«بيوت الخزين» ‬بالواحات‮..‬ فضاءات لحفظ الذاكرة الجماعية والموروث الثقافي

‬لكل مجتمع عاداته وتقاليده التي‮ ‬يتميز بها عن‮ ‬غيره،‮ ‬وديدن الانسان الواحي‮ ‬التمسك بها كجزء من الموروث الثقافي‮ ‬والاجتماعي،فهو‮ ‬يحرص على أن تصبح موضع اهتمام بالنسبة له وطقسا‮ ‬يعتاد عليه باحتفاظه ببعض المشغولات اليدوية والمقتنيات وماورثه عن الآباء والاجداد كعربون وفاء لكل لحظة عاشها وأثرت في‮ ‬حياته،‮ ‬حتى خصص لها مكانا في‮ ‬منزله‮ ‬يدعى‮ “‬بيت الخزين‮”.‬
وينبع هذا التمسك من إحساس الانسان الواحي‮ ‬العميق تجاه الأشياء التي‮ ‬تصنع له رصيدا وإرثا كبيرين من الذكريات‮ ‬يستوقفه الحنين إليها كلما راوده طيف الماضي‮ ‬وشعر بالحاجة إلى استحضار مشاعر قد ولت،‮ ‬ولعل الاحتفاظ بالأغراض القديمة من ملابس وأثاث ومقتنيات شخصية وغيرها تشكل قيمة مضافة لدى بعض ساكنة الواحات،‮ ‬فالقديم مقدس لديهم،‮ ‬يذكرهم بالماضي‮ ‬ويبعث في‮ ‬نفوسهم راحة وطمأنينة‮.‬
وفي‮ ‬هذا الاطار،‮ ‬يقول الباحث في‮ ‬التراث المحلي،‮ ‬عمر حمداوي،‮ ‬إن الطابق الأرضي‮ ‬في‮ ‬بعض قصور واحات تافيلالت‮ ‬يتميز بوجود حجرة أكثر اتساعا تخصص لتخزين المؤونة السنوية للأسرة ويطلق عليها‮ (‬قصر الخزين‮)‬،مضيفا أن المواد التموينية أو الأطعمة بشكل عام لم تكن لوحدها محور الحفظ والتخزين،‮ ‬بل قد‮ ‬يتعلق الأمر أيضا بأغراض ومتعلقات شخصية تهم أهل البيت‮.‬
وأوضح الباحث،‮ ‬في‮ ‬حديث لوكالة المغرب العربي‮ ‬للانباء،‮ ‬أن تعدد أماكن الحفظ لم‮ ‬يكن بالضرورة نابعا من نزعة اكتناز أو ترشيد استهلاك مبالغ‮ ‬فيها،‮ ‬بقدر ما فرضته طبيعة المكان الذي‮ ‬كان‮ ‬يسع في‮ ‬أحيان كثيرة لعائلة كبيرة العدد تتشكل من مجموعة أسر لكل واحدة منها‮ “‬مجال وهامش حركة استراتيجي‮” ‬خاص بها تحظى فيه بالحميمية والخصوصية،‮ ‬ثم أماكن مشتركة تتشاطرها العائلة المقيمة في‮ ‬البيت جميعها‮…‬
وأكد في‮ ‬هذا الإطار أنه‮ “‬لا‮ ‬يخلو بيت من بيوت الواحة من‮ ‬غرفة ذات أهمية بالغة في‮ ‬حياة السكان اليومية،‮ ‬هي‮ ‬غرفة الخزين أو بيت الخزين،‮ ‬تكمن وظيفتها الأساسية في‮ ‬تخزين قوت العائلة على طول السنة‮ (‬المونة‮) ‬يشرف على تدبير شؤونها رب العائلة الذي‮ ‬يحتفظ بمفاتيحها ويحرص على عدم تسليمها لأي‮ ‬كان إلا لضرورة قصوى‮”.‬
وتابع أن هذه الغرفة تضم مجموعة من الأواني‮ ‬الفخارية لحفظ المواد الغذائية كالتمور والزيوت والشحم والسمن والعسل،‮ ‬والمطامر التي‮ ‬تستعمل لحفظ الحبوب والقطاني‮ ‬والثمار وبعض الفواكه الجافة،‮ ‬مشيرا إلى أنه إلى جانب‮ (‬المونة‮) ‬تحتوي‮ ‬غرفة الخزين على صناديق خشبية متفاوتة الأحجام تغلق بإحكام،‮ ‬لحفظ الحلي‮ ‬والمجوهرات والوثائق الشخصية‮ (‬عقود زواج،‮ ‬بيع،‮ ‬شراء،‮ ‬وصايا،‮ ‬صور‮) ‬وقد تكون هذه الوثائق ذات طابع جماعي‮ (‬اتفاقيات،‮ ‬أعراف،‮ ‬ظهائر،‮ ‬عقود،‮ ‬مراسلات‮) ‬خاصة إذا كان صاحب البيت‮ ‬ينحدر من عائلة نافذة‮.‬
وأبرز‮ ‬،‮ ‬حمدواي‮ ‬،‮ ‬في‮ ‬هذا الصدد،‮ ‬حرص بعض الساكنة الواحية على حفظ كل الأدوات والقطع والتحف التي‮ ‬لم تعد تصنع أو تستعمل لتكون آية على ثقافة الأجداد وما تركوه من إرث لأحفادهم،‮ ‬حيث ما تزال محفوظة في‮ ‬مكان آمن ويتم إخراجها في‮ ‬مناسبات واجتماعات العائلة،‮ ‬معتبرا أنه على هذا المنوال بلغ‮ ‬الولع الجامح ببعضهم الى جمع الأدوات والقطع الأثرية النادرة في‮ ‬متاحف شخصية‮ ‬،‮ ‬وذلك بالنظر الى لقيمتها التاريخية والثقافية‮.‬
إن هذا الحرص والشغف بالموروث والعناية به‮ ‬،‮ ‬كما‮ ‬يؤكد الباحث،‮ ‬يتجلى في‮ ‬تبجيل التحف والنفائس الموروثة أو المهداة كالحلي‮ ‬والمجوهرات والأثاث،‮ ‬والحرص على عدم إتلافها أو العبث بها،‮ ‬أو حتى استعمالها بصفة دائمة،‮ ‬بالإضافة إلى الاحتفاظ بالأدوات الزراعية ومعدات العمل والحرف اليدوية وعدم الاستغناء على تلك التي‮ ‬تجاوزها الزمن،‮ ‬حيث‮ ‬يتم تخصيص‮ ‬غرفة لخزنها في‮ ‬الطابق السفلي‮ ‬للبيت‮ .‬
وأضاف أن من تجليات هذا الاهتمام بالموروث المادي‮ ‬أيضا التشبث بالنوادر والأشياء الثمينة كالوثائق والمخطوطات والقطع النقدية،‮ ‬والاعتناء بكل ما هو قديم وفاء لروح الأسلاف،‮ ‬وتقديرا للماضي‮ ‬العريق بعاداته وتقاليده وطقوسه ومعارفه وفنونه وآدابه‮.‬
من جهة أخرى اعتبر الباحث أنه بالرغم من اندثار العديد من أصناف وأنواع التراث؛ لاتزال الثقافة المادية والفنون الشعبية،‮ ‬التي‮ ‬تعتبر مصدر مجموعة من الأدوات التراثية حية ولو بدرجات متفاوتة في‮ ‬بعض الأوساط الواحية،‮ ‬كالحرف والصناعات التقليدية‮ (‬النسيج القائم على الصوف أو سعف النخيل وغيرها من الأشغال اليدوية النسوية،‮ ‬الخرازة،‮ ‬الحدادة،‮ ‬صناعة الأواني‮ ‬المعدنية الفخارية‮) ‬والوسائل والأدوات التقليدية المعتمدة في‮ ‬الأنشطة اليومية‮ (‬الفلاحة،‮ ‬الطحن،‮ ‬الطبخ،‮ ‬البناء‮) ‬وفنون التشكيل بمستلزماتها وأدواتها‮ (‬الحلي،‮ ‬الأزياء،‮ ‬الزينة،‮ ‬الوشم،‮ ‬الزخرفة‮) ‬والموسيقى والرقص الشعبي‮ ‬بأزيائه وآلاته‮ (‬الطبول،‮ ‬الدفوف،‮ ‬المزامير،‮ ‬الوتريات‮) .‬
وحسب الباحث،‮ ‬فإن استمرار بعض أنواع الثقافة المادية بالواحة‮ ‬يرجع بالأساس إلى تلاؤم بعضها مع طبيعة المجال والمجتمع ونمط العيش التقليدي‮ ‬السائد‮.‬
وخلص الباحث إلى أن الحفاظ على الموروث الواحي‮ ‬المادي‮ ‬واللامادي‮ ‬وإبراز قيمته الحضارية والثقافية،‮ ‬والتعريف به للأجيال الصاعدة‮ ‬،‭ ‬سيساهم لا محالة في‮ ‬ترسيخ الهوية وتعزيز روح الانتماء للمجال،‮ ‬خاصة في‮ ‬ظل التحولات الثقافية والسوسيو-مجالية التي‮ ‬يعرفها المجتمع الواحي‮ ‬على كافة الأصعدة‮.‬


الكاتب : علي‮ ‬الحسني

  

بتاريخ : 10/02/2021