بوجلود أو بيلماون… تراث مغربي إنساني يرفض التقادم

شكل بوجلود أو بيلماون عادة تراثية مغربية على مر الأجيال امتاز بها الكثير من أبناء الشعب المغربي خاصة أبناء أكادير (سوس) الذين أبدعوا في هذه المناسبات الاحتفالية بعيد الأضحى المبارك مرتدين أشكالا تنكرية إبداعية متناسقة بالموازاة مع رقصات وغناء الفن الكناوي الذي يسمى باسم إسمكان.
وتعد احتفالات بوجلود بأكادير فرصة للإبداع ومواصلة الحفاظ على التراث الأمازيغي المحلي المتوارث عبر الأجيال، ويعد كذلك فرصة لتلاقي كل أبناء سوس داخل الوطن وخارجه، إضافة إلى زوار باقي أحياء المدينة ومن كل ربوع المملكة، وتحج إلى هذه الاحتفالات جماهير غفيرة من كل أحياء المدينة ومن كل الأعمار والفئات معبرين جميعا عن فرحهم وتسامحهم وتفاعلهم مع اللوحات الفلكلورية والفنية والإبداعية المحلية من بوجلود بأزياء تنكرية أبدعتها أنامل الشباب محليا لخلق جو من الفرجة والفرح، وتناغما مع أشكال موسيقية متنوعة خاصة بالمنطقة التي تحتفل بهذا الطقس التراثي الرافض لكل أشكال التقادم أوالنسيان.
بوجلود أو بيلماون بحسب الأستاذة حنان كحمو، وهي باحثة متخصصة في الثقافة الأمازيغية، التي اعتبرته طقسا أو عادة احتفالية بمناسبة عيد الأضحى، والتي تشهدها مجموعة من البوادي والحواضر المغربية سواء الناطقة بالأمازيغية أو غير الناطقة بها، بحجم بسيط خاصة، يمكن أن نجد في قرية واحدة رجلا واحدا سواء أكان شابا أو طاعنا في السن يدور في الأحياء ويدق على الأبواب ملوحا بكلتا يديه ويتم إعطاؤه ما يسمى بالبركة، وهي عبارة عن سكر أو نقود أو هدية عينية.
وترى الباحثة في التراث د. حنان كحمو أن المكان الذي يعرف احتفالا ضخما بالمناسبة ذاتها هو مدينة أكادير المعروفة على الصعيد الوطني والدولي باحتضانها لطقوس احتفال بوجلود/ بيلماون منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، حيث يتم الاحتفال كل سنة بواسطة عروض كرنفالية جديدة بواسطة أشكال هندسية مميزة داخل الأحياء الشعبية، ويرافق هذا الاحتفال دائما مجموعة من شباب كناوة الذين يضفون لمسة موسيقية خاصة بهذا الطقس الاحتفالي المختلف.
وقد شهد الاحتفال بوجلود/ بيلماون هذه السنة بحسب الباحثة ذاتها، انتقالا نوعيا خاصة أن بعض جمعيات المجتمع المدني احتضنت هذا الحفل من خلال تحضير منصات وأمسيات فنية مرفقة بعروض كرنفالية مميزة لطقس بوجلود الاحتفالي السنوي.
وتؤكد ذ. حنان كحمو أن السلطة المحلية تسهر على تقنين هذه الاحتفالات لتفادي أي انزلاق أو مناوشات بين الشباب، محاولة حماية هذا الطقس الاحتفالي خاصة أنه يحضره الآلاف من الزوار، بالخصوص في مدينة الدشيرة، حيث أنه ولولا تشبث الساكنة والجمعيات بهذا الطقس الاحتفالي لما استمر خاصة أنه خضع لمنع السلطات مرارا في بداية الثمانينيات إلا أنه أمام تشبث الأهالي والشباب بهذا الاحتفال حرصت السلطة على توفير كل شروط النجاح للاحتفال ذاته والحرص على تنظيمه بشكل سلس وسليم عوض المنع ومصادرة بيلماون كطقس تراثي محلي رافض للاندثار.
للتيارات الدينية رأي آخر في هذا الطقس الاحتفالي بحسب الباحثة كحمو، حيث أكدت أن التيارات الدينية في المنطقة دائما ما تنتقد بيلماون من خلال القول بأنه طقس وثني لا يرتبط بمرجعية المغاربة الإسلامية، وأن دعاة الطرح الديني هدفهم دوما هو التخفي وراء فزاعة الدين لمنع أي عادة أو تقليد مغربي أصيل، لكن تشبث الأسر حال دون طمس معالم بيلماون خاصة أن هذه الأسر تقتني لأطفالها الجلود حتى قبل حلول عيد الأضحى من الباطوار أو المجازر حتى يتم غسل الجلود بالملح والشبة وتجفيفها وخياطتها قبل موعد الاحتفال ببيلماون من فرط الحماسة والاستعداد الكلي لهذا الطقس الثقافي المغربي المميز منذ قرون خلت.
ويرجع الفضل حسب ذ. كحمو لجمعيات المجتمع المدني خاصة بعض جمعيات الأحياء التي تلعب دورا كبيرا في حماية هذا الطقس الاحتفالي، وتسهر بشكل مسؤول على تنظيم هذه الحفلات من خلال توفير منصات للعرض بكل مهنية واحترافية عالية، ويتم العرض بأشكال ومجسمات هندسية هائلة على غرار كرنفالات أمريكا اللاتينية، حيث يقف الناس على جنبات الطريق منتظرين مرور الموكب الكرنفالي لبيلماون على طول الطريق الرابط بين مدينتي انزكان والدشيرة.
لكن بسبب الإجراءات الاحترازية إثر تفشي فيروس كورونا تم منع هذا الاحتفال وتطويقه وتقليصه ما أمكن، حيث اقتصر على منصات محلية للاحتفال هذه السنة.
وقد اقتصر الاحتفال ببيلماون، حسب الباحثة ذاتها، على الذكور خاصة أن بوجلود يدل على فحولة الرجل وذكورته، لكن مؤخرا نلاحظ أن بعض الفتيات قد اقتحمن هذا الطقس الاحتفالي رفضا لسيطرة الذكور عليه منذ زمن، وهي نقطة إيجابية جدا خاصة أن لمسة الشابات بوضع رسوم ملونة جميلة واعتماد بعض الحلي الأمازيغية كأسني أو التاج الباعمراني إضافة إلى غطاء الرأس الأحمر وبعض الزينة المحلية زاد من جمالية العروض، وقد ميز هذه السنة عروض بيلماون التي هي في الأصل طقس ثراتي مغربي أصيل ومتجذر قابل للتجديد والتنوع.
في السياق ذاته، يرى الأنثروبولوجي الحسين بوياعقوبي وهو أستاذ محاضر بجامعة ابن زهر بأنه يصعب إعطاء جواب حاسم بخصوص أصل «بيلماون», لأنه ممارسة قديمة جدا، تعود لقرون عديدة قد تتجاوز فترة وصول الديانات التوحيدية لشمال إفريقيا. وباعتبار المغرب بلدا متوسطيا، مهد الأنشطة التنكرية، وبلدا إفريقيا حيث للقناع والتنكر مكانة خاصة، فليس غريبا أن تتوفر شمال إفريقيا والمغرب على الخصوص، على هذا النوع من الممارسات الثقافية المعتمدة على القناع والتنكر، وتأخر الدراسات المهتمة بهذا الموضوع إلى حدود فترة الاستعمار الفرنسي لشمال إفريقيا جعل المعلومات غائبة تماما عن تطور هذه الممارسة. لكن هذه الكتابات نفسها وعلى قلتها سمحت لنا بمعرفة أن هذه الممارسة موجودة لدى كل سكان شمال إفريقيا سواء أكانوا ناطقين بالأمازيغية أو بالعربية، وإن انقرضت في العديد من المناطق.
وقد أكد الأكاديمي نفسه أن هذه العادة يشترك فيها الجميع بتسميات مختلفة، بغض النظر عن اللغة المستعملة. والأكيد أيضا أن هذه العادة في أصولها كان لها بعد روحي وتعبدي قبل أن يغلب عليها البعد الفرجوي، ولا تزال إلى اليوم لدى البعض تكون محاطة بالقداسة سواء من خلال استعمال الملح وقراءة المعوذتين أو الفاتحة قبل الخروج للتجوال، وكذا الاعتقاد بالبركة المصاحبة لـ«بيلماون» إذ يعتقد البعض أن ضرباته تذهب المرض وتأتي بالحظ (كل حسب متمنياته).
ويضيف د. بوياعقوبي بأن هناك تغيرات كثيرة همت طبيعة الجلد المستعمل، والأقنعة المصنعة، حيث تأثرت بالأقنعة العالمية، وكذا تعدد الأزياء التنكرية وطبيعة المواضيع المطروحة والشخصيات التي تقمص أدوارها، وأيضا إستعمال الصباغة والماكياج بدل المواد التقليدية المستعملة سابقا. كما تغيرت المنظومة الثقافية التي تُمارَس فيها هذه العادة.
ويعتقد الباحث نفسه، أن الفرجة لا يزال يخلقها طقس بيلماون، لكن تغير المنظومة الثقافية التي يمارَس فيها جعله لا يؤدي نفس الأدوار التي كان يؤديها سابقا وتسللت إليه، خاصة في المدن الكبرى، بعض الممارسات الأخرى التي تسيء إليه، وهي مرتبطة في العمق بالتحولات العامة التي عرفها المجتمع المغربي وأثرت بطبيعة الحال على عادة «بيلماون».
وبالنسبة لتميز مدينة أكادير وضواحيها لاحتضانها لهذا الطقس الاحتفالي التراثي المتميز، بالفعل تفرض هذه المنطقة نفسها حسب د. بوياعقوبي باعتبارها من أكثر المناطق حفاظا على هذا الموروث، لأنها طورته منذ سنوات في اتجاه أن يكون كرنفالا بمعنى الكلمة، كما يجد شيئا من الدعم من الساكنة والمجالس المنتخبة المتعاقبة.
ليظل بوجلود/ بيلماون ذلك الموروث الشعبي الرافض لكل أشكال التقادم أو النسيان «بيلماون « و»بيدماون «، ثرات شعبي إنساني بامتياز، حيث شكلت ثقافة بوجلود بيلماون بسوس، وبمختلف مداشر وحواضر المغرب، مرورا بالريف والأطلس والحوز، ووصولا لغيرها من المداشر والقرى الممتدة عبر سهول وجبال المملكة، لتظل معها  ثقافة بوجلود نافذة على تاريخ المغرب، الذي كان ولايزال يجسد ذلك الموروث الشعبي جزءا من ثقافتنا المتوارثة عبر كل العصور والأجيال، فهو موروث شعبي يحتوي على كل قيم العفوية والحب والتسامح والتفاهم، بل وحتى أخلاقيات الإحترام والقبول بالآخر، في مجتمع تغيرت ملامحه واهتزت قيمه بشدة، فأصبح لزاما علينا جميعا صون ثقافته والتمسك بقيمه الحقة، وعدم السماح لأي كان العبث به والانتقاص من أهميته كموروثه الشعبي الإنساني، ليظل «بوجلود بيلماون» أحد القواسم المشتركة بين فئات شعبنا الواحد ذي التنوع الثقافي واللغوي الغني والمتميز.

 


الكاتب : إيمان الرازي

  

بتاريخ : 19/07/2022