بمناسبة صدور كتابه «فرجات مسرح البساط في شمال المغرب»

رضوان احدادو رائدا لذاكرة المسرح المغربي بالشمال

 

رضوان احدادو، علم الإبداع المسرحي بمنطقة الشمال المغربي، ورائد مجال حفظ ذاكرته، والحارس الأمين لذخائره ولمكنوناته ولتراكماته ولعطائه. ارتبطت الممارسة المسرحية بالشمال باسم رائدها المبدع رضوان احدادو، مؤلفا ومؤطرا وممارسا وناقدا ومتتبعا وموثقا. لذلك، أمكن القول إنه لا يمكن كتابة تاريخ المسرح بمنطقة الشمال بدون العودة المستمرة والمتجددة للنهل من تراث الأستاذ احدادو. لقد أفنى احدادو حياته في ترجمة شغفه بعوالم الركح وفي الانتصار لهوية الشمال المسرحية، فبذل في سبيل ذلك الكثير من الجهد المسترسل ومن العمل الشاق ومن الصبر الاستثنائي، باحثا عن التفاصيل والجزئيات التي غابت أو تم تغييبها من بين متون الكتابات المسرحية الوطنية المطمئنة إلى نزعاتها المركزية وإلى تنميطاتها الجاهزة. ويحق لمنطقة الشمال أن تفتخر بتراث الأستاذ احدادو، بعد أن أعاد له ألقه وبعد أن ساهم من خلال تنقيباته في سد الكثير من الثغرات ومن البياضات «التوثيقية» الوطنية التي مارست نوعا من التبخيس القاتل في حق سير العطاء والإبداع المسرحي الذي انبثق داخل مراكز منطقة الشمال وحواضرها الكبرى خلال عقود النصف الأول من القرن الماضي. فإلى جانب سلسلة من النصوص المسرحية التي أبدعها رضوان احدادو ورأت طريقها إلى النور، استطاع هذا الباحث المتميز تعزيز حصيلة منجزه بسلسلة من الأعمال التوثيقية المشتغلة على ثنايا الذاكرة الجماعية المسرحية لمنطقة الشمال، وهي الثنايا التي عرفت طريقها إلى النشر في حلقات مسترسلة على صفحات جريدة «الشمال» بشكل خاص، وكذلك في أعمال قطاعية مستقلة، وعلى رأسها كتاب «مسرح عبد الخالق الطريس» (1988)، وكتاب «ثريا حسن- رائدة مسرحية من شموخ» (2005)، وكتاب «محمد الدحروش- مسيرة مسرحية متوهجة» (2008)، وكتاب «محمد النشناش- الظل الآخر» (2009)، وأخيرا كتاب «فرجات مسرح البساط في شمال المغرب» الصادر سنة 2021، في ما مجموعه 83 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، ضمن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة.
ويمكن القول إن الإصدار الجديد المشتغل على تجارب مسرح البساط في شمال المغرب، يعكس قدرة رضوان احدادو على اختراق عوالم المبادرة، بحثا عن مكونات الهامش الذي أنتج تجارب منطقة الشمال في المجال المسرحي، تجارب أفرزت خصوبة استثنائية أضحت عنوانا مؤثثا لمعالم الهوية الثقافية لمنطقة الشمال، في تعددها وفي تميزها وفي عمقها وفي جرأتها وفي إنسيتها. لقد قيل الشيء الكثير عن تجارب مسرح البساط المغربي، وأنجزت حوله الكثير من الأعمال التوثيقية، ومع ذلك ظلت أسئلته مشرعة على رحابة فعل البحث والتنقيب، بشكل جعل منه أفقا لباحثي منطقة الشمال ولمؤرخي الزمن الثقافي المغربي الراهن. في هذا الإطار، أضحى رضوان احدادو قادرا على وضع الأسس المنهجية والعلمية الكفيلة بإعادة مقاربة سبل التوثيق لهذه السيرة الخصبة التي عرفتها منطقة الشمال. ولا شك أن هذا الجهد قد سمح بإعادة تقييم حصيلة المنجز المبهر للرائد احدادو، حسب ما عبرت عنه الكلمة التقديمية للأستاذة حسناء داود، عندما قالت: «فمن هم يا ترى أهل المسرح في تطوان؟ ومن هم أعلامه وأقطابه؟ لا شك أنهم كثر، لكنني ألاحظ أنه يكفي أن تنطق بكلمة «مسرح» في تطوان، لكي نجد اسم علم يتصدر القائمة، وهرم يتبوأ فضاءها، ونجم يتوسط سماءها، ألا وهو اسم الأستاذ رضوان احدادو، هذا الاسم اللامع الذي يستحق في نظري أن يطلق عليه لقب «أمير المسرح» بالمغرب، لكونه على رأس من صالوا وجالوا في الساحة، فعلِموا وعمِلوا، وبحثوا ونقبوا، وساهموا وأنتجوا، وكتبوا وأرًخوا، وكان ولايزال يتحف جماهير المهتمين من الأدباء والباحثين والفنانين بما هم في حاجة إلى معرفته عن تاريخ وشخصيات ونصوص هذا الفن الرفيع، مساهمة وإنتاجا وملازمة للموضوع، ومواكبة لتطوراته. نعم، لقد عرف الأستاذ رضوان احدادو المسرح منذ نعومة أظافره، فساهم في أداء أدواره، وأنتج العديد من نصوصه، وساير مختلف نشاطاته، ودوًن من أخباره ما يشفي غليل الباحثين في أغواره…» (ص ص. 6-7).
يقدم كتاب «فرجات مسرح البساط في شمال المغرب» عناصر ارتكازية في كل محاولات التأريخ لظاهرة البساط كما تأقلمت مع خصائص الواقع التاريخي لمنطقة الشمال، وتحديدا بمدينتي تطوان والعرائش، حيث نجح رضوان احدادو في تقديم سفر استثنائي عبر تفاصيل التجربة، سواء على مستوى سياقاتها الفرجوية المرتبطة بظروف خضوع المنطقة للاستعمار الإسباني، أم على مستوى تجارب المدونات ذات الصلة والتي راكمتها نخب المنطقة، مثلما هو الحال مع تجربة جبور العدي بالنسبة لمدينة تطوان أو مع تجربة أحمد التدلاوي بالنسبة لمدينة العرائش.
لقد أدرك رضوان احدادو أن قراءة منعرجات الممارسة المسرحية ببلادنا تقدم مرآة شافية لفك طلاسم الواقع المغربي المركب، بالنظر لقدرة هذه القراءة على استيعاب التمثلات الجماعية وعلى الارتقاء بالوعي الجماعي وعلى الانخراط في العصر بعد تفكيك عناصر إحباطاته وانكساراته. يقول رضوان احدادو: «بهذا يكون تاريخ المسرح المغربي هو تاريخ الإنسان في المغرب. تاريخ مغرق في القدم عرفه المغاربة ومارسوه أنواعا وأشكالا مختلفة متعددة شأنهم في ذلك شأن غيرهم من المجتمعات والشعوب، مارسوه خارج الوعاء أو ما يعرف بالبناية والتي لم تكن يوما ركنا من أركان المسرح يبطل المسرح بغيابها. ومن المجتمعات من لايزال إلى يومنا هذا يقيم مهرجانات مسرح الشارع ومسرح الهواء الطلق ومسرح العربة، ومسرح الاستعراض، ومسرح الشموع، ومسرح الكارنفال إلخ، مسارح ومسارح جاءت من صلب الموروث الشعبي التراثي للشعوب…» (ص. 15).
في هذا السياق، اختار المبدع رضوان احدادو الاحتفاء بطريقته الخاصة بفرجة مسرح البساط باعتباره إحدى أبرز الأشكال الفرجوية ما قبل المسرحية التي كان لها دورها الموجه في وضع الأرضية الصلبة للممارسة المسرحية العصرية المؤسساتية. ولإنصاف منطقة الشمال، اختار المؤلف توزيع مضامين عمله بين محورين مركزيين، اهتم في أولهما بتقديم إطار نظري تأصيلي لمفهوم البساط في سياق تتبعه لمخاضات ميلاد المسرح المغربي عموما، قبل أن ينتقل في ثاني محوري الكتاب إلى التوثيق لنشأة «البساط الشمالي» وإلى رصد تطوره عبر نموذجين اثنين مرتبطين بحاضرتي تطوان والعرائش. في هذا السياق، اهتم رضوان احدادو بالتأريخ لوقائع الميلاد، مع الانفتاح على القضايا المجاورة لهذه الممارسة الفرجوية التراثية الأصيلة، مثلما هو الحال مع صورة الطرقيين في فرجة البساط بتطوان والعرائش، أو مع صورة اليهودي أو صورة المرأة في هذا الشكل الفرجوي الأصيل.
وفي كل هذه المستويات، اهتم رضوان احدادو بإبراز الثوابت التي أطرت ممارسة فرجة البساط، والمتمثلة في البعد الاحتفالي الكرنفالي المفتوح، وفي الطابع الهزلي الساخر، وفي ارتباطه بالمناسبات الاجتماعية مثل عاشوراء أو عيد المولد النبوي، وفي طبيعته المتحركة حيث يتحرك الممثل بين الجمهور الذي ينخرط –بدوره- في تقديم بعض فقرات العرض، وفي اكتسابه بعدا انتقاديا واضحا ضد مآسي المجتمع، وفي استثماره لفضاءات مفتوحة بالشوارع وبالساحات، وفي تمركزه حول هودج مزركش بدلالات ثقافية ورمزية عميقة، وفي نزوعه نحو تصوير أحداث ووقائع بعينها بعد تحويلها إلى بؤر للسرد وللحكي وللتواصل، ثم في اعتماده على أداء فئات من المتطوعين من بين عموم الشعب وخاصة الحرفيين منهم، بشكل يذكرنا بتجارب شبيهة عرفتها بلاد الإغريق القديمة.
وبهذا النبش العميق والمتأني، استطاع المبدع رضوان احدادو تقديم حصيلة محترمة، لا شك وأنها تعيد مقاربة قضايا التأريخ لمسرح البساط داخل وسطه المترامي بأقاصي الشمال، بعيدا عن المركز وعن تجاربه الأولى بمدن مراكش وفاس والرباط. تظل كل الكتابات التأريخية التي سكتت عن دور مراكز منطقة الشمال في إنتاج النماذج الفرجوية الأولى لطقوس البساط، مجرد تهافت تبخيسي مادام سجل المنطقة يفرز كما هائلا من الإشارات الدالة التي أحسن الأستاذ رضوان احدادو التقاط تردداتها، وتلمس نبضها كعنوان لدور ريادي ولمسار أصيل وطويل وممتد في الزمن، اسمه المسرح في منطقة الشمال.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 26/04/2021