أي خصوصية للسرد في «رحل بعد عودته»؟
يبدو لي أن لجوء المصباحي إلى السرد خيطا ناظما للأحداث ولحضور الشخصيات وتعيين الأمكنة وتحديد الأزمنة، بما هي جميعها العناصر المكونة للعمل الذي يتم تقديمه إلى قراء محتملين، ليس إلا تحصيل حاصل للقول بأن العمل الأدبي المصنف في خانة الرواية لا يتقوم إلا بالسرد، فالسرد هو جوهر الكتابة الروائية أصلا. غير أن للسرد في الرواية «رحل بعد عودته» ملامح خاصة تختلف عما عرف به في كل من رواية «غرف الموت» ورواية «إعدام ميت» حيث تكثر البياضات التي يفسح لها المجال أسلوب الحوار.
ففي «رحل بعد عودته» يكاد لا يسمع صوت الشخوص إلا نادرا جدا، و كأننا أمام لا أحد في واقع/ حياة الشخوص فيها جوفاء خالية من أي رد فعل أو انفعال جراء حديث أو مجادلة ممكنة. وإذا ما تأملنا المقاطع الحوارية على ندرتها في الرواية، نجد في الجواب الواحد استرسال المتكلم في القول، بل قد لا يعدم من إيراد تعليق فيه أو حكم.
ينفرد أسلوب السرد في «رحل بعد عودته» كذلك بتدخل السارد في ما يرويه فيشارك بنفسه مشاركة تعكس القصدية لدى الكاتب حميد المصباحي. إننا لسنا أمام مشاركة وجدانية لاعتبار مشاركة السارد هنا هي مشاركة الكاتب متجاوزا وظيفتها الانفعالية، ويرجع ذلك إلى خصوصية المرجعية الفكرية التي ينهل منها كمناضل لم يسع الى اغتيال السياسي الثاوي فيه. ثم إن مشاركته تحيل على بعد تعليمي محض تشهد عليه تلك المقاطع التحليلية أو التأويلية للكاتب على لسان السارد، وهو ما يروم المتخصصون في مجال الأدب تسميته بوظيفة السارد الأيديولوجية؛ نقرأ في الصفحة 67: (الشهادة مأساة للحاصل عليها ولأسرته أيضا التي طالما ضحت من أجلها ليقال لها إن الشهادة غير كافية. هكذا يحتقرون المعرفة، لذلك كان هشام يقول إن أمة تحتقر المعرفة ولا تقدرها لا يمكن أن تكون إلا أمة على هامش الحضارة. هذا جواب هشام عندما يفرض عليه الخوض في النقاشات السياسية ليختم كلماته).
لقد ظل الكاتب حميد المصباحي ممسكا بخيط السرد رافضا الحوار إلا قليلا كما أشرت الى ذلك من قبل، إلى حد تقلصت فيه المسافة الزمنية التي تفصل بينه كسارد وبينه كبطل الى درجة الصفر، ولأنه لا فعل من الممكن تمثله، تذكره أو حدوثه خارج الزمن، فإن سمة الزمن أضحت آنية، إنها ليست مدة وأقصد بذلك زمن تمفصل السارد والبطل، فالتداخل بينهما هو ما به نرسم ارتداد زمن الفعل الى درجة الصفر . هكذا هو الرفض للحوار كأسلوب للحكي مقصود من جهته مع سبق إصرار نلاحظه في رفض البطل مصطفى فكرة مراسلة حبيبته زينب بعد أن تطأ قدماه أرض المهجر، فنحن نقرأ في الصفحة 20 : – سأنتظرك، فقط عدني بأن تعود .
فكر قليلا واهتدى الى حيلة جميلة تجعلها تكرهه فتتزوج ويطمئن هو على مصيرها :
هذا كلام الروايات والافلام العاطفية.
يظهر إصرار مصطفى، في قرارة نفسه، على بتر كل أواصر علاقته مع زينب، وإن كنا سنقرأ بعد ذلك بقليل في الصفحة 22 قبوله أو بالأحرى مجاراته لرغبة زينب في الإبقاء على عروة واحدة لتلك العلاقة :
– سأنتظر رسائلك شريطة أن تكون خالية من هذه التفاهات التي لا تتوقف عن التفكير فيها .
– سوف أذكرك بما كنا نقوم به عندما كنا صغارا قبل أن نتعلم المحرمات والزواج ثم الخوف من الفضيحة والعار.
بين رفض وردة مضمرين (الصفحة 20) وقبول أو مجاراة ظاهرين (الصفحة 22) ، يتدخل السارد الكامل المعرفة؛ كما يحلو لجيرار جنيت أن يسميه؛ ليخبرنا القول الفصل//القناعة الراسخة لدى مصطفى في (الصفحة 21) ، حيث سيعلن قائلا:» (…) إن المرأة كمركب بمجذاف واحد، لا أحد يستطيع التحكم فيه، لكنه رغم ذلك قد ينجيك من الغرق « .. هذا ما سيتعلمه مصطفى منذ اللحظة التي يكون فيها هناك، وهذا نفسه ما سيعلم قارئا نبيها أن حكما نصدره بناء على «ما يظهر»سيكون بلا أدنى شك حكما مغلطا في آخر الرواية .
يخفي هذا الرفض لفكرة الرسائل داخل رواية «رحل بعد عودته» هروب مصطفى من تبادل أي حديث ممكن مع الآخر (زينب أو أخته كريمة) لأن هذا الآخر كان وسيظل مؤشرا على مرحلة زمنية، وعلى واقع معيش سمتهما الأسى والتهميش والاغتراب بين أحضان الوطن-ذي القربى إذن.. ولأن الرسالة كأسلوب لسرد بعض الاحداث تعتبر في نظر النقاد وسيلة تمنح الكاتب إمكانيات ومساحة مفتوحة لتخصيب الألفاظ وتوليد وتكثيف المعاني في العبارات للكشف عن أبعاد أخرى للقول، أو الرؤية المغايرة عبر تقديم وجهة نظر من خلال الرسالة، بالإضافة الى تلك البياضات التي تمنحها الرسالة كما الحوار والتي قد يلجأ إليها الكاتب لأخذ مسافة تمكنه من معاودة حياكة الاحداث ومصائر الشخوص في عالم الرواية بشكل جديد قد يكون في بعض الاحيان شط أمان يلوذ إليه السارد/الكاتب لو انفلت من بين أصابعه حبل السرد أو لإخفاء قصر نفسه أثناء السرد/الكتابة .
كل هذا إنما يظهر في رواية «رحل بعد عودته» انتصارا لبلاغة السرد الروائي وامتلاك حنكة التحكم فيه، والذي شهد عليه خلو الصفحات من بياض يتركه الحوار أو بنية الرسالة .لعل هذه الطريقة في الكتابة المتسمة بالاسترسال دون توقف على مستوى السرد في الرواية، هي مؤشر قوي على ذات تحكي بنوع من التلقائية وكأنها تسرد حكايتها هي. وهنا التساؤل عن طبيعة هذا الإبيستيمي الذي ينهل منه الكاتب حميد المصباحي.. إنه الخط السياسي- الانتماء أو الاصطفاف جهة هؤلاء الذين ضاق بهم الوطن حتى باتت أحلامهم مشدودة في سماء غير سمائه .
في هذا السياق يمكن التساؤل: ما القيمة المضافة في عمل روائي ينهل من إبيستيمي السياسي؟
في اعتقادي الخاص وهذا ليس بزعم أو ادعاء، بحكم اطلاع سابق على ما سلف من أعمال الكاتب حميد المصباحي، من حيث كونه قد دخل عالم كتابة الرواية عن طريق السياسة، وأدلل على ذلك بكون أول أعماله الروائية «غرف الموت» و «إعدام ميت» هي نقل وتجسيد لموقفه من واقع مترد عبر سرد وقائع معيشة، الخيط الناظم لها هو الفساد السياسي الذي سيلقي بسواده على الواقع الاجتماعي للناس؛ بل إن كتابته الروائية تجعل القارئ الذي عرف المصباحي طالبا مناضلا في الجامعة (قاعديا بكل تأكيد) سيقرأ الرواية باعتبارها سردا يحول السيرة الذاتية للمناضل – الطالب الحاصل على شهادة جامعية أو بالكاد جاور الحصول عليها؛ الى وثيقة دقيقة تحكي عن لحظة تاريخية بعينها واقعيا، تلك هي لحظة الدراسة الجامعية، لحظة العطالة عن العمل، أو غير ذلك.
لكن قارئا آخر لا يمتلك تلك المعطيات الشخصية عن الكاتب، ستكون الرواية بالنسبة إليه تحويلا للحظة تاريخية الى سيرة ذاتية في بعدها المشترك بين أفراد متعينين بحيث يصبح بطلها هو القارئ نفسه، أيّ قارئ وكل قارئ.
والرواية «رحل بعد عودته»، منظورا إليها من هذه الزاوية أو تلك، هي قبض ممكن على خصر واقع ذي ملامح خاصة من خلال سرد الأحداث كما هي بين دفتي الرواية. إنه واقع الفقر، التهميش، العطالة واستشراء الفساد السياسي والأخلاقي، فتكون النتيجة هي انسداد كل مخرجات الانعتاق أمام تفشي ضبابية في الرؤية . وهذا ما سيغذي نقمة البطل ويمده بما عساه يكون أسبابا كافية لاتخاذ قرار الرحيل، فنحن نقرأ بخصوص ذلك في الصفحتين 17 و 18: «(…) يريد الغرق في بر الضفة الاخرى، هربا من أرض لم تعطه غير هذه الهوية الناقصة، إنه مواطن بلا عمل ولا شهادة، ما عدا شهادة الميلاد، هو لا يكره بلده؛ بل وضعه، لا يحقد على وطنه؛ بل فقره وربما طموحه الجامح .»
إن قرار الرحيل هو قرار فردي، قرار شخص أدرك معنى انحباس الحياة فيه بين الارادة (إرادة الفعل) التي اغتيلت فيه من جهة، وبين القدرة (القدرة على الفعل) التي شلت فيه من جهة اخرى .
قرار الرحيل هو قرار مصطفى البطل في الرواية، وهو قرار يتخذه كل شاب وشابة شهدا اغتيال الارادة وشل القدرة فيهما على أرض الوطن .. وطنهما الأم. من تم، فالرواية تنقل واقعا مؤلما لفئة عريضة جدا من فئات المجتمع، أي فئة الشباب ذكورا وإناثا من خريجي المعاهد والجامعات وكذا فئة غير المتعلمين، قاسمهم المشترك هو انسداد أفق الامل في حياة بما تحمله الكلمة من معاني بين إرادة للفعل امتلكوها بوعي وقدرة على الفعل افتقدوها قسرا. وهذا ما يسجله الكاتب حميد المصباحي ضدا على التعتيم والتزييف المقصودين بلسان الراوي عندما يخبرنا عن مصطفى قائلا في الصفحة 17 «(…) كما أنه يرفض رؤية أمه وهي تحميه من وحشة الجوع والعراء وكأنه طفل لا خيار ولا قدرة له على مواجهة الصعاب، فقد حان الوقت ليخلع عن نفسه ثياب العجز التي تؤرقه وربما تدفعه إلى كره ذاته والتنكر لها..»
* الرحيل بين الواقع والتخييل ..
لعل عمق المآسي الاجتماعية وتشظي الأفراد وراء ثنائية الإرادة والقدرة على حيازة حياة تستحق أن تعاش، كان دوما هو السبب الرئيس و الداعي الأكثر عمقا و تجذرا بين دواعي الرحيل أو الهجرة إلى بلد آخر. فقد شكلت الهجرة في العالم العربي وفي المغرب خصوصا، حلا عمليا عن طريقه يصبح للمهاجر صك ملكية الحلم بحياة أفضل عبر مراكمة ثروة مالية ثم العودة إلى الوطن الأم حيث يغدو امتلاك شبر من تراب الوطن ملء يديه؛ لكن عن أي رحيل يحدثنا الكاتب ؟
من خلال حوار بين زينب وحبيبها مصطفى، يقدم المصباحي جوابا عن التساؤل أعلاه عبر سؤال تطرحه زينب :
– هل حصلت على تأشيرة السفر؟
– قوارب الموت لا تحتاج إلى كل هذه الاجراءات، إنها المغامرة، أرجو ألا تخبري والدتي بمخاطر هذه الهجرة .
تتناول الرواية إذن، موضوعا بارزا هو موضوع الهجرة السرية وبتعبير متداول أكثر نقول الهجرة غير الشرعية. لذا فالتساؤل المبين سلفا يستمد بعض المشروعية في رأيي من منطلق أن الذي يكتب هنا عن الهجرة السرية هو مناضل والحال أن المناضل لا يكون كذلك إلا بالحلم بغد أفضل، الطريق إليه هي تغييرالواقع الاجتماعي للأفراد مما هو إلى ما ينبغي أن يكونه الواقع الاجتماعي الحقيقي لهؤلاء الأفراد. و تجدر الاشارة هنا إلى أهمية الكتابة الروائية المتمثلة في نقل واقع معين بشكل شمولي و دقيق، فهي بذلك تمنحنا صورة ذهنية عن واقع محدد في مرحلة تاريخية بعينها تكاد تكون سبرا بشكل أكثرعمقا لذاك الواقع، فنحن حينما نقرأ رواية Germinalلإميل زولا مثلا، فإننا سنعرف عن فرنسا بما هي واقع حال مترد وبئيس فيه يتشظى الفرد وراء كسرة خبز بالعمل في مناجم الفحم أكثر مما قد نعرفه عنها من خلال دراسة سوسيولوجية متخصصة حول فرنسا في تلك الحقبة التاريخية، وهذا ما يقره العديد من الدارسين في مجال الأدب بخصوص أعمال زولا وبلزاك، ونفس الشيء يمكن أن نلفت انتباه القارئ إليه في كتابات عبد الرحمن منيف.
فأيهما حكم كتابة المصباحي عن الهجرة السرية؛ أهو الواقع أم التخييل؟ أو بصيغة أكثر توريطا للكاتب في إعادة النظر في موضوع الرواية أسأل: هل كتب المصباحي عن الهجرة باعتبارها تيمة فكرية طيعة في الحبكة والسرد، وهي تيمة ليس له أي سبق فيها بكل تأكيد؟ أم تراه كتب عن نوع جديد من الهجرة وليد لحظة راهنة هي أزمة وانسداد أفق؟
أعتقد أن اختيار مصطفى للرحيل كحل، أي الهجرة إلى خارج الوطن لم يكن محض تخييل كما لا يمكن إيعازه إلى الرغبة في إعادة الخوض في تيمة فكرية خاض فيها الكثيرون من الكتاب الذين سبقوه في هذا المضمار. إن الهجرة هنا، وإن يكن الكاتب اختار قولها بصيغة الرحيل، فإنما ليبين أنه قرار مفكر فيه لاعتبار كل تلك الصفات التي خص بها بطل الرواية مصطفى، إلا أن السرد في الرواية على امتداد الصفحات يبين أنه لمرات متعددة قد أفلت حميد المصباحي هذه الصيغة. فهل المراوحة بين كلمة «رحيل» وكلمة «هجرة»دليل اختيار مفكر فيه بالفعل أم أنه إملاء موضوعي ربما يكون تصويبا من لدن لجنة الطبع أو ما شابه، أو أنه ترجمة لاقتراح دعا الكاتب الى الابتعاد قليلا عن عنونة الرواية كما سابقاتها بكلمة الموت ونشير بالضبط إلى (غرف الموت)،(إعدام ميت)و(موت المجنون) ولذلك تم تعويض الموت بالرحيل دون الانتباه إلى تلك المراوحة في ما بين كلمة هجرة وكلمة رحيل؟ لكن تتبع مسار الأحداث سيبين أن الصيغ تلك جميعها ليست إلا تجليات من تجليات الغياب الذي فرضه الواقع، فيكون عنف الواقع هو السبب الذي جعل مصطفى يقرر الهجرة، وهو نفسه الواقع العنيف من فرض على الكاتب الخوض في تيمة يعرف جيدا أنها باتت مستهلكة كموضوع و متجددة من حيث سبل وكيفيات تنفيذها ..فالهجرة بنت واقعا مترديا إلى حد الغثيان لا تمتلك فيه الذات ما تقذف به، فلا تجد بدا من القذف بأناها خارجها… نعم هي الهجرة؛ لكنها الهجرة السرية ما تبقى لشخص معدم من كل مقومات وأفعال العيش، شخص لا يملك ثمن تذكرة السفر أو التنقل من- إلى في ربوع الوطن؛ فأنى له بحيازة وامتلاك جواز سفر أو تأشيرة للعبور من بلد الى بلد آخر؟
لطالما أشار كارل ماركس في كتاباته إلى أنه من الجيد تصويب الفكر نحو تصوير الواقع؛ لكنه شدد على ضرورة السعي إلى تغيير الواقع في ما بعد، وهو الأمر الذي ترومه الكتابة الروائية إذ تنتقل من الواقع إلى التخييل لتمنح قارئا محتملا اليوم أو غدا إمكانية أخذ مسافة من هذا الواقع أو ذاك بغرض التفكير في عتبات النفاذ الى تغييره. ذاك ما قدمته الرواية العربية عموما عندما صورت الواقع العربي بما هو واقع مترد، ألوانه قاتمة ما بين العطالة والفقر والجهل بسبب الفساد السياسي والاستبداد، وما يعقب ذلك من خراب يطال جميع البنى، فتصير الحياة لا حياة فيها ويصير الوطن جحيما. وأمام كل هذه الأوضاع اللاإنسانية، يختار الأفراد كل واحد بمعزل عن الآخرين حلا فردانيا قد ينجزه بمعية مجموعة أفراد، الخيط الوحيد الذي يجمع بينهم هو وسيلة النقل أو الشخص المنوط إليه تهريبهم إن صح القول .
لقد ظلت الهجرة هي الحل والغربة هي الملاذ إزاء واقع الاغتراب في الوطن العربي الذي لم يتغير منذ (رجال في الشمس) إلى (رحل بعد عودته) ، كل ما تغير هو الكيفيات ووسائل الهجرة من «الخزان» إلى «القوارب» ، وبين من لقوا حتفهم داخل الخزان ومن لقوه وسط أمواج البحر، اختار حميد المصباحي لمصطفى مصيرا أكثر عنفا من مصير الاثنين؛ مصير مصطفى هو العنف عينه، إذ ما أقسى أن يتحول الأمل في الهجرة إلى الضفة الأخرى من حلم إلى كابوس، فلا هو طال الحياة هنا بوطنه ولا نالها هناك بأرض المهجر ولا هي يد الموت طالته في ما بين حياة يكرهها وحياة ينشدها.. يشاء الحظ، حظ مصطفى أن يكون الرحيل اختيارا تمليه قوة الواقع. لقد هاجر مصطفى، عبر إلى الضفة الأخرى ونجا من قبضة رجال الأمن على حدود الشاطئ؛ غير أن رصاصة لم تكن طائشة؛ بل صوبت نحوه من يد لم يعرف هويتها هي التي ستمنحه تذكرة العودة قسرا إلى دياره، تذكرة غير مدفوعة الثمن نقدا، كان ثمنها الشفقة على مهاجر سري ليس بحوزته شيء يهدد الأمن ولا هو نفسه يشكل خطرا على بلد أو غيره، هذا كل ما عاد به مصطفى.
على كرسي متحرك، سيتم ترحيل مصطفى من ضفة الحلم والأمل إلى ضفة لا أفق لها، عار من كل شيء، معدم من كل وسيلة سينجرف وراء فك لغز هوية شخص لو عرفت ستعرض على شاشة التلفاز مع بقية أخبار مشابهة، ما تنفك تكون مجرد أخبار لا تؤمن البلد من خوف ولا تسمن أهله من جوع. و ذه هي الحجة على فكرة المراوحة من مصطفى البطل الحالم نحو مصطفى المستسلم، وتلك هي الصفة المشتهاة في زمن الاستبداد. لا يبقي الاستبداد على مساحة زمن تتسع للذين يحترفون تربية الأمل حبا وإن يكن ذلك على مضض، نقرأ في الصفحة 122:
«لن يحاول المشي من جديد ولن يهاجر هربا من ضعفه كما حاول الفرار من فقره، فلا هو اغتنى ولا هو مشى.. انهزمت آماله بعد قطع البحر كما تقطع المسافات جريا وراء حلم طال انتظاره.. «
ولقارئ محتمل هنا أو هناك، اليوم أو غدا أن يفعل دونما ملل، فلعله يرى بعين العقل مهارات شتى وكيفيات كثر عن تربية الأمل في ما بين الأسطر .