببعض الأعمال الأخرى المتميزة لشعراء مغاربة، بالنظر إلى أن متابعاتي للإصدارات الجديدة ليست منتظمة.
سألت سي عبدالله إن كان الكتاب متاحا في المكتبات، فأجابني أن نعم، ولكنه أضاف أنه بإمكاني الاحتفاظ بنسخة منه إن شئت. امتنعت، في البداية على اعتبار أن هذه الكتب مهداة إلى المكتبة، وينبغي أن تبقى فيها، لكن سي عبدالله أخبرنــي أن صاحب الديوان (سي رضوان خديد) قد وضع نسخا عديدة، وأنه قد أوصى بإهداء بعضها إلي أي قارئ سيظهر عليه أنه مهتم فعلا. مسـنـي هذا الكرم الثقافي الجميل. أخذت نسختي سعيدا. وطيلة أيام سافرت في ذلك العمل الذي صاحبني ليلات عديدة. أثارتني لغته الراقية والصور والأخيلة التي يبدو كما لو أن هناك منطقة سرية اهتدى الشاعـر وحده إليها. يأخذ منها ما يحلو له، ثم يغلق بابها إلى حين. لقد كانت نصوصه، بلغة القدمــاء، كثيرة المــاء، حتى إن بللها يرافق المرء وإن أغلق الديــوان. والأجمل أن هذا الماء كان على خلاف عادتــه يحمل طعما خاصا ومميزا. أثارني كذلك استعماله للخط المغربي في كتابة نصوصه، وهو أمر استدعــى لدي ذكريات كثيرة عن مجموعة من الشعراء المغاربة الذين شكلوا إضافات حقيقية للقصيدة المغربية (راجــع، بنيس وبلبداوي).
كان مصدر السعادة الذي بثه في هذا العمل الشعري هو أنه أنقذني من إحساس بتهاوي محراب الشعر.ففي السنين الأخيرة، استبيحت أرض الشعر كثيرا، كما لم يحدث أبدا في البلاد العربية، أو ذات الإنتاج العربي، واستسهلت جبالها، وركب ظهرَ الشعر كلُّ من وجد في نفسه الجراءة لركوب ما لا يمهـُـر فيه. لم يعد للشعر حراس بعد تراجع مساحة النقد. وزادت فوضى النشر والدعم الثقافي من حجم الكارثة. فكل من وجد لديه فائضا من المال، أو مسلكا من مسالك الدعم الثقافي، يأخذ كلاما ما، ويطبعه وقد ألصق على ظهره صفة الشعر، ثم يفتح لنفسه صفحة في الفضاء الأزرق، ويسميها صفحة الشاعر الفلاني. هكذا صار الشاعر يخلق نفسه بنفسه خارج المؤسسات الثقافية، ومات تقليد الإجازة القديم، دون أن نصنع له بديـلا يليق بالشعر. لا أقصد هنا الرقابة بمعناها السلبي الذي يتعارض جوهريا مع الإبداع، ولكن أقصد المسؤولية التي تجعل الشاعر أو الفنان عموما يحترم الباب الإبداعي الذي طرقه، ويلزم نفسه، قبل أن يلزمه غيره، بالاشتغال بعيدا عن الرداءة والابتذال.
هذا في ما يخص لقائي الأول بالشاعر. أما مصاحبتي لشعره، وحرصي على اقتناء جديده، فيعود إلى متعة كانت تتحقق لدي، غير أنها لم تكن موضوع تأمل واستقصاء. بينما تقتضي هذه الورقة أن تكون كذلك. وعموما، وبكثير من التعسف الذي أعتذر عنه، يمكنني الحديث عن ثلاثة نقط:

1 ــ أولوية القيم في العمل الشعري:

لا أريد أن أدخل بهذا العنوان في النقاش الإشكالي المرتبط بالعنصر أو العناصر التي بها يتحدد النص الشعري، ففي اعتقادي أن هناك من هو أكثر أهلية مني لمثل هذا النقاش. ومن جهة أخرى ترسخت لدي منذ زمن طويل قناعة ترى أن الشعريَّ في الشعر يوجد في منطقة مركبة عصية على التوصيف، ومتمنعة على كل قولبة أو تحديد. أريد فقط أن أتحدث عما أظنه، في فهمي المتواضع، أولويات عند شاعرنا.
فإذا كان بعض الشعراء ينطلقون من أولوية اللغة في العملية الشعرية، فبها ــ بحسبهم ــ ومن خلالها تتحقق القصيدة. ولا مكان للشعر إلا داخل اللغة، فإن شاعرنا ينطلق من موقع آخر. سيتضح لنا ذلك في عمله الشعري الثالث الموسوم ب»رماد الفراشات وألوان أخرى»1، حيث اختار الشاعر أن يضع على ظهر الغلاف مقطعا شعريا صغيرا يصلح، بالنسبة لـي، أن يكون بيانا شعريا، يحدد العلاقة بين الشاعر والشعر، ويكشف بعضا من طبيعتها. يقول:
كيف تكتب قصيدتك الأولـــى؟
خذ من القلب
من الوجع
لا تقلق
اللغة آتية
الوصفة التـي تقدمها هذه الأبيات للكتابة الشعرية لا تــأتي من اللغة ذاتها، ولكن من عنصر سابق عليها هو الصدق: الصدق في الشعر وفي الحياة، فعلى الكلمات أن تصطلي في بـُوتـَـقـَة القلب أولا، لتتشكل هويتها، وإلا صارت مجرد ألاعيب لغوية، تصبح فيها اللغة هدفا لذاتها، وتفتقر، من ثم، إلى أي روح أو جوهر. حين يتحقق الصدق بمعناه الإبداعي، والإخلاص للشعر وللإنسان، فإن اللغة، بحسب الأبيات، لن تصير مشكلة (لا تقلق اللغة آتية)، وستأتي منقاذة، طيعة، منحوتة في صورة مخصوصة هي صورة صاحبها، فينام هو ملء جفونه عن شواردها، ونسهر نحن جراها ونختصم. لنستمع إليه يقول في مكان آخر (البوح والرديف) 2:
من يقتات بالكلمات
يعرفْ
أن الحرف بالدنـيـا
إن صدقْ
لـو صدقْ.
في هذا المقطع يتأكد الترابط بين الحرف/الشعر والصدق، وهو ارتباط يكبر به الشعر، وتتعاظم قيمته، حتى يصير بقيمة الدنـيا، لكن هذا الارتباط يواجهه مأزق حقيقي، ففي الانتقال من إن الشرطية إلى لو التي تبدو مجانسة لها في ارتباطها بالدلالة الشرطية، تنفتح مسافات وطرق، يصير فيها الشعر عملة نادرة، بل مستحيلة، إن استحضرنا الخصوصية اللغوية لحرف لو، باعتباره أداة شرط وامتناع. فالصدق شرط الشعر، ولكن هل يتحقق الصدق؟
في كاليغرافيا3 من الديوان الثالث يقول:
عادة
لا تنزل القصيدة من قطار اللغة
اللغة التي تنزل
[ . . .]
الحسرات ترتفع
قليلا
تعود تنزل في صورة المداد.
لا يعني ذلك طبعا أن اللغة هامشية في التجربة الشعرية لخديد، فمن يقـرأ أعماله يرى فيها اشتغالا واضحا على ابتداع لغة شعرية متميزة، معجما وتركيبا ودلالة.

2 ــ المعاناة مصدرا للكتابة:

في اعتقادي لا تنفصل الكتابة، عند خديد، عن المعاناة. أليست المعاناة هي الرحم الوَلّادة لأي إبداع حقيقي؟ المقطع الأول الذي أشرت إليه سابقا يصلح دليلا على هذا، فالمصدر الآخر الذي تأتي منه القصيدة هو الوجع (خذ من الوجع)، وبدون معاناة تنعدم الكتابة، فالشاعر الذي لا يشعر بالألــم، ويعبر عنه، خاصة في عصرنا، هو بالتأكيد شاعر خائن. تكفي إطلالة سريعة على عناوين أعماله الشعرية الثلاثة لـنـستيقن، فالأول (فقه التغريبة ونوازل السبيل)3 يحيل على الغربة والتغرب وعلى الطريق وما يصاحب هذه العناصر من نأي وابتعاد وانقطاع أو تمزق، أما الثاني، فعلى الرغم من الطابع التفاؤلي الظاهر في سطحه ( زهرة واحدة تكفي)4 إلا أن القراءة المتأنية تكشف أن الشاعر يوجد في موقف دفاع، وليس في موقف أمان أو سكينة، وتجعل أسلحته قليلة (زهرة واحدة) قياسا إلى ما ينبغي أن تواجهه. في ما يخص الثالث (رماد الفراشات وألـوان أخرى) فالتهاوي فيه واضح، والألم تزداد فيه حدتُـه ودرجتُـه، حتى يغدو نارا تأتي على الأخضر واليابس، فتُصَير الفراشات رمادا (كثير من قصائد العمل الأخير محكومة بالفاجعة الكونية التي عاشها العالم مؤخرا، ولا يزال. عـَـنَـيْـتُ جائحة كوفيد).
3 ـ الارتباط بالواقــــع والتفاعـل مع الحتيــاة.

من الأشياء التي أثارتني في أعمال خديد، منذ البداية، ارتباطها باليومي دون أن تقتصر عليه. هناك تفاعل واضح في قصيدته مع الحياة اليومية، بكل فضاءاتها وطقوسها وكائناتها، فهو ليس ذلك الشاعر الذي يطل على العالم من علٍ، بل هو شاعر يخوض في وحل الحياة حافي القدمين، ويجبرنا على أن نتبعه لنرى ما نـُشيح عن رؤيته، فعندما نغرق في حياتنا الفردية وأوهامها، وعندما نأوي إلى دفء أفرشتنا، يذكرنا بهؤلاء الذين يوجدون في الضفة الأخرى، يولدون بلا ألسنة، ولا يجدون متسعا لهم إلا في الهامش، أو هامش الهامش.
الكثيرون منا قد نسوا، مثلا، مأساة عمال روزامور بالدارالبيضاء. هؤلاء الذين تواطأ عليهم جشع الرأسمالية وفساد المؤسسات وأعطاب المرحلة، فماتوا احتراقا داخل جدران المعمل (50 عاملا)، وماتوا مرة ثانية عند النطق بالأحكام في حق صاحب المعمل. لكننا عندما نقرأ قصيدة (جاء في كتاب الموتــى)5 نتذكر كل الرعب، ونتذكر حجم الفاجعة، ونتذكر أننا رخيصون في وطن غال علينا. يقول:
لأن أرواحنا علقت
في جبة النار
تزين الناطق باسم
الوطن
مشى يجر في المدائن
عربة الرماد
وينادي:
أرخص الأموات
عندنا
اشتر ضحاياك
والعب
ففي أمعاء الحجيم
يرقد البسطاء.
أما في مجموعته الشعرية الأخيرة «رماد الفراشات وألوان أخرى» فالتفاعل مع الحياة يظهر من خلال حضور قــوي ومثـيـر لجائحة كوفيد، باعتبارها الفاجعة التـي وشمت، بشكل جماعي، حياتنا في السنين الأخيرة. وهي تحضر في أكثر من نص شعري: مكان صغير، في جيب الخفاش، الاحتماء بأشياء صغيرة، وفيها نستعيد وعينا بالتحول الذي حدث في علاقتنا بالمكان، وكيف أصبحنا سجناء للخفاش، وكيف استعادت النافذة أهميتها، وصارت سبيلنا إلى الاتصال بالعالم الخارجي، نستعيد معاناتنا مع مختلف الاحتياطات التي صنعت طقوسا جديدة لحياتنا: المعقمات ومحاليل التنظيف والكِمامة، نستعيد قلقنا بخصوص المستقبل، وبخصوص حقيقة هذا الداء، وخوفنا من أن تلتصق الكمامات بأفواهنا، حقيقة أو مجازا. يقول في الاحتماء بأشياء صغيرة6:
أرى السماء
من نافذتــي
هل النافذة كل السماء؟
[ …]
أرى نورسا
يرتفع مطمئنا
وجهُهُ للبحر، وجهي للسؤال
ماذا إذا التصقت الكِـمامة بشفتيّ؟
سأنتظر أوبة الطير
بقطرة اليقين الزلال.
وبعد، هذه بعض الملاحظات السريعة حول شعر خِـديــد، تلتقط بعضا من مصادر جاذبيته، دون أن تحيط بها جميعُها. ولعلـهـا أن تكون فاتحة لغيرها، بما يليق بتجربة شعرية يصر صاحبها على بنائها بأناة ورويــة وباقتدار شديد.

*ملحــوظة: هذا المقال هو في الأصل ورقة قدمت خلال ندوة ثقافية حول التجربة الإبداعية والأكاديمية للشاعر والباحث في الأنتروبولوجيا رضوان خــديــد بالمكتبة الوسائطية التاشفيني بالجديدة.
الهــوامش:
1 ــ رضوان خـديـد ــ رماد الفراشات وألــوان أخرى ـ منشورات باب الحكمة (تطوان) ـ ط 1 ــ 2022
2 ـ فقه التغريبة ونوازل السبيل ـ مطبعة بسمة برنت بالجديدة ـ ط:1 ـ 2010 ـ ص: 13
3 ـ رمــاد الفراشات ــ صص: 96 و97
4 ـ رضوان خـديـد ــ زهرة واحدة تكفي ــ منشورات باب الحكمة ــ ط:1 ــ 2018.
5 ـ فقه التغريبة ونوازل السبيل 2010 ـ صص: 24 و25.
6 ـ رمــاد الفراشات ــ صص: 33، 34 و35


الكاتب : عبدالله والعيد

  

بتاريخ : 09/12/2022