هو عرض لا يخلو من الاختزال بسبب ضرورة الاطلاع على المتن الفكري الواسع الذي يحيل عليه ويحاوره ذ العروي في هذا الكتاب. وهذه مهمة صعبة لا ندعي القدرة عليها، مما يجعل من العسر عرض الكتاب عرضا شاملا.. خارج أفق ذ العروي الروائي، وحتى المسرحي (رجل الذكرى)، والسينمائي ذوقا ونقدا ( خاصة في سيرة « أوراق «).
خارج هذا الأفق سياقا..وتعبيرا..وتكملة..وحرية.. يأتي هذا الكتاب كتركيب (مونطاج)..وإجمال..واستحضار مركّز مركّب لسيرة وهمّ ذ العروي الفكري والتاريخي والتاريخاني..وكإعادة توكيد لأطروحاته ومشاريعه الفكرية، خاصة بعد التحولات العارمة التي عرفها ويعرفها العالم، ومنه مغربنا والمجال العربي الإسلامي منذ انهيار المنظومة الشيوعية مع بداية عقد التسعينيات من القرن المنصرم. ولا يعفي هذا الكتاب، طبعا، من ضرورة الاطلاع على مجمل الإنتاج الفكري والتاريخي للعروي..بل يستحثه ويدعو دوما إلى إعادة قراءته وتمثله، ليس معرفيا فحسب، وإنما، وهذا هو ديدن الرجل وهمّه، إيديولوجيا إجرائيا نفعيا سياسيا..إن هذا الكتاب يؤكد على أن مشروع ذ. العروي الإصلاحي لا تزال صلاحيته وملحاحيته على جدول عملنا السياسي..
قبل تناول محاور الكتاب الأساسية بنظرنا، وجبت الإشارة إلى ثلاث مسائل: الأولى تهم البنيان الشكلي للكتاب، إذ يمكن القول إن الكتاب صيغ في شكل شذرات وإن مطولة نسبيا..40 عنوانا في 159 صفحة..بمعدل 3 صفحات لكل عنوان تقريبا..وتغطي العناوين مجمل سيرة واهتمامات ذ العروي الفكرية. لم يسبق للرجل أن كتب بهذا الشكل، وأما المقاطع الشذرية في (خواطر الصباح) فهي من ضرورة كتابة اليوميات.. وتهم المسألة الثانية السياقات العائلية (لقد تشرّب العروي من والده إسلاما، ليس كسنة ومعاملات وواجبات سماوية، ولكن إسلاما يخاطب عقله ويعترف بفردانيته وحرية إرادته) والتعليمية والبحثية والسياسية من مراكش مرورا بالرباط ووصولا إلى باريس..وهي سياقات وجّهت بوصلة الهموم والاهتمامات الفكرية والإيديولوجية.. وأنا أتحدث هنا لست بباحث مختص أدعيه..ولكن بصفتي فقط قارئا مولعا بالرجل . وقد قرأته في عدة محاولات كتابية سابقة. وهيهات لو تحوّل قارئ ذ العروي إلى جمع..إلى مجتمع.. وتتعلق الثالثة، بالترجمة الحرفية السلسة والمركزة التي قام بها ذ عبد السلام بنعبد العالي للكتاب، ترجمة يبدو للقارئ أنها كتبت بلغة ذ العروي العربية الفكرية.. يقول « الحقيقة أنني مشيت دوما على قدمين، التاريخ والفلسفة..» (ص7). من هنا دلالة عنوان الكتاب (بين الفلسفة والتاريخ). إنه لا يرضى ولا يقتنع بنتائج البحث التاريخي الصرف، بل يسعى إلى ما وراء هذه النتائج من « أجوبة عن أسئلة فلسفية بيّنة «(ص7). وبما أنه يفضل العمل على النظر، فإن انشغالاته الفلسفية لا تكون إلا بإيحاء وتوجيه وإطار البحث التاريخي. وهكذا طلّق تدريجيا الرومانسية والفردانية، وعموم المنظومة التربوية الفرنسية، ليسلم بعقلانية شديدة الارتباط بالوضعانية والواقعية.
تعرض ذ. العروي للمد الماركسي في باريس باعتباره « أفق العصر» وقتذاك، لكن دون أجندة أو تجنيد إيديولوجي حتى وهو يطرق باب مكسيم رودنسون الذي ظل ماركسيا شيوعيا حتى عام 1956 . وقد تقوّى هذا المد باهتمام الرجل بالحاضر..وانجذابه نحو علم الاجتماع..
إن تأثير المكان والزمان (باريس خمسينيات القرن 20 أساسا) أثرا على مسار واهتمامات ذ العروي الفكرية، وهو تأثير كان مختلفا عن مثقفين آخرين من المغارب أو الشرق الأوسط ممن توجهوا نحو انجلترا أو أمريكا أو ألمانيا . هذا إضافة إلى أثر الشؤون السياسية لبلده المغرب..كما أثر أصوله الاجتماعية.. أما المناخ العام خارج برنامج مدرسة العلوم السياسية، فقد تميز بجدل محموم وواسع حول التاريخ والفلسفة والثورة والرأسمالية والماركسية. وقد كان نصيب التاريخ وعلم الاجتماع والاقتصاد أقوى وأجذب من نصيب الفلسفة. ولم يكن ذ العروي الذي يدرس التاريخ والاقتصاد والسياسة بمنأى عن هذا الجدل، إلا أنه لم يبد أي انحياز أو اعتناق لوجهات النظر السياسية في هذا الجدل، إلا المساهمة في تعميق تكوينه المحتكم إلى التاريخ كموجه أساسي، لأن الأخير وحده الكفيل بالفصل بين الآراء المتعلقة بالإنسان ومصيره (ص50). وبإلغاء نظام الحماية عام 1956 ، كتب على الرجل أن يواصل حياته الطلابية في دراسة التاريخ. وبما أنه يجهل اللغة اللاتينية، كان عليه أن يقتصر على التبريز في اللغة العربية، والعودة إلى أصوله بالتالي..ولئن تعلم ووعى ما هي الدولة الحديثة، فإنه لم يجد نفسه في الدولة المغربية ما قبل..وما بعد الحماية.. لقد أخذت القوى التقليدية المحافظة تعزز حضورها في البلاد، وعادت بالتدريج البنيات القديمة التي كانت قد أدت إلى الانحطاط، فالاستعمار (ص55). وبالموازاة صعدت نزعة صوفية متخلية عن العالم..منتظرة التمتع بـ « نعم الجنة «.. إن مفاهيم الانحطاط، والتأخر، واللامساواة، والمعرضة، والصراع، والهزيمة، والاصلاح، والانسداد، والثورة، والرجعية وغيرها.. مما تعلمه الرجل في الفصل، وجدها محللة تحليلا عميقا في النصوص الكبرى التي كان يقرأها وقتذاك. إن أوضاع الواقع والنصوص المقروءة تضيء بعضها البعض، لأن أصحاب هذه النصوص ( هيجل وماركس مثلا) كانوا يعيشون وضعا مماثلا. لقد كان ذ. العروي يقوم بعمل مؤرخ عندما يعكف على الوضعية الخاصة للمغرب، ناهيك عما توفر له مهنة التاريخ من استقلالية ونزاهة شخصيتين. ويتحول إلى عالم اجتماع عندما يلتفت إلى الثقافة (العربية الإسلامية). ويقتحم ميدان الفلسفة لما يركز انتباهه على المفاهيم التي يوظفها. إن تخصصه في مجال لا يسمح له بتجاهل المجالين الآخرين. يتابع ذ العروي القسمة الثلاثية عند أفلاطون، وفي المسيحية، وفي روما، وفي الإسلام، وفي العصور الوسطى الأوربية، وفي النمذجات السياسية الحديثة والمعاصرة، وعند ماركس ما قبل التاريخ وخلال العصور التاريخية، وفي أشكال الدخل، وفي مصادر رأس المال، وعلى المستوى الطبقي (من ص 61 إلى ص67). هذه القسمة الثلاثية قد تكون « ذات دلالة مشتركة « بين الشعوب، ولكن على حساب التلاعب الواضح بالمعطيات التاريخية.
دفاعا عن التاريخانية
التاريخانية عند ذ. العروي « علامة على تواضع «، جسر نحو العمل والإصلاح، « قدر وليست اختيارا «(ص7 )، قدر أملاه عليه « المكان والظرف «(ص9). التاريخانية تحضر بشكل خاص جدا لما يتعلق الأمر بدراسة النقاشات العمومية (نقد الإيديولوجيات)، لأن هذه الدراسة هي مدخل للممارسة السياسية. إنها (= التاريخانية) تتيح للتاريخ وحده بأن يبرر المقارنات والتشابهات والتقديرات..(ص60). ولعل في حديث لنين عن النواة العقلانية للجدل الهيجلي أنها « جبر الثورة (…) أكثر تحديدات التاريخانية دقة وصوابا « (ص67 ). إن الحداثة لما « تصبح فكرة يتعين فهمها واستيعابها وتقليدها، فإنها توفر أساسا موضوعيا لما ندعوه تاريخانية بالمعنى الدقيق للكلمة» (ص67 ).
لقد عرف تاريخ أوربا الغربية، كما حدث وتطور، وكما نظر له في ما بعد، ثلاثة مواقف فكرية متمايزة ومتوالية..هذه الصورة موجودة أيضا في تاريخ العرب الحديث (منذ عصر النهضة). إن معرفة التاريخ الأوربي هي التي مكنت من ترتيب أفكار النهضة العربية بدلالة الزمان..وهي التي مكنتنا من التوقف عند العدد ثلاثة. إنه دائرة إذن، لكن ليس بمعنى الدور المنطقي، تكشف عنها نظرية التاريخ. بالمستطاع تجنب الدور المنطقي، لكن لا وسيلة للانفلات من الدائرة إلا في حالة إنكارها مبدئيا، «وهذا ما يقوم به أعداء التاريخانية من غير تبرير «(ص72 ).
لا فكاك من دراسة بلد من أوربا الغربية حتى تتم « وتتزايد المراجعات، والإعادات، والتكرارات التي تجد نفسها في الاتصالات والحروب والمبادلات التجارية «(ص73). وهنا يكمن أصل الدائرة: – يقنع الفرنسيون والانجليز أنفسهم أنهم لم يعودوا يفكرون حقا مثل أهل العصر القديم والوسيط..لكن هناك من يرغب في أن يستمر في هذا التفكير والنتيجة احتجاج فنزاع فحرب، وهذا هو جوهر الإصلاح الديني. – بعد قرنين ستظهر أزمة جديدة، والمتهمون هذه المرة هم الملك والكنيسة والنبلاء: وهذه هي استحقاقات الثورة السياسية في عدة بلدان أوربية غربية. – في القرن الموالي، وبعد حل المسألة الدينية والعطب السياسي تبين أن وراء الاثنين تتمطط أزمة من طبيعة اقتصادية تهم إنتاج الخيرات التي تحافظ على حياة البشر والمجتمعات (ص74). وهنا اشتد التنافس والصراع والحرب من جديد بين الأمم الأوربية التي كانت قد طوت الأزمة الدينية ثم السياسية. وهكذا هي نفس المخططات ونفس المراحل لأجل الإصلاح والتجاوز..
أما باقي العالم في نظر هذه الأوربا، فهو عصور وسطى لا تزال حية، وبالتالي وجب القضاء على هذا الباقي حتى يؤكد الأوربيون سيادتهم على الأرض وحدهم. إن من حق ضحايا أوربا من هذا العالم الباقي أن يتساءلوا لماذا الانحطاط والهزيمة..ويردون الفعل كما فعل مستعمروهم قبلهم، فيكتشفون أن مشاكلهم المطروحة في عالم التنافس والصراع، تدور دائما بنفس الترتيب: الله ومشكل الألوهية والدين، بنية المجتمع ونظام الحكم، أنظمة إنتاج الخيرات والعلاقة مع الطبيعة..هي الدائرة نفسها، إذن، و لا اختيار أمام المغلوب في هذا التنافس/الحرب إلا استعمال أسلحة الغالب، « أو أن يقول وداعا للتاريخ. في هذا السياق، وعند هذا المستوى، ليس للتاريخانية أي معنى آخر.»(ص75). إن التاريخانية مثال يحتذى لما يفرض التاريخ نفسه كنظام..(فماكيافيلي تاريخاني لما كتب مؤلفه الأمير). إنها لا تعمل إلا على التنظير للواقع التاريخي الفعلي « الذي نادرا ما يكذب». فمنذ أن دخل الإنسان التاريخ كحيوان سياسي وهو « يتتلمذ على مدرسة التاريخ، وليس على مدرسة الأخلاق، ولا الديانة أو الفلسفة (الحكمة)، اللهم إلا عندما كانت هذه تنزل نحو الأرض وتصبح تاريخانية «(ص77). إن التاريخانية تعبر عن واقع مجرب، ومن دونها لا يمكن تصور نظرية للعمل السياسي حتى أن الطوباوية والأوكرونية (أي التاريخ كما كان ينبغي أن يكون) لا يمكنهما أن يستغنيا عنها..(ص78). وعليه، ستظل التاريخانية هي الأساس العقلاني لكل وطنية إصلاحية تتخذ التاريخ دليلا ونموذجا للاحتذاء، ومشروعا للإنجاز. إن دراسة الوطنية المغربية التي تبلورت خلال الاستعمار تؤكد وتؤيد صدق صلاحية التاريخانية. إن الأخيرة تغلق الأبواب أمام الخيال، وتزيح تاريخا ليس هو كذلك بالتعريف. ومن ينفي التاريخ يعدم السياسة ويهجرها بعيدا عن التاريخ البشري..وما نسيان الوجود، إلا نسيان للتاريخ. التاريخانية هي الوعي بأن فعالية السياسة الجماعية هي التاريخ تحديدا، وهي بالضرورة شكل من أشكال الواقعية بما تنطوي عليه الأخيرة من « اكتشاف تدريجي، ومكسب بطيء، وتعلم شاق «(ص125)، وهذا يعد في الذهنية المعممة للتقاعس والتشاؤم واليأس، حصيلة انهزامية. ولعل التاريخانية، في الإصلاحية الوطنية، تحرر على الأقل من هذه الذهنية.. ترتاح وتسعد عزلة الحكمة في أن « التاريخ يخضع والفلسفة تحرر «..لكن بمعرفة تجارب واختيارات أخرى يمكن عكس الآية « إن التاريخ يحرر وإن الفلسفة تخضع «. (ص126).
لقد تزامن نهاية العهد الاستعماري في فرنسا مع إشاعة تاريخانية مضادة كان دافعها الأساس هو إحياء الكانطية، حيث وقع التركيز على أخلاق كانط التي تلائم النموذج العلماني للجمهورية الثالثة. لم تستطع هذه التاريخانية المضادة إنكار حقيقة التاريخ بقدر ما تعلقت بالحط منه نظريا..وبما « أن التاريخانية هي نظرية الفاعلية السياسية «(ص131)، فإنه لم يكن بد عند هذه التاريخانية المضادة المتحولة من الماركسية (الإيديولوجيا في نظرها..) إلى البنيوية (العلم في نظرها..)، لم يكن بد عندها من التظاهر بالالتزام الاجتماعي والنشاط السياسي وحقوق الإنسان.. لقد أعلمت نهاية الاستعمار بفشل التاريخانية، أو بالأحرى التنكر لها في فرنسا خاصة، بنفس الوضوح الذي جعل إيديولوجية الإصلاح الوطني تبعثها من رمادها..(ص132).
إن المصادقة على التاريخانية، يقتضي المحافظة على إمكانيات الفلسفة، وليس الفلسفة. الأخيرة هي، حقا، عصارة الفكر البشري، « إلا أنها تأتي دوما قبل الأوان «..والمبتغى اليوم اتخاذ الإجراءات العملية المنتجة للثروات والمطورة للعلوم والتقنيات..(ص151). فأن نصبح « عاديين « على غرار شعوب أخرى سبقتنا، ونخرج من وضع غير عادي ( وضع الاستعمار والتأخر) هو المؤشر لنجاح الإصلاح..هو شفاء « من جروح التاريخ بالتاريخ « (ص159). صحيح أن وراء فشل مشروع الدولة القومية أسبابا موضوعية وذاتية، داخلية وخارجية..وفكرة هذا المشروع ليست ضربا من العبث، لكن لا دوام لدولة، في عالم اليوم والغد، لا تتوفر « على الخصائص الأساسية لدولة قومية، أي على جيش وإدارة واقتصاد وثقافة تتلاءم مع ما يقتضيه المفهوم «. وأما الاحتفاظ بالنظام القديم « في مدونة الأسرة والأخلاق الاجتماعية، سيظهر بالضرورة كتعلق متعمّد بآثار قديمة « (ص158).
المفاهيم
كتابة الرسالة، ليست هي كتابة الأطروحة. الأخيرة تحتاج وقتا أطول لأنها تروم الاستيفاء، بينما الرسالة تجيب عن أسئلة الراهن باعتماد الوسائل المتوفرة لأجل الإقناع. نعم الفكر/ الأطروحة يدّعي التعبير عن الحقيقة بوفاء وتماسك..والإيديولوجيا (التي كانت تسمى فقط رأيا) هي، أيضا، وفية للواقع ومتماسكة..إنما تكمن بداهتها في « الاعتقاد وحده» (ص68).. هزيمة فرنسا سنة 1870 جعلت من كتابات إرنست رينان، وهيبوليت تين الضخمة رسائل من طبيعة سياسية مؤقتة، رسائل تحلل حالة ذهنية عامة، دوكسا مشتركة، وبكلمة إيديولوجيا..ولم يحفل بهما رجال الفن والعلم والآداب من مواطنيهم.. نفس الأمر حصل مع المفكرين العرب والمسلمين، الكثير منهم واصل أنشطته المعتادة دون التساؤل: لماذا الانحطاط (ص69).
الإيديولوجيا شكل خاص من أشكال التفكير..والمنتجات الذهنية في الفن والفلسفة والعلم يمكن أن تتحول إلى إيديولوجيات، لكنها بحكم تعريفها، ليست « إيديولوجيا على نحو ثابت وكلي «(ص69). «وإذا كان كل حكم، وكل إثبات، وكل ملاحظة، وكل فعل، إذا كان ذا مضمون إيديولوجي، فإن نقد الإيديولوجيا ونقد النقد هو أيضا إيديولوجيا على حد سواء»(ص69). لقد صار مصطلح إيديولوجيا محل ارتياب وشبهة وعدوانية وشتيمة..فتم استبداله بمصطلح خطاب الذي يبدو بريئا وأكثر حيادا في الظاهر..فأعطيت الكلمة للسانيات والنقد الأدبي على حساب التاريخ وعلم الاجتماع..إن ما يحدد المرمى الصريح للإيديولوجيا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا، وما يبرر الحكم عليها وعلى فعاليتها « هو العلاقة التي تسارع هي نفسها إلى ربطها مع التاريخ»، إنها علاقة وسيلة بغاية (ص70). إن استبدال الحديث عن الإيديولوجية العربية بالخطاب العربي لا يعني توسل الشمولية والحياد والعلمية، ولكن يعني « تغيير التوجه، وقلب العلائق، ووضع الحدثي العابر محل التاريخي.» فالمصطلح الأول يحافظ « نظريا، على العلائق التي تربط الفكر بالعمل والبراكسيس». بينما الثاني يقطع هذه العلائق لكي يسمح للفكر «الحر المستقل» « بالعوم كي يهوى،كما لو كان بفعل الصدفة، على الإله أو الوجود أو العدم «(ص71). إن مفهوم الإيديولوجيا هو الذي يسمح بفهم التأخر والاستعمار والتبعية، بفهم ما حصل لأجل النجاة من الخروج من التاريخ. ولعل من شأن مفهوم الخطاب هذا « أن يفسر كون المثقفين يظلون غير عابئين بكثير من الأزمات في العالم» (ص71). إن وعي المثقف العربي بالوضع الذي يعيشه، يجعله إيديولوجيا عن طواعية وطيب خاطر، ويسقطه « بالضرورة تحت نير التاريخ المشترك «، كما يسقطه في التفكير الجدلي الذي يقود أفقه نحو التاريخانية العملية ذات الأخلاق النفعية الوضعانية. إن التاريخية تفسر كل حدث بشروط نشأته، والتاريخ ينظم نفسه بنفسه، لذا يكون في نفس الوقت تعاليا ومحايثة. في المحايثة يتجلى كفعالية واعية للإنسان (=مستوى التاريخية)، وفي التعالي يفرض نفسه كنظام، ومثال للاحتداء سيما تحت ضغوط الفشل، (= مستوى التاريخانية). إن ماكيافيلي يقوم بالتاريخية عندما يؤلف (تواريخ فلورنسية). إن الفعل في التاريخ، نجاحا أو فشلا، لا بد أن يأخذ في الاعتبار ما مر من الماضي من نماذج وموقف وقرارات وكلام، على الرغم من أن هذا الماضي لا يعود أبدا بنفس الشكل. الإيديولوجيا لا نميز فيها بين الصدق والكذب، وإنما بين مطابقتها أو لا مطابقتها..لأن الأمر يتعلق بالعمل والإنجاز. فهل يعطي الإيديولوجيون العرب للفظ حرية نفس المعنى الذين يريدون به تحرير الإنسان العربي من الخرافة، والاستبداد، ووهم العلوم الغيبية؟.
هم يطمحون إلى نظام اجتماعي اسمه الدولة، لكن بأي معنى يستخدمون هذا اللفظ؟ هل معنى القدماء، أم معنى الخصم العربي؟ أم مرة هذا و مرة ذاك؟ باسم العقل ينتقد ثلاثي الخرافة، والاستبداد، والعلوم الغيبية. فهل هو العقل نفسه الذي يعتقدون أنهم يشتركون فيه مع (حكماء الغرب)؟ (ص115). يتردد عندهم أيضا لفظ حقيقة تاريخية، لكن هل هناك إجماع حول قواعد التحقق التاريخي؟. وإذن، فقبل مفاهيم الإيديولوجيا والحرية والدولة والعقل، لا بد من شرح واستيعاب مفهوم التاريخ، والذي بدونه لا تتضح ولا تتحقق معاني ومفاعيل المفاهيم الأخرى. يتحدد العصر الجديد بتاريخ يتجدد عبر استعاداته المتواصلة، عكس التاريخ السابق الذي كان يستأنف لكي لا يتبدل. ومن هذا التاريخ المتجدد تتولد الإيديولوجيا كشكل جديد لفكر لم يعد كما كان. إن المفاهيم الخمسة مفاهيم محايثة. هي « أركان العقيدة الجديدة «. وهي تشكل كوكبة يمكن قراءتها في جميع الاتجاهات. ومنها تستخلص وتتعالق مفاهيم أخرى مهمة، لعل ناظمها وعصبها هو مفهوم الحداثة.