في تحول نوعي لأسلوب الاحتفاء بذكرى معركة لهري الخالدة، شهدت بلدة لهري بإقليم خنيفرة مؤخرا، تخليدا للذكرى ال 111 لهذه الملحمة الوطنية التي شكلت إحدى أبرز صفحات المقاومة المغربية ضد الاستعمار الفرنسي، حيث احتضنت «الثانوية الإعدادية 13 نونبر» ندوة فكرية نظمتها جماعة لهري بشراكة مع النيابة الإقليمية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، حملت عنوان «معركة لهري الخالدة 13 نونبر 1914: ملحمة بطولية في تاريخ الكفاح المسلح ضد التدخل الفرنسي بالمغرب».
تولى تسيير الندوة ذ. المصطفى فروقي، فيما استهلت بكلمتين افتتاحيتين لكل من رئيس الجماعة الترابية لهري والنائب الإقليمي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بخنيفرة، فيما أثرى الندوة عدد من الباحثين بمداخلاتهم القيمة، من بينهم د. إدريس أقبوش الذي تناول موضوع «القيادة والمقاومة في جبال الأطلس: موحى وحمو الزياني أنموذجا»، وذ. حوسى جبور الذي قدم مداخلة بعنوان «معركة لهري: قراءة في الاستراتيجيات الحربية والدلالات»، في حين اختتم ذ. موحسين باعالي بمداخلة بعنوان «معركة لهري 1913: آفاق وسبل تثمين الذكرى».
وتواصل إحياء الذكرى يوم الأحد 9 نونبر 2025، بقافلة طبية متعددة التخصصات لفائدة ساكنة لهري، بشراكة بين الجماعة القروية وجمعية الزهور للتنمية الأسرية القادمة من الدار البيضاء، وجمعية الأعمال الاجتماعية لموظفي الجماعة، شكلت القافلة استجابة ملموسة لحاجيات الساكنة الصحية، إذ بلغ عدد الخدمات المقدمة 480 خدمة طبية شملت الطب العام وطب النساء والتوليد وطب الأطفال والجهاز الهضمي، إلى جانب أنشطة تحسيسية وتوعوية، مع توزيع كميات مهمة من الأدوية الأساسية بالمجان.
وقبل يوم الاحتفال المهرجاني، شهد مركز لهري صباح الأربعاء 12 نونبر 2025 تنظيم فعاليات الملتقى الأول «موحى وحمو الزياني للعدو الريفي»، بشراكة مع جمعية أسود الأطلس لألعاب القوى وبتنسيق مع المديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية، والتي اختتمت بتسليم ميداليات وشهادات تقديرية للمشاركين، وأظرفة مالية رمزية للمتفوقين، بينما لم يفت جماعة لهري تخصيص جوائز تشجيعية للتلاميذ الحاصلين على أعلى المعدلات بمؤسسات الثانوية الإعدادية 13 نونبر، المدرسة الجماعاتية، م/م ادخسال، م/م تلحيانت، م/م سرو، م/م تاتشا، وم/م تجموت.
ندوة المقاومة في الأطلس
بخصوص الندوة، قدم الباحث حوسى جبور مداخلة بعنوان «معركة لهري: قراءة في الاستراتيجيات الحربية والدلالات وطرق التثمين»، أبرز فيها أن معركة لهري شكلت محطة مفصلية في سجل المقاومة المغربية ضد الاستعمار الفرنسي، ورمزا للبطولة التي سطرها الشهيد موحى وحمو الزياني وقبائل زيان، معتبرا أن هذا الانتصار لم يكن مجرد حدث عسكري بل تحول استراتيجي وسياسي وصدمة للقيادة الفرنسية التي أدركت حدود قوتها أمام المقاومة الشعبية، وشدد جبور على ضرورة تثمين هذا الإرث التاريخي من خلال مشاريع ملموسة تربط الذاكرة بالتنمية.
وأكد المتحدث أن تخليد الحدث لا ينبغي أن يظل رمزيا أو موسميا، بل أن يتحول إلى مشروع تنموي دائم، مبرزا مقترحات من قبيل إنشاء متحف للمقاومة بقرية لهري، وإحداث مسار سياحي-تاريخي للتعريف بالموقع، وتشجيع البحث الأكاديمي حول المقاومة بالأطلس المتوسط عبر شراكات جامعية، إلى جانب تهيئة البنيات التحتية لاستقبال الباحثين، ودعم التعاونيات النسائية والمنتجات المحلية، وتنظيم شراكات بين الجماعة الترابية والمندوبية السامية لقدماء المقاومين ووزارة السياحة لإدراج لهري ضمن ذاكرة التنمية المجالية المستدامة.
من جهته، أكد الباحث موحسين باعالي في مداخلته الموسومة بـ «معركة لهري (1914): الواقع، الآفاق وسبل تثمين الذكرى» على أن الذاكرة الجماعية تشكل ركيزة الهوية ومرآة الأصالة التاريخية للمجتمعات، محذرا من خطر العولمة الرقمية التي تهدد بطمس الموروث الثقافي الوطني، واعتبر أن معركة لهري ليست حدثا محليا فحسب، بل محطة تاريخية كبرى في الذاكرة المغربية والعالمية، إذ مثّلت أكبر هزيمة للجيش الفرنسي في شمال إفريقيا، كما اعترف بذلك المقيم العام المارشال ليوطي في برقيته الشهيرة.
وأشار باعالي إلى أن الاهتمام الأكاديمي والمؤسساتي بالمعركة لا يزال محدودا، رغم وجود بعض الكتب والمقالات والمتاحف والأنشطة السنوية التي تنظمها المندوبية السامية لقدماء المقاومين، واختتم مداخلته بتوصيات ركزت على ضرورة تثمين الذكرى عبر تشجيع الإنتاجات الأكاديمية والإبداعية (بحوث، أفلام، روايات)، وترميم المنشآت التراثية وبناء متحف حديث يخلد المعركة، إضافة إلى تنظيم ندوات ومؤتمرات دورية حول الموضوع، وجعل حدث لهري قاطرة للتنمية المجالية والسياحة الثقافية بما يحافظ على الذاكرة ويخدم مستقبل المنطقة.
أما الباحث د. ادريس أقبوش فتوقف في مداخلته العلمية التي حملت عنوان «القيادة والمقاومة في جبال الأطلس: موحى وحمو الزياني أنموذجا»، عند شخصية موحى أوحمو الزياني، مستعرضا ملامح هذه الشخصية الفريدة التي جمعت بين الصرامة العسكرية والحكمة السياسية، وبين الثبات على المبادئ الوطنية والانفتاح على تحولات الواقع، وأوضح أقبوش أن رغم ما راكمه البحث التاريخي من دراسات حول المقاومة الزيانية ضد الاستعمار الفرنسي، فإن هذه المرحلة ما تزال يكتنفها الكثير من الغموض.
كما زاد أقبوش فرأى أن شخصية موحى أوحمو الزياني ما تزال عصية على الإحاطة الكاملة، مما يجعلها ميدانا خصبا للبحث التاريخي المتجدد، وأشار بالتالي إلى أن البيئة الجبلية الصعبة التي نشأ فيها الزعيم الزياني ساهمت في صقل شخصيته المقاتلة، وخوضه لحروب طاحنة مكنته من توطيد سلطته وإخضاع القبائل الزيانية، فأسس بذلك نموذجا لقيادة ميدانية ترتكز على القوة والشرعية معا، وعرف كيف يوازن بين صرامة المواجهة ومرونة الموقف السياسي، وبين الدفاع عن كرامة القبائل الزيانية والانخراط في معركة أوسع ضد المستعمر الفرنسي.
مهرجان بتكريمات ومتحف
وتم تتويج تخليد الذكرى باحتفال مهرجاني بقلب قرية لهري مطلعه زيارة المعلمة التاريخية وإطلاق الحمام ومعرض تشكيلي لتلاميذ جمعية لمسات فنية، في حضور عامل الإقليم وشخصيات عسكرية وأمنية، وفعاليات جمعوية وتربوية وإعلامية، إضافة إلى السلطات المحلية ورؤساء المصالح والمنتخبين وعدد من قدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير وأبناء وأرامل المتوفين منهم، في غياب المندوب السامي المتواجد في مهمة رسمية خارج الوطن، حيث تم افتتاح الاحتفال بـكلمة النيابة الإقليمية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
تلت ذلك كلمة رئيس المجلس القروي للهري ورئيس المجلس الإقليمي لخنيفرة، تم فيها استحضار البطولات الخالدة للمقاومة الزيانية بقيادة الشهيد موحى وحمو الزياني، وما جسدته من روح تضحية ونضال من أجل الحرية والاستقلال وعدالة القضية الوطنية، فيما أجمعت الكلمات على الإشادة بـالاعتراف الأممي بمبادرة الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية تحت السيادة المغربية الكاملة، كما تم الإعلان عن مشروع إحداث فضاء متحفي بقرية لهري يوثق لذاكرة المقاومة الزيانية، مع الانخراط في دعم المناطق الجبلية والنائية ضمن رؤية العدالة المجالية.
وتخللت المهرجان فقرات فنية ووطنية مؤثرة قدمها تلاميذ مركز التفتح للتربية والتكوين، الذين أبدعوا في أداء أغاني وأناشيد وطنية تحت إشراف ذ. يوسف الرشيد، مؤطر ورشة الموسيقى بالمركز، في أجواء غلبت عليها روح الاعتزاز بالانتماء الوطني، قبل تتويج الاحتفال المهرجاني بتسليم تذكارات تكريمية لكل من المديرة الإقليمية للتربية الوطنية، ومديرة مركز التفتح للتربية والتكوين، ومؤطر ورشة الموسيقى بالمركز، تقديرا لجهودهم في خدمة الشأن التربوي والثقافي بالإقليم.
ذاكرة زيانية ضد النسيان
وتعزز المهرجان بتقديم ممثل المندوبية السامية في عرضه قراءة تاريخية غنية في سياق إحياء ذكرى معركة لهري، التي تظل واحدة من أبرز صفحات المقاومة المغربية ضد الاستعمار الفرنسي، استهل حديثه بالعودة إلى مرحلة التدخل الفرنسي بالمغرب، مبرزا الدور البطولي لقبائل زيان بقيادة الشهيد موحى وحمو الزياني، الذي لم يتردد في التنسيق مع قادة المقاومة في مختلف المناطق، وتعبئة القبائل لمساندة الشاوية، وخوض معارك ضارية في تافوديت وأكوراي وزحيليكة وسيدي عبدالسلام والقصيبة رفقة المجاهد موحا وسعيد.
وتوقف المتحدث عند الأهمية الاستراتيجية لمدينة خنيفرة التي جعلتها هدفا مركزيا للقوات الاستعمارية، باعتبارها قاعدة للمقاومة، مستعرضا محاولات الإغراء التي لجأ إليها الفرنسيون لاستمالة موحى وحمو، والتي قوبلت برفض قاطع منه، لتندلع إثر ذلك سلسلة من المواجهات ضد جيشي كلوديل وكروس، قبل أن تسقط خنيفرة في 12 يونيو 1914، عندها غير القائد الزياني تكتيكه، معتمدا حرب العصابات في الجبال لقطع خطوط الإمداد عن العدو، قبل أن ينتقل إلى محطة قرية لهري.
وأبرز المتدخل تخطيط القوات الفرنسية لهجومها الواسع على قرية لهري بقيادة الكولونيل لافيردور على رأس 1300 جندي مدججين بالمدفعية، غير أن المعركة انتهت بهزيمة ساحقة للمستعمر، بلغت خسائره فيها أكثر من 580 قتيلا و33 ضابطا و176 جريحا، إضافة إلى مقتل لافيردور نفسه، وغنم المقاومين كميات كبيرة من السلاح والعتاد، واستشهد ممثل المندوبية بوثائق وكتابات فرنسية تؤكد فداحة الهزيمة، ليختم مداخلته باستحضار نهاية القائد موحى وحمو الزياني الذي استشهد في 27 مارس 1921 بجبل توجكالت.
تخلل المهرجان الخطابي الذي شهدته منطقة لهري لحظات إنسانية مؤثرة، جسدت قيم الاعتراف والعرفان لمن ضحوا في سبيل الوطن، حيث تم تنظيم مراسيم لتوزيع لوحات تقديرية على ثمانية أفراد من أبناء وأرامل قدماء المقاومين، ألقيت في حقهم كلمات مؤثرة استحضرت مسيرة آبائهم النضالية وتضحياتهم الخالدة، كما تم توزيع إعانات مالية على اثنين وأربعين مستفيدا من ذوي وأرامل قدماء المقاومين وبعض الأحياء منهم، شملت مشاريع ذاتية ومساعدات تتعلق بـمصاريف الحج والإسعاف الاجتماعي.

