بوعميرة..؟

 

أشياء كثيرة تشد الزائر لهذا الحي وهو من ضمنهم؛ شوارع نظيفة مؤثثة بنافورات متعددة الأشكال تتدفق ماء زلالا، فضاءات خضراء وحدائق نضرة، مؤسسات تعليمية من التعليم الأولي إلى العالي، مركبات ثقافية، مستشفى وصيدليات، قمامات مفيأة حسب طبيعة ونوع الأزبال تجمع وتعالج وتتحول إلى منتجات نافعة، أماكن خاصة للعب الأطفال، أسواق دورية يخصص لها شارع كامل، وفق شروط وأوقات معينة ومنظمة بنظام داخلي، يستفيد منه الباعة المتجولون، عكس ما نراه في أغلب شوارعنا وطرقنا من فوضى عارمة في هذا الصنف من التجارة العشوائية بدون حسيب ولا رقيب.. ممرات وطرقات آمنة، بنايات متراصة ذات تصميم وارتفاع موحد، متاجر تفتح أبوبها وتغلق في وقت واحد، سيارات الأجرة تأتيك عند الطلب ولا يزاحمك فيها شخص آخر أو شخصان بإيعاز من السائق كما يحدث عندنا، قطارات سريعة وكأنها خلية نحل لا تكف عن الحركة تسافر بك طولا وعرضا عبر أنفاق تحت الأرض، حب العمل كيفما كانت درجته والتفاني فيه، احترام خصوصيات الغير كيفما كان شكله ولونه وانتماؤه، فقط خذ بنصيحة «احترم تحترم».
خرج ذات يوم مع أنس لقضاء بعض الحاجيات. ركن الابن السيارة على جانب أحد الطرقات الفرعية. قضيا مأربهما وعادا بعد مضي ما يناهز ثلاثين دقيقة. تبخرت السيارة ولم يعد لها وجود في المكان الذي وضعت فيه!.. أهو بوعميرة من اختطفها؟ صرح بشكل عفوي!..
– ومن هو بوعميرة هذا؟
– إنه طائر مغربي كاسر ينقض على فريسته بدون رحمة، وقد شبه بطاقم الديبناج هناك في بلدك الأصلي. انبعثت من أعماقه ضحكات هستيرية مسترسلة وهو يردد:
– كم هو لطيف هذا الاسم؟ لأول مرة أسمع به. طيب، لديكم «بوعميرة».. وفي هذا البلد لديهم ما يمكن وصفه «بالحمام الزاجل».. إنه طائر وديع، عكس طائركم، يحمل ما يؤمر به بلطف وكياسة وينقل حمولته بكل عناية ورفق حتى يصل بها إلى المكان المنشود..
انتظر من الابن أن يزبد ويرغد ويستنكر ويطلب النجدة كما حدث معه عندما فقد سيارته في موطنه. لكنه كان هادئا، متماسكا، واثقا من نفسه وهو يلتقط ورقة ثبتت بشكل جلي في جزء بارز من الرصيف حيث كانت السيارة مركونة. تفحصه.. ابتسم وهو يردد: «لقد ارتكبت مخالفة.. لم أنتبه ليافطة تنذر بعدم السماح لتوقف السيارات على امتداد هذا الرصيف في أوقات محددة تعطى فيها الأولوية للتسوق. علينا إجراء بعض الترتيبات الروتينية لاسترجاعها».
سبقه فضوله وقال:
– ماذا يوجد في تلك الورقة؟
– بيانات تتعلق بالسيارة التي كانت في وضعية غير نظامية بعد أن التقطتها أعين لدورية الشرطة، وحملها طائرهم الزاجل إلى الفوريان؛ وهو شيء معمول به هنا كنوع من التوجيه لصاحبها حتى يكون على بينة من مصير سيارته؛ تعرف هذه البطاقة بمالكها، ونوع المخالفة، والوقت التي سحبت فيه، واسم الفوريان الذي أخذت إليه.. كتم حسرته ولم يشأ البوح بما حدث له في بلده مع بوعميرة وطاقمه.. مع الفوريان وحارسه.. مع، ومع.. كرر مع نفسه نفس السؤال الذي يقلقه كما يقلق غيره من أبناء وطنه: «لماذا لا نأخذ من هؤلاء القوم مثل هذه الأشياء الجميلة، فرغم بساطتها إلا أنها تعد نموذجا لتكريس المبادئ الأساسية في التربية على المواطنة وحقوق الإنسان؛ من عز، وكرامة، وعدل، ومساواة.. فهل قدر لنا أن نكون معزولين عن هذه الحقوق الكونية ولو في أدنى مستوياتها؟»
استفاق من هذه الأفكار المربكة على صوت محرك سيارة توقفت بالقرب منهما. كانت لصديق أنس قدم للمساعدة. امتطياها وبدأت رحلة البحث عن المفقودة حسب تصوره، لكن فرضيته لم تصب، والعملية برمتها انتهت بسلاسة ولم تتطلب الكثير من الجهد والعناء.. الأمور هنا تختلف كثيرا مما هو عليه في الوطن؛ شباك واحد وأداء واحد وكل شيء واضح وشفاف، مبني على احترام الحقوق والواجبات..
إن أكثر ما أدهشه في هذه العملية هو المحجز عندما ولجه رفقة الابن وصديقه. فضاء رحب يستقبل السيارات الوافدة؛ شاسع، متكامل، معد بشكل مضبوط ومتوفر لشروط الاستقبال. ذو بنية صلبة، غير مكتظ بالمحجوزات، يراعي خصوصيات من يفد إليه سواء تعلق الأمر بالسيارات التي يتكلف بإيصالها الطاقم الوديع «حمام الزاجل». أو بأصحابها الذين يأتون وهم مطمئنين على ممتلكاهم. أيقظه أنس من هذه التأملات وهو يخاطبنه ساخرا: «هنا تستقبل السيارات بعناية وتوضع في مكان آمن بدون «تجرجير» ولا تعسف ولا تخضع لذلك الإكراه البدني، حيث تترك تحت أشعة الشمس الحارقة وتطاير الغبار والأتربة، معرضة للخدش والضرب كما هو عليه الحال عندكم..»
نعم، بالتأكيد! المرآب يبدو متكاملا، نظيفا، محميا من سوء أحوال الطقس، ومن اللصوص والمعتدين.. مسقفا ومحروسا، منتظما ومنظما. يستقبل السيارات المخالفة لقانون السير، فترتب وتصنف حسب نوعها وحجمها، في انتظار مالكها..» أجابه بتلقائية.
كان أحيانا يتيه بين المعالم الثقافية والعمرانية والطبيعية لهذا الحي الجميل، ويضع مقارنة بين ما يزخر به من منشآت على اختلاف أنواعها، تلبي الرغبات والحاجيات الضرورية والتكميلية والترفيهية للساكنة، وتوفر لها سبل العيش الهني.. بالمقابل تتضاءل بشكل رهيب مثل هذه المنشآت في معظم الأحياء المحاطة بالمدينة التي يقطن؛ لا شيء ذا قيمة يذكر؛ لا شيء أعد للأطفال لكي يمارسوا حقهم الطبيعي في اللعب خارج أسوار البيت.. لا شيء أعد للشباب واليافعين لمساعدهم على الارتقاء بالحياة نحو الأفضل والابتعاد عن العنف والمحرمات.. لا شيء أعد للمسنين والمتقاعدين والمرضى، يموت معظمهم في صمت وعزلة.. لا شيء أعد لإخراج الساكنة من الجمود والخمول واليأس.. أحياء تنبت كالفطر بدروب ضيقة. وأزقة مهملة مكتظة عن آخرها بمساكن هشة، صامدة بقدرة قادر، متلاصقة تستنجد بعضها البعض مخافة أن تنهار وتهوى بثقلها على الأرض. لا وجود للأشجار، ولا للأزهار، ولا للعشب الأخضر تقلل من تلوث الهواء. ولذلك فلا يمكن لهذه البيئة أن تنتج إلا وجوها متجهمة، عبوسة، ناقمة على كل شيء، ولا يهمها أي شيء. تطلق شرارة التذمر، والحقد، والاعتداء، والسطو، وأحيانا تصل المعاناة إلى حد الانتحار بإحراق الذات، أو القتل المجاني، أو الاشتباكات لأتفه الأسباب..
قضى في هذا الحي وفي غيره من بعض الأحياء المتعددة التي تزخر بها مدينة مدريد الإسبانية مدة تكفي لإثارة أسئلة حارقة عن واقع أحيائنا ومددنا، وردد مع نفسه سؤالا لم يستطع عقله فك رموزه:
«من المسؤول عن تردي أوضاعنا؟ هل يعود الأمر لمن توالوا على تسيير شؤون البلد..؟ للمنتخبين..؟ للسياسيين..؟ للمواطنين..؟ لمن..؟؟»
أسئلة معلقة وستبقى دوما معلقة ما دام الصراع يزداد احتداما على السلطة. على ضرب التعليم والثقافة في العمق. على تغييب التربية الإنسانية الخلاقة. على تردي السلوك والأخلاق. على سوء التسيير والتدبير. على تحقيق الرغبات بالعنف؛ هذا العنف الذي يفرض ويتحول إلى قانون لا بد أن يطاع وكل من يخل به يعاقب بعنف أكبر. لماذا يشعر المرء بالأمان في بلد يرتب في ذيل الدول الأوروبية، وبالقلق في بلده. بتلمس الصدق هناك، والكذب هنا في بلده. بنبذ ومحاربة الغش والفساد هناك، وإباحته هنا في بلده. باحترام إرادة الناخبين هناك، وإفسادها هنا في بلده. بالمساواة هناك، والظلم والشطط في استعمال السلطة هنا في بلده. بتشجيع المبادرات والتحفيز هناك، وعرقلتها هنا في بلده. بتطبيق شعارات المنتخبين والسياسيين على أرض الواقع هناك، وإقبارها هنا في بلده.. بكرامة الفرد هناك، والإساءة إليه هنا في بلده. بتعويد التلاميذ على المنافسة الشريفة وتدريس برامج تعليمية متقدمة وناجعة هناك، وتعويدهم على الغش في الامتحانات والغش في البرامج التعليمية والغش في بنية المؤسسة والأقسام هنا في بلده.. بتوفير شروط الحياة الكريمة هناك، وسلبها هنا في بلده.. بالتضامن والإيثار والتسامح هناك، والعدوانية والتفرقة والكراهية هنا في بلده.. فماذا ننتظر بعد كل هذا..؟
اختلط عليه الأمر ولم يعد يفهم أي شيء. ومع ذلك فقد أدرك مستنتجا بأن الشيء المفقود في هذه المعادلة ربما يعود للفكر؛ هناك يسمح لهذا الفكر أن يتحرر، ويتطور، وينمو، ليبلغ أقصى مراتب الخلق والإنتاج والإبداع. بينما يبقى الفكر هنا فكرا مكبلا سجينا.. سجين التقاليد.. سجين الطابوهات.. سجين الأعراف.. لا يسمح له بالتطور ولا بحرية الاختيار.. ولا بحرية الرأي.. ولا بحرية الموقف.. فكيف يمكن لهذا الفكر السجين أن يتطور ويخطو خطوة واحدة إلى الأمام؟؟
استحوذت على مخيلته كل هذه المتناقضات بين عالمين لا يفرقهما إلا مضيق صغير وهو يعبره على متن عبارة تتنقل بين ضفتين، عائدا إلى الوطن وذاكرته قد تكيفت نوعا ما مع جزء من نمط الحياة هناك. لا زال يحلم بحياة فاضلة في وطن فاضل فيه احترام لقانون السير، احترام للإنسان صغر شأنه أم كبر، احترام للحريات، احترام للديمقراطية كما هي متعارف عليها عالميا.. تلاشىت كل هذه الأمنيات والأحلام لما وطئت قدماه تربة هذه الأرض الطيبة؛ لاشيء تغير. تغيير توقف عند إصلاح وترميم الشوارع لكنه لم يشمل الفكر الذي يعتبر المحرك الأساسي للأفعال والتصرفات والتطور والتقدم.. وجد صعوبة في التأقلم من جديد مع صنف ابتعد كثيرا عن ما ورد في الآية الكريمة: «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر». فهل يوجد منكر أكبر من سلب حرية الفرد، وشل فكره، وعقله، وتنويمه مغناطسيا بالشعارات الطنانة والخطابات الرنانة بدون فائدة؟؟؟
وهو يهم بإيقاف طاكسي أجرة رفقة زوجته، اقتنصت عيناه صدفة طاقم بوعميرة وهو ينقض بدون رحمة على إحدى الفرائس، يكبلها بأغلاله، يرفعها بعنف ويجرجرها إلى….


الكاتب : محمد مجعيط

  

بتاريخ : 28/09/2018