حسن باحسن معتقل سياسي سابق برقم قياسي من الاعتقالات بدون محاكمة، وبرصيدٍ مهم من الحراسة النظرية بتهمة المطالبة بالحرية وحق التعبير. ومثقف يساري عاش فترة المناشير السرية والجريدة في الجيب الداخلي للمعطف. وحضر نقاشات الرّفاق المطوّلة التي تمتد إلى ساعة متأخرة من الليل. وأدرك بصوته ورأيه ثورات الربيع العربي واحتجاجات السوشل ميديا. وكانَ، في كل ذلك، مناضلًا ومثقفا ملتزمًا بقضايا الإنسان العادلة. وكاتبًا وملحّنًا شعارات الطبقة الكادحة. وميكرفون الجماهير في الساحات العمومية بصوته الصريح. عنيدًا وممانعًا، لم تزده عتمة الزنازين واختطافات أوّل الفجر إلا صلابةً وثباتا على الموقف. ولم يكن عناده تصنعًا بل اختيارًا يجسّد فلسفة قناعته ورفضه لجميع أشكال المساومة والتنازل البراغماتي.
رأى الولد حسن النور مطلع خمسينيات القرن الماضي في قرية القنصرة الرابضة على هضبة زمور جنب الوادي من أبٍ يعمل مستخدمًا في المكتب الوطني للكهرباء وأمٍّ ربة بيتٍ ورغيف. كان بكرَ الأسرة (خمسة ذكور وبنتين) لذلك سبقهم جميعًا إلى المدرسة والفضول الوجودي وطرح الأسئلة، وإلى الألم بعد ذلك أيضًا. يظهر في صوّر قديمة بالأبيض والأسود مثل نجم سينمائي بعينين خضراوين وشَعر أشقر، طفلًا يتلمّس خطواته الأولى في مدرسة القرية المحاطة بحقول الإقطاعيين ومشهد المستخدمين الزراعيين وهم يفرجون للماء بالمعاول. وفيما بعد، شابًا بعودٍ صلب في القسم الداخلي بثانوية موسى بن نصير بالخميسات، حيث بدأ يتشكل وعيه السياسي فانخرط في النقابة الوطنية للتلاميذ التابعة لليسار الماركسي اللينيني، وإلى «منظمة إلى الأمام» أكثر مما هي نقابة تلاميذية صرفة.
كانت سنوات السبعينيات الأولى مرحلة صعبة في تاريخ المغرب على المستوى السياسي، اتسمت بقمع المعارضة السياسية وملاحقة التنظيمات السرية ذات التوجه الماركسي اللينيني. وكان ذلك الانخراط المبكر مرحلة فارقة في سيرة باحسن النضالية، الذي كان مكلفا بما كان يسمّى آنذاك «المكتبة المتنقلة» للمنظمة، وهي عبارة عن حقيبة محمولة تحتوي على أعدادٍ من جريدة «المناضل» لسان النقابة الوطنية، ونسخٍ من «الشرارة» وهي النشرة الداخلية والسرية لمنظمة إلى الأمام. فضلًا عن أعدادٍ من جريدة «الحرية» التابعة للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين وكرّاسات ومجلات ماو تسي تونغ. الملاحظ أنّ كل شيءٍ كان سريّا ويتم في جنح الظلام، مقابل التسميات التي كان يكفي النطق بها أيام زمان كي تُعتقل بلا أملٍ في العودة. وحتّى الأسر كانت تتألم في صمتٍ وتتجنب البحث عن مصير أبنائها خوفًا من المتابعة القضائية. وفي الحقيقة إنّ موضوع عائلات المعتقلين السياسيين بالمغرب يحتاج إلى دراسة سيكولوجية وسوسيولوجية موسّعة.
هكذا وجد صاحب الحقيبة السرية نفسه مطاردًا بين القرية والمدينة. ثمّ مُعتقلًا أوّل مرّة لمدّة سنة موزعة بين معتقل «درب مولاي الشريف» السيء السمعة وسِجن «عين برجة». قبل أن يُفرج عنه بدون محاكمة ضمن مجموعة من المعتقلين السياسيين، عُرفت آنذاك ب «مجموعة 105»، وبآثار تعذيب جسدي ونفسي سيتحدث عنه المتضررون بمرارة في الإعلام الرسمي خلال جلسات استماع عُرفت بملف «الإنصاف والمصالحة». بعد ذلك التحق بالتدريس في السلك الابتدائي فانخرط في النشاط النقابي مع الكونفدرالية الديموقراطية للشغل التي كانت في بداية تأسيس هياكلها، غير أنّه سرعان ما اعتقل مرّة أخرى (1979) أثناء أحداث الإضراب الوطني الذي دعت له النقابة، وتَقاسم الزنزانة مع نوبير الأموي الذي أهداه أحد دواوين الشّاعر المصري فؤاد أحمد نجم المعروف بفكره الثوري المتمرد. ثمّ أفرج عنه بعد ثلاثة أشهر ليُطرد من العمل لسنوات طويلة متنقلًا بين مهنٍ كثيرة، ومطلوبًا لدى مخافر شرطة الدار البيضاء والقنيطرة متى دعت الضرورة إلى ذلك. ورغم عودته إلى التدريس في عهد حكومة الراحل عبد الرحمان اليوسفي، فقد لاحقته التبعات بوضعية إدارية مجحفة إلى حين تقاعده بمرتّب هزيل. أمّا كيف نجا الأستاذ باحسن بنفسه وبرفيقة دربه وبأولاده وسط كلّ هذه المحن؟ فذلك هو السؤال الوجودي والنضال السّري بصيغة ثانية.
ولم تكن سنوات الثمانينيات أفضل من السبعينيات لدى باحسن، الذي اعتقل مرّة أخرى لمدة شهر بتهمة الاستمرار في النضال السري وإخفاء المناضليْن «جبيهة رحّال» و»سيون أسيدون». قبل أن يُعاد إلى المكان الأول «درب مولاي الشريف» حيث قضى ثلاثة أشهر (1988) بدون محاكمة أو مؤازرة قانونية كما هو دائمًا. وفي الحقيقة يصعب رصد كرونولوجيا دقيقة لعدد المرّات التي اعتقل فيها صاحبنا، وذلك لتقارب تواريخ الاعتقالات وتداخل التهم وتواتر السياقات الثقافية والأحداث السياسية التي شارك فيها من إضرابات واحتجاجات. ولكنّ الصورة تبدو مكتملة لمناضلٍ اختار مبكرًا «النهج» الذي يرتضيه لحذائه متجهًا «إلى الأمام» دون أن يستدير أو يتأسّف على حالٍ.
نريد أن نصل إلى فترة التسعينيات، التي تميزت بانفراج سياسي وحوار مع المعارضة. ونتوقّف باقتضاب عند نشاطه السياسي والحقوقي والثقافي؛ حيث انتسب باحسن إلى حزب النهج الديموقراطي، وساهم في تأسيس فرعه بالخميسات. كما شارك في تكتّل الإطارات اليسارية التي طالبت بإطلاق الزعيم النقابي نوبير الأموي. بالإضافة إلى عضويته ونشاطه في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، ومساهمته الفعّالة في تأسيس جمعية «تاماينوت» الأمازيغية. فضلًا عن نشاطه في الجمعيات الثقافية ذات التوجه اليساري وحضوره الدائم في المسيرات التضامنية مع فلسطين بالرباط. ومع ذلك، نقول ليس كلّ هذا ونكتفي بما ذكرناه احترامًا للرجل الذي كان يأبى أن يدفع بنفسه إلى منصات الأضواء، مكتفيًا كعادته بابتسامة ساخرة تختصر كلّ شيء، ونظارات شمسية سوداء لا أحد يتكهن ماذا يرى وفي ما يفكر. وقد جعل من قراءة الكتب والروايات زوّادة لأيامه، ومن حُسن الإصغاء واحترام جميع الإطارات السياسية والحقوقية خصيصة جوهرية لشخصيته.
وإذا كانت جنازة الكاتب المغربي محمد شكري، قد عرفت حضورًا لافتًا من المثقفين وقرائه المعجبين، وبما في ذلك صديقات الكاتب ونساء من طنجة في مشهدٍ بدا استثنائيا في طقوس الجنائز المغربيّة، فإن جنازة باحسن، الذي رحل الأسبوع الماضي بعد معاناة مع المرض، قد عرفت حضور لفيفٍ من الشّخصيات السياسية والحقوقية والنقابية. حيث رفع رفاقه شعارات الصمود والوفاء وتناوبوا على تأبينه بكلمات تليق برصيده النضالي. وبما في ذلك كلمة الأستاذ أحمد الهايج، الرئيس السابق للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، الذي وصف سيرة الراحل النضالية بالصعبة والمؤلمة. ولم تخذل النباهة حَفَظة القرآن فالتقطوا الإشارة ونعتوا الراحل ب «الرفيق» مما سرق ابتسامة من بعض الحضور بالرغم من المقام الحزين. أمّا أخوه ورفيق دربه في النضال والحياة إدريس باحسن فقد رثاه بقصيدة مؤثرة يقول في مقطعٍ منها: قف مرّة أخرى يا رفيقي/ما أحوجنا لقدومك ليحرز شعبُك النّصرَ/ الذي طال انتظاره/شعبٌ طاله النسيان/قف دومًا ليُعلنَ أنَّ الميدان لنا/شعبٌ قالها/ والشّمس لملمت كلامَه بلسان بول إيلوار/ أبدأ حياتي من جديد/ وقد لدتُ لأعرفك/ ولأسّميكَ الحرية».
في النهاية، تبقى سيرة حسن باحسن نموذجًا للمناضل الذي تحمّل كرابيج الجلادين دون أن ينهار أو يشي بالرفاق. الذي أعطى ولم ينتظر يومًا أن يأخذ. الذي دافع عن المهمشين دون أن يدفع بنفسه إلى المركز أو الواجهة. الذي صرخ واحتجّ من أجل قضايا الناس دون أن يساوم تحت الطاولة أو يسعى إلى المجد الشخصي. الذي ثار دون أن يسعى إلى الثروة. وكان واضحًا في نضاله وحياته مثلما كان رحيله في يومٍ مضيئ ومشمسٍ كالحرية. وهل يملأ الرّفاق غيابه؟
بورتريه .. حسن باحسن: هل يملأ الرّفاق غيّابه؟
الكاتب : حسن بولهويشات
بتاريخ : 14/11/2025