الصمت الباذخ لغابة واحدة، الصوت الوحيد لحفيف ورقة. كل الأوراق المتناثرة على الأرض تغطيها، الجذوع التبدو كمنحوتات صقيلة، تملأ المسالك والممرات. كل جذع يتماهى وعمقه، تفصل بينها مسافات لا ضوابط لها، هذه الفواصل تمنح الإنطباع بشفافية بالغة، بنظرة سائلة، غير قارة، (نحن هنا في أعماق بحر، أسفل الأشجار العالية). أقل حركة تصدر عنا، تشوش الرؤية، تغير صعيدها. صمت، صمت نباتي. الشجرة في حد ذاتها لا تقوم بأي ضجيج، كل حركتها الخاصة منصبة على نموها، تترك ثمارها تسقط، تهوي فروعها الميتة بفعل زخات الريح، تضع الغابة معطف الصمت، الرعب، الخوف، على كتفيها، ترانا، تتلصص علينا حد النخاع، تتلصص علينا عبر أغصانها وأوراقها، وفروعها، تنصت لنا، تتخيلنا، عبر العيون الألف التي لها. كل القبائل التي تسكنها تنتظرنا، قطاع الطرق، الحيوانات، الآلهة، الأشباح، كلها تنتظر، تهددنا، تراقبنا، حتى المشاهد الرائعة داخلها، قد تكون هنا مصدر خوف، كل شيء معلق، لا شيء متوقع.
داخل الغابة لا تسأل أحدا عن طريق يعرفها، لأنك لن تضل الطريق، إذا ما اجترحت طريقك وحدك، الغابة فضاء عبر نهائي، نهائي ولا نهائي في الأوان ذاته. الغابة مثل البحر والصحراء، مفتوحة على الخارج، فضاء أصيل للتيه، أوليس الإنسان الماكر والذي يملك في جعبته عشرات الحيل، سقط في فخ الغابة، هكذا قدمه لنا هوميروس في بداية الأوديسة، تائها مسكونا بالحنين، يعيش في غابة بمحاذاة البحر، معلقا، خاضعا لإرادة من يسير هذه الغابة ويتقمصها وهي الإلهة Calypso، ووحدها إرادة مجمع الآلهة حازت القوة لتحريره منها، في الوقت نفسه آفتتح دانتي (الكوميديا الإلهية) التي كتبها واصفا تيهه الـــــشخصي، واضعا كمبدأ أول لكوميدياه، تيهه في منتصف العمر وسط غــابة غامضة، una selva oscura. نعرف بأن عبور دانتي، العبور الذي سيقوده لمعرفة الجذر الإنساني l›humana radice، وإلى إخصاب المعرفة الأزلية، لا يمكن أن يتم بلا وساطة فيرجيل، ماتيلد، بياتريس، وأخيرا ذلك الذي من أجل معرفة لله والكتاب المقدس، أكد مرارا بأنه لم يكن له معلمون آخرون غير الجذوع وأشجار الفلين وهو Saint Bernard. أعلن ديكارت، الذي آعتبر الشجرة صورة دالة على الفلسفة، وذلك في المادة الثانية من كتاب الأخلاق الذي ألفه، بأن السكن داخل غابة ليس بالأمر الجيد، قال:[قولي الثاني هو ان اكون صارما وحاسما في أفعالي ،ما أمكنني ذلك، وألا أتبع الآراء المثيرة للشك إلا إذا تيقنت بأنها مضمونة، قلدت في ذلك المسافرين والجوالين، الذين يجدون أنفسهم تائهين داخل غابة، الذين لا يجب أن يدوروا في نفس المكان، أو يتوقفوا في موضع واحد، بل أن يسيروا، وفق خط مستقيم، في نفس الإتجاه، وألا يغيروه، لأسباب واهية، ومن خلال ذلك قد يصلوا على الأرجح، عند النهاية إلى مكان ما، أحسن مما لو ظلوا وسط الغابة]. ما تقوله لنا هذه النصوص الكونية، هو أن الغابة نوع من الإقامة الآسرة والأخاذة، فضاء للتيه، فضاء تائه، مكان مربك للحواس والخطاطات، بالنسبة لمن يغامر داخله، من منا من لم يشعر بهذه الرغبة في الإنوجاد داخل غابة، وبقلق الجوال الأعزل، الذي يغوص في أعماق الغابة بخطى جريئة، في اعماق صمت مأهول بقبائله، متجها نحو الطريق الذي يجترحه؟ الغابة هي الوسط الذي يمتزج فيه الجمال بالرعب، مسرح نباتي وحيواني، مفتوح على الحوادث، الظواهر التي تزرع في الإنسان نوع من الرعشة العمودية الأصلية، مؤخرا أوغلت في غابة الفلين التي تبدأ من نهاية الشارع الذي اسكنه، غصت فيها عميقا، توقفت لشرب جرعات ماء، رأيت أفعى ضخمة ملمومة على نفسها آعتقدت بأنها ميتة، آقتربت منها فإذا بها تقفز لتلدغني قفزت انا الآخر مبتعدا، والارتعاشات تهزني، هكذا نرى في الغابة ما لا نراه، تتقرى النظرة اللامرئي، تلمسه كما لو أنه شرخ لامرئي في فنجان من خزف، ينحجب المرئي داخل الذاكرة النباتية العشبية، يجاور الإنساني ويقذف به خارج كل سكينة. هكذا تستدعينا الغابة انطلاقا من وضعها الاعتباري المقلق، [الذي يخلق الرعب والقلق، الخوف الحقيقي، وأيضا الخشية الدالة على الإحترام، المنصتة، المتوازنة، السرية]، كما يرى هيذغر. تظل الغابة أيضا مكانا لطقوس المسارة rites initiatiques، لنوع من التمرينات البيضاء التي منها يتعلم الإنسان، وقد نجد داخل الغابات اكثر مما نجده داخل الكتب، ستعلمنا الأشجار، الصخور أشياء أعمق مما قد يعلمنا إياه أي معلم، وقد تكون مكانا لتعلمات وتمرينات سوداء، ألم تكن تجمعات الساحرات تتم وسط الغابة؟ تلك التي تسمى Sabbats حيث يمارسن طقوس السحر السوداء كما راج في الحكايات التي تروى عن القرون الوسطى والتي تخصص فيها بعض المؤرخين، وكتب شكسبير عنها مسرحيته Macbeth، وراجت أيضا في حكاية ساحرات Salem، ذلك لأن جوهر الغابة يكمن في آلتباسها، والتعبير المبني على التضاد الذي يقولها، يترجم واقعها هو أنها، (فضاء لا نهائي)، (شساعة كائنة في نفس المكان)، فضاء مكون من غموض، من عتمة وضوء، أعمى لكنه في الأوان ذاته كلي الإبصار، أبكم لكنه متكلم. الغابة أيضا فضاء الشعراء والمنشدين، وفق نمط الإنشاد الشعري، إنها مثل النص، موقع للكلية وطريق نحو اللانهائي، إنها فضاء مليئا بالأشجار، وعبر ذلك بالذات فإنها تتماهى مع فضاء الحروف، إنها مثل الحرف تأخر وتأجيل يفرض نفسه، منفتح على زمنية خاصة به، نفس الكلمة في بعض اللغات تشير إلى الشجرة والحرف وتسميهما معا. ارتبط الغرب دائما، ارتباطا وثيقا وخاصا، مع الشجرة، رغم انه يظل ارتباطا متناقضا،،فالشجرة كما يرى بول فاليري، عملة معرفية، وكثيرا ما وظفها الإنسان الغربي بشكل استعاري للتعبير عن أفكاره اللاهوتية، الفلسفية، الأنثروبولوجية، الجينيالوجية، البيولوجية، التشريحية، التواصلية، يعتبر باشلار التخييل نفسه شجرة، وقد استعملها اللسانيون أيضا للتعبير عن صنافة العلامات، ووظفها المحلل النفسي عند الحديث عن غابة الدوال، عن مقام الحرف الذي هو مقام نسج الدلالات. هكذا تزهر غابة الدلالات، التي تقودنا إلى كينونة الغابة، الغابة ما تني تحذرنا، تقول لنا بأنها لغز متعذر الحل والتفكيك. ليست الغابة فضاء يليق بالإنسان المتعجرف والنزق أي غير الصبور، هذا النوع من الكائنات يكون مهيأ للقضاء عليها وعلى أشجارها أكثر من قراءة وتفكيك دلالاتها.
الغابة ليست فقط العنصر الضروري للتوازن البيئي، لكنها أيضا، بالنسبة لمن ينشد السكينة، أكثر الفضاءات أهمية وملاءمة، الفضاء الذي يصير الإنسان داخله أكثر قدرة على الإنصات للعالم، وتلقي كلام الشجرة، داخل الصمت الأكثر توحشا، وأسفل القبة المكونة من الأغصان المتشابكة التي تكسر أشعة الشمس، كلام الشجرة المهيب، الذي يقول البطء والاستمرارية التي عبرها تنمو الشجرة. إنه الكلام القوي للشجرة، التي تعلمنا بان نموا كهذا هو وحده الكفيل بتأسيس ما يبقى وما يدوم وما يمنحنا ثمارا، وأن النمو يعني الإنفتاح على شساعة السماء، وفي الوقت نفسه التجذر في التربة، في اعماق الأرض، مد جذور داخل عتمة الأرض، كما تعلمنا أيضا بان كل ما هو حقيقي وأصيل لا يبلغ درجة النضج إلا إذا كان الإنسان مهيأ لتلقيه كهبة، كوعد، ككينونة قيد الإتيان، كينونة آتية من ما وراء المحجوب، وإلا إذا كان هذا الإنسان مستعدا لتلقي نداء السماء الطاعنة في أعاليها، وأن يظل في الوقت نفسه تحت حماية الأرض، التراب الذي يحتضن الهبات وينتجها، يهبنا الثمار. ما يسري على الشجرة يسري على الإنسان، فإذا كان الإنسان يتعرف على نفسه في الشجرة، فلأنه مثلها كائن عمودي، يمتد بين الأرض والسماء، بين العتمة العميقة والضوء، معرضا لرياح الروح ولعواصف هذا العالم المليىء بالصخب والموت والحروب والدمار والجشع النيوليبيرالي الكانيبالي، ولأنه يملك نفس خاصيتي الشجرة، أي القوة والهشاشة.
تأملات .. الغابة في الأشجار والإنسان

الكاتب : مصطفى الحسناوي
بتاريخ : 11/04/2025