تاريخ المغرب في حاجة ماسة إلى أعمال سينمائية وازنة بهذا الحجم وهذا المجهود
لتعميم المعرفة بالهوية التاريخية للمملكة
جرت مؤخرا بكلية الآداب والعلوم الانسانية بفاس مناقشة أطروحة حضرها الباحث عزيز زروقي لنيل الدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والفنون والعلوم التربية في موضوع في موضوع – تاريخ الأندلس خلال العصر الوسيط في الدراما التلفزيونية- وتكونت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة الدكتور محمد حاتمي رئيسا- دة فائزة البوكيلي عضوة – د عبد الهادي البياض عضوا- د حميد تيتاو مشرفا . وقد أعلنت اللجنة النجاح في الدكتوراه بميزة مشرفة جدا مع توصية بالطبع.
وقدم الباحث تقريرا مركزا تناول جوانب من إشكالية العلاقة بين الدراما والتاريخ من خلال نماذج تخص تاريخ الأندلس خلال العصر الوسيط في الدراما التلفزيونية: رصد وتحليل، مؤكدا على دور المعرفة التاريخية في إثراء مادة الدراما التلفزيونية من خلال ما توفره من مادة دسمة قابلة للسرد المرئي، وكذا التأكيد على الخدمة التي يمكن أن توفرها هذه الدراما للمعرفة التاريخية عبر تسجيل مادتها وقضاياها وجعلها مرئية وإن بصيغة فنية، ومحاكاتها أمام الجمهور المعاصر، ونشرها على أوسع نطاق. وهذه محاور التقرير:
منهجيا قسم الباحث عملية الرصد والمقارنة في أطروحته إلى فصل تمهيدي وأربعة فصول رئيسية. فصل تمهيدي خصصه لمعالجة مفاهيم أساسية ويتعلق الأمر بالدراما الذي خصص له المبحث الأول، وأفرد الثاني لضبط مفهوم الدراما التلفزيونية، والثالث لضبط السياقات الداعية إلى استدعاء التاريخ من قبل الدراما التلفزيونية، بينما رصد في المبحث الرابع بعض ما دفع المتخصصين في الدراما إلى التركيز على تجربة المسلمين في الأندلس أكثر من غيرها.
في الفصل الأول الموسوم بـ «الحدث والواقعة السياسية بالأندلس في الدراما التاريخية: دراما «صقر قريش» أنموذجا»، سعى من خلاله إلى إنجاز تجربة رصد مدقق لمختلف الأحداث والوقائع التي عرضت في دراما «صقر قريش»، وبحث فيه عن مدى انضباط الدراما بما حضر في المصادر والمراجع في هذا الجانب، وفرعه إلى ثلاثة مباحث تتبعت الحدث في الفترة الزمنية موضوع الرصد، فرصد المبحث الأول طبيعة حضور الأحداث الخاصة بالأندلس قبيل وصول عبد الرحمان بن معاوية في هذه الدراما، وفي الثاني الوقائع المتعلقة بمقدمات تأسيس الدولة الأموية في الأندلس، بينما قارنا في الثالث المادة المخصصة لفترة تأسيس وبناء الدولة الأموية في الأندلس في عهد عبد الرحمان الداخل.
وخصص الفصل الثاني لـ «مكونات المجتمع الأندلسي ومظاهر الصراع أو التسامح بينها في دراما «ثلاثية الأندلس»»، فرصد في المبحـث الأول كيف تم تقديم المكونين الأساسين في هذا المجتمع، وهما البربر والعرب، وبحث في الثاني صورة المولدين والموالي والصقالبة والزنوج، فيما خصص الثالث لصورة الأقليات الدينية أو أهل الذمة في الدراما موضوع الرصد.
وبالنسبة للفصل الثالث، والموسوم بـ «مراتب المجتمع الأندلسي في دراما ثلاثية الأندلس»، فحاول فيه التعرف على طبيعة تقديم المجتمع الأندلسي في هذه الثلاثية الدرامية، بحيث خصص المبحث الأول لأسس التراتب الاجتماعي في الأندلس كما تم تجسيدها، ورصد في المبحث الثاني مكونات الهرم الاجتماعي الأندلسي، وتتبع صورة الخاصة ثم العامة ومكوناتها ومظاهر غناها أو فقرها في الدراما، ومقارنة ذلك كله بما وفرته المصادر والدراسات المتوفرة.
في الفصل الرابع حاول الباحث أن نستكشف كيف قُدم اللباس في دراما «ثلاثية الأندلس»، اقتناعا منه أن اللباس يمثل أبرز كاشف لهوية أي مجتمع. ولذلك رصد المبحـث الأول ملامح ملابس أهل الأندلس من جانب النسيج والألوان والوشي، وتتبع المبحث الثاني مكونات لباس أهل الأندلس، بينما جعل المبحث الثالث لباس النساء في الدراما موضوع تساؤل خاصة أمام صعوبة توثيقه على مستوى المادة المصدرية. وفي الخلاصات العامة، أوجزنا ما تمخضت عنه الدراسة من نتائج تخص سؤال المصداقية في تقديم المعطيات التاريخية عن أندلس الإمارة والخلافة والطوائف في ثلاثية وليد سيف وحاتم علي.
وحول موضوع الأطروحة وبيان دواعي اختياره أوضح الباحث: الأهمية القصوى التي أضحت للتلفزيون، والصورة بشكل عام، في نشر المعلومة على أوسع نطاق، وفي قدرته على جذب الجمهور، بل وتوجيه الرأي العام، سواء عن طريق الاقناع أو التأثير المباشر وغير المباشر، خاصة إذا تم استحضار عامل تراجع القراءة وتلقي المعلومة المكتوبة مقارنة بالإقبال الكبير على الصورة بشكل عام، والدراما التلفزيونية على وجه التخصيص.
2 وقد شكل التلفزيون، باعتباره وسيلة اتصال بصرية واسعة الانتشار، ثورة كبيرة ضمن الثورات التقنية التي تحققت في أواسط القرن 20، وتحولت إلى قوة تواصلية كبيرة وصلت إلى بيوت الناس وبيآتهم الخاصة. وشكلت هذه الواسطة نقطة كبرى في تطور المادة المنقولة عبرها إلى المتلقين، وفي مقدمتها الدراما التي ارتبطت منذ القديم بالمسرح، ثم انتقلت لتجد لها موقعا في السينما، وما لبثت أن ضمنت لها مكانا آخر في التلفزيون، وأصبحت تشمل في معناها الفن التمثيلي المقدم على الشاشة الصغيرة في البيوت.
وارتباطا بقدم استلهام المسرح لمادته الدرامية من التاريخ، وكون المادة التاريخية جزء مهم ضمن الأعمال الدرامية المسرحية، وبعد انفتاح السينما على التاريخ، فإن الدراما التلفزيونية ما لبثت أن انفتحت بدورها على التاريخ، وأصبح هذا الأخير جزءا مهما من المادة المعروضة على الناس في بيوتهم من خلال التلفاز. ما أدى الانتشار الواسع والمتزايد للمادة التلفزيونية المستندة إلى التاريخ، وللدراما التلفزيونية التاريخية، إلى بداية تشكل تيار نقدي يهتم برصد وتتبع هذه العلاقة الناشئة بين الدراما والتاريخ،» وإلى جانب هذه الأهمية للتلفزيون في هذا الجانب، فإن أهم ما ننشغل به في هذا العمل هو رصد العوائق والصعوبات التي تعترض عملية عبور مادة ما وواقعة ما أو مشهد ما من التاريخ إلى الدراما التلفزيونية، والتأكيد على إكراهات هذه العملية التي لا تخلو من مغامرة وإمكانية السقوط في الانتقائية أو الذاتية المبالغ فيها أو تقديم مادة تاريخية مغلوطة للتأثير في المتلقي وصناعة رأيه. نهاية الباب الأول
وعلى صعيد إشكالية البحث وأسئلتها الفرعية ،حاول الباحث الإجابة عن الإشكالية المركزية التي تتمثل في التساؤل عن مدى حضور الضبط التاريخي والحرص على تدقيق المعطيات التاريخية فيما قدمته الدراما التلفزيونية من أعمال «تاريخية»، وعما إذا كان صناع الدراما التلفزيونية قد انفتحوا في إنتاجاتهم الدرامية «التاريخية» على المعرفة التاريخية الأكاديمية التي تنتجها المؤسسات العلمية المتخصصة، أم على الذاكرة التي يختلط التاريخ فيها بالخيال والتمثلات، ويخضع لإكراهات الذاكرة من قبيل الانتقائية والاحتفالية وغيرها. ثم السؤال عن حدود التداخل بين المتخيل والتاريخي في أعمال الدراما التلفزيونية، خاصة وأنها تعتبر التخيل شرطا من شروط بناء العمل الدرامي.
أما بخصوص الأعمال الدرامية موضوع الرصد والتحليل حرص الباحث على اختيار أعمال تم تداولها بين المتخصصين على أنها تحرت الدقة في الإنجاز واستحضرت تاريخية المادة المعروضة، فحضرت فيها خبرة المؤلف ووعيه بالعلاقة الملتبسة بين التاريخ والدراما، ودقة وتنفيذ المخرج، والمراجعة العلمية للباحث المتخصص في التاريخ، ويتعلق الأمر بثلاثية درامية تاريخية اتخذت من تاريخ الأندلس موضوعا لها؛ ويتعلق الأمر أولا؛ بالعمل الدرامي التلفزيوني «صقر قريش»، الذي أنتج سنة 2002م، وتناول سيرة عبد الرحمن بن معاوية الداخل، مؤسس الدولة الأموية في الأندلس، وحاكى جزءا من تاريخ الأندلس ابتداء من عهد الولاة الأول والثاني إلى عهد تأسيس الإمارة.
أما الشق الثاني من الدراما، فيرصد جهود عبد الرحمان بن معاوية من أجل تأسيس الإمارة الأموية وتوحيد الأندلس سواء في وضع الدواوين والخطط وغيرها، أو التخلص من الصراعات العصبية بين القيسية واليمنية، ثم يرصد المصاعب التي اعترضته في ذلك وخاصة تلك الثورات الكثيرة التي قدرت بخمس وعشرين ثورة، أغفلت الدراما كثيرا منها.
ارتبط العمل الدرامي الثاني الذي أنتج سنة 2003 بأوضاع الأندلس زمن الخلافة، ووُسم بـ «ربيع قرطبة»، وحاكى الفترة التي يعتبرها الكثير من الباحثين أوج الحضور الإسلامي في الأندلس، ويتعلق الأمر بنشأة الخلافة الأموية في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، إلى سقوط الحجابة العامرية. أما العمل الدرامي التلفزيوني الثالث والأخير الذي اشتغل عليه، فيتعلق بدراما «ملوك الطوائف» الذي أنتج سنة 2005، ويرصد جوانب من عصر الطوائف في الأندلس، وهو من أكثر مراحل تاريخ الأندلس تعقيدا وتباينا، وامتد من انهيار الخلافة الأموية في قرطبة وسقوط الدولة العامرية سنة 399هـ/ 1009م إلى عبور المرابطين نحو الأندلس لرد الخطر النصراني ثم توحيد الأندلس تحت رايتهم بعد سنة 478هـ/ 1085م.
وفيما يتعلق بمنهج الرصد وطبيعة المقاربة: وللتحقق ما أمكن في مدى حرص منتجي هذه الثلاثية الدرامية على التدقيق التاريخي ومدى سلامة عملية العبور للمادة التاريخية المقدمة من المعرفة التاريخية الخاصة بالأندلس خلال المرحلة المشار إليها إلى مادة درامية تلفزيونية، كان لزاما على الباحث أن يعود بكل ما ورد فيها من معطيات ووقائع، وما تم تضمينها من معلومات ضمن الحوارات بين الشخصيات وفي الملابس والاكسسوارات، وكذا كل ما ارتبط بالمجتمع الأندلسي إلى مصادرها الأصلية.
وبالموازاة مع ذلك، كان لزاما على الباحث أن يوسع دائرة الاهتمام لتشمل الأعمال الأدبية والعلمية التي انشغلت بمفهوم الدراما وتاريخيتها، وبمفاهيم الدراما التلفزيونية والدراما التاريخية. كوسيلة للإجابة على السؤال الإشكالي الأساسي: هل اكتفى مؤلف الأعمال الدرامية المعنية ومخرجها بالعودة إلى المصادر وجلب المادة التاريخية الخام منها، أم استندا إلى الأبحاث الأكاديمية التي اشتغلت على تلك المادة ودققتها وخلصتها من الشوائب، وإن تضمنت وجهات نظرهم التحليلية وقراءتهم الخاصة لأندلس المرحلة المدروسة؟ ومن زاوية أخرى، اختار الباحث ألا نقتصر في الإحالة على مشاهد وحوارات الدراما في الموقع الإلكتروني المعتمد ، بل قرر أن تكون الصورة والحوارات والمشاهد التلفزيونية حاضرة بقوة في صفحات هذا العمل للتأكيد على أهمية الصورة في تقديم المعرفة التاريخية والتعريف بها، ولتسهيل عملية الرصد والمقارنة بين هذه الصور والمشاهد وما ورد في المصادر والدراسات .
وإجمالا توصل الباحث إلى نتائج وخلاصات وعلى جانب كبير من الأهمية منها: إمكانية الحديث عن دراما تاريخية حقيقية تستحضر دقة البحث التاريخي وتكون نزيهة في النقل والتجسيد ما أمكنها. مع إمكانية تضمين العمل الدرامي تصور مؤلفها ورؤيته لهذا التاريخ على غرار اختلاف الباحثين في تفسير الظواهر التاريخية وتأكيدهم لهذا التفسير على حساب آخر.
هناك قضايا ومعطيات تاريخية يمكن تتبع مدى حرص المؤلف والمخرج في تدقيقها تاريخيا من قبيل الحدث السياسي، ومكونات المجتمع وفئاته ومراتبه وطبيعة العلاقات التي تجمعها وأسلوبها في التفكير وتمثلاتها. تبين للباحث صعوبة العملية إما لقلة المشاهد من مثيل التغذية واختلافها بين العامة والخاصة وموضوع المرأة والطفل مثلا، أو لعدم تمكن المخرج من تدقيقها بشكل كبير من قبيل العمارة والعمران.إمكانية نجاح الدراما في تحويل الحدث التاريخي الذي يخص المرحلة المدروسة إلى حدث درامي يعتبر بالنسبة للدراما التلفزيونية من أبرز مقومات البناء الدرامي وصلب العملية الدرامية، حيث يمكن تقديمه ومحاكاته من خلال عناصر الصّراع، وتطوير الحبكة وتصارع الإرادات، ومن خلال الشخصيات والحوار.
الحدث الذي يحضر في الدراما التاريخية يمثل في أصله واقعة من الماضي يتم إعادة بنائها بواسطة المتخصصين في التاريخ اعتمادا على مصادر ووثائق، ويتضمن آراء هؤلاء المؤرخين واستنتاجاتهم وترجيحاتهم، ويتم تشكيله من جديد في صيغة قالب درامي يحاكي الوقائع الماضية المعنية من قبل مؤلف الدراما وكذا المخرج. سؤال «مصداقية» المحاكاة ممكن في هذا الدراما التلفزيونية، ويسمح بطرح سؤال مدى حرص صانع الدراما على توخي الدقة المعلوماتية سواء في السرد أو التحليل مطلوبا خاصة وأنه يقدم للجمهور مادة يعتبرها هذا الأخير تاريخية.
ضرورة استحضار الصعوبات التي تعترض الدراما التاريخية والمتمثلة في عدم الإخلال بالنسق التاريخي للوقائع من جهة، ومعالجة هذه المادة التاريخية معالجة فنية وفقا لشروط الوسيط الدرامي التلفزي؛ مع وجوب استحضار أن هذا الأخير هو عمل فني درامي يستعمل المادة التاريخية بالدرجة الأولى وليس عملا تسجيليا تاريخيا، إلا أن الصفة الفنية لا ينبغي لها أن تؤثر في دقة «الحقائق» التاريخية فتزيفها أو تحرفها. الدراما التاريخية الحقة هي التي تصور الماضي وتقربه، وتسمح بالعيش في جوه الفعلي والحقيقي، وتجعل المتلقي متصلا بتلك الأحداث التي تفصله عنه قرون من الزمن، وكأنه شريك فيها دون أن يضطرها الجانب الفني إلى تحوير الجانب التاريخي فيها. إن المادة التاريخية تمنح في العادة مساحة للابتكار والإبداع دون أن تأتي على حساب التدقيق التاريخي المطلوب، فتتحقق نوع من المواءمة بين حرية التخيل التاريخي والصدق التاريخي.
الباحث أكد على أن الدراما المرئية ليست مجرد قطعة من الأدب للقراءة، بل هي ذات خصائص، أبرزها أنها أدب لكنه يمشي ويتكلّم أمام أبصار المتلقي بتعبير أحد الباحثين. وعليه تكمن أهمية الدراما التلفزية التاريخية في جعل المتلقي يرى «نسخة عن الماضي» المستدعى أمامه وفي حينه، وفق المصادر المتوفرة ووفق تصور المؤلف والمخرج طبعا؛ فالدراما التاريخية تختلف عن غيرها من التخصصات العلمية والفنية من خلال المحاكاة بالضبط عبر التشخيص بواسطة شخوص وممثلين، ومن خلال تأثيث الفضاء ليحاكي الواقع المقدم وعبر المناظر العامة وملامح الممثلين وملابسهم وسحنتهم وغير ذلك مما يسمح بتقديم تلك الوقائع التي حدثت في الماضي دراميا ويمنحها حضورا راهنا يجعل المتلقي يصل إلى درجة الاعتقاد بأن ذلك الماضي المستدعى يحدث أمامه. وكأنه يقع مرة أخرى. كما جسدت الدراما التلفزية بطل الحدث ومن معه ومن اجتمع به ومن عايش تلك المرحلة.
لعبت الدراما التلفزية التاريخية أهمية خاصة في تعميم المعرفة التاريخية و»توثيقها» مرئيا عبر تقديم معطيات عن المجتمع ومكوناته، وعن العادات الاجتماعية والحياة اليومية والتمثلات والسلوكات الاجتماعية وغيرها. كما سمحت بتجسيد تلك الأوصاف التي تقدمها النصوص الأدبية وجعلها قابلة للإدراك المرئي. وارتباطا بهذه القناعة، فقد ركز الباحث اهتمامه للتعرف على الطريقة التي قدمت بها «ثلاثية الأندلس» مجتمع هذه المرحلة، بمكوناته الإثنية واختلافاته الطبقية وأسباب هذه الاختلافات، مستبعدا في هذا العمل على الأقل رصد العناصر الاقتصادية من قبيل الأنشطة الإنتاجية أو ما يرتبط ببعض القضايا من قبيل الجوانب العسكرية والدبلوماسية أو بعض العلاقات الاجتماعية مثل الأسرة والعلاقات الأسرية لصعوبة رصدها نتيجة قلة المشاهد المدمجة في هذه الدراما. أي أن التركيز كان على ما يمكن رصده بدقة.
وقد تبين بعد الرصد والمقارنة أن الدراما التلفزيونية التي اشتغلت على القرون الأولى لتاريخ الأندلس بعد الفتح إلى حدود عصر المرابطين، نجحت في تقديم صورة عامة عن مكونات المجتمع الأندلسي المتنوع دينيا ولغويا وعرقيا، وحرصت على أن تعرف بهذه المكونات وبأدوارها ومواقعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأن وليد سيف وحاتم علي في دراما «صقر قريش»، وأكثر في «ربيع قرطبة» و»ملوك الطوائف»، كانوا على اطلاع واسع بأحدث الأبحاث الأكاديمية حول تاريخ هذه المرحلة، مثلما تمكنوا من تجاوز هاجس التاريخ الحدثي والسياسي، فقدموا صورة عامة عن المكونات الإثنية للمجتمع الأندلسي وإن بدرجات متفاوتة، كما برعوا في إظهار مظاهر التنوع والتفاعل والتداخل والتعايش بين هذه المكونات.
وبناء على هذه الصور القليلة وعلى الإشارات المقتضبة التي وردت في كتب المصادر، وما توصلت إليه بعض الأبحاث أمكن القول بإمكانية إخضاع ما قدمته دراما «ثلاثية الأندلس» من صور عن اللباس في هذا الجانب ممكنة وقابلة للتأكيد أو النقد والمراجعة. ويبدو أن هذه الدراما قد اجتهدت بشكل كبير في محاكاة لباس أهل الأندلس بغض النظر على ما يمكن تسجيله من ملاحظات.
غير أن هذه الدراما أخطأت في عدة جوانب، ومنها أنها قدمت لباس أهل الأندلس في الغالب لباس الصيف وغاب فيها لباس أوقات البرد على الأقل، حيث أدرج وليد سيف وحاتم علي في هذه الثلاثية ألبسة أهل الأندلس في كل الفصول إلا فصل الشتاء، وهو عكس ما قدمته المصادر. كما غيبت اللون الأبيض ضمن الألوان الأساسية التي كان أهل الأندلس يلبسونها في أيامهم وأخطأت حين حصرت استعمال الأبيض على أيام الحداد والحزن بعد موت الأقارب بناء على تأكيدات المصادر. كما لاحظنا حضور اللون الأزرق أكثر من غيرها خاصة في «ربيع قرطبة» دون أن يكون في المصادر ما يفسر هذا الحضور أو يؤكده.
ومن زاوية أخرى ،خلص الباحث إلى أن دراما «ثلاثية الأندلس» ركزت أكثر على ملابس خارج البيت أو ملابس المناسبات وكان ظهور الملابس الداخلية أو ما يلبس في البيت مثل السروال والقميص قليلا مقارنة بالجبة والمعطف والعمامة مثلا، إلا أن الصور المقدمة عن هذه الملابس الداخلية كانت كافية وتتوافق مع ما ورد في المصادر لمعرفة ملبوس أهل الأندلس داخل البيوت أحيانا. ورغم تأكيد المصادر والدراسات أن السروال كان لباسا مشتركا بين الرجال والنساء على حد سواء، فإن ذلك لم يظهر بجلاء في دراما «ثلاثية الأندلس» إلا نادرا، وعكس ذلك أظهرت هذه الدراما اختلاف سروال أهل الأندلس الفضفاض عن سروال النصارى الضيق.
التمييز بين الجبة والدراعية في مختلف المشاهد ،إذ أكدت المصادر أن الأندلسيين لبسوا الإثنين الأمر الذي استعصى على دراما وليد سيف وحاتم علي ، غير أن الحاضر بشكل كبير في مختلف مشاهد هذه الدراما هو الجبة بمختلف أنواعها وألوانها. وقد نجحت الدراما في التمييز بناء على أوصاف المصادر بين الأغنياء والفقراء من خلال الجُبب، حيث قدمت جبب العامة بسيطة ومن الثوب الرخيص، وقدمت جبب الأغنياء راقية من خلال الصورة وبألوان مختلفة وأنسجة مختلفة وبزخارف وتوشيات كثيرة أحسنت في تقديمها بناء على توصيفات المصادر.
ومن الملاحظات الرئيسية على لباس أهل الأندلس في دراما «ثلاثية الأندلس» موضوع الرصد، ارتداء معظم من ظهر في مشاهدها، ومن مختلف الشرائح الاجتماعية للرداء أو المطرف أو المعطف فوق الجبة، وقلة المشاهد التي يظهر فيها الناس بجبة أو قميص فقط. ولم نتمكن من فهم سياقات هذا الحضور القوي والأساسي للمعطف في كل مشاهد دراما «صقر قريش» و»ربيع قرطبة» و»ملوك الطوائف»، غير أنه من الواجب أن نؤكد على المجهود الحميد المبذول في هذا الجانب والذي يعكس اطلاعا واسعا على المصادر سواء في أشكال هذا المعطف أو ألوانه أو توشياته. ومن الألبسة التي انتبهت إليها الدراما في «ثلاثية الأندلس» وحملتها كثيرا من المضامين التي أرادت محاكاتها عن أندلسي العهود موضوع الدراسة لباس الرأس والعمامة على وجه الخصوص، فقد كانت العمامة في الأندلس لباس الأمازيغ والعرب من أهل الأندلس في البدايات الأولى لقدومهم إلى هذه البلاد ولكن العرب منهم تخلصوا منها في أغلب الأحيان بعد ذلك وأسدلوا شعورهم، وإذا كان طبيعيا أن تبرز العمامة مرفوقة في الغالب بالغفائر على رؤوس كل أهل الأندلس في دراما «صقر قريش» لأنه يمثل هذه البدايات، فإن دراما «ربيع قرطبة» و»ملوك الطوائف» أخطأت حين عممت ارتداء العمامة وجعلتها لباس رأس الكثير من الأندلسيين. إذ تؤكد المصادر أن كثيرا من هؤلاء، من غير البربر، لم يكونوا يتعممون، بل كانوا يتخذون القلانس أو يسدلوا شعورهم في أغلب الأحيان. ورغم ذلك فمن الواجب الإشارة إلى انتباه حاتم علي ووليد سيف هذه الملاحظة في دراما «ملوك الطوائف» فحرصوا على إظهار عدم تعمم الكثيرين من أهل الأندلس بناء على المصادر، وقدموا مشاهد كثيرة لشخصيات حاسرات الرأس. كما وجب التنويه بتقديمهم لبعض اليهود بعمائم صفر كما تقول المصادر.
الباحث عزيز زروقي رصد عدم توافق بين ما ورد في دراما «ثلاثية الأندلس» وما حضر في المصادر بخصوص أغطية الرأس، تقديم العمامة دليلا على الانتماء إلى خطط الدولة الأموية وكأنها من لباس الوظيفة. واعتبار العمامة تجليا للرقي الاجتماعي ووسيلة للتمييز بين العامة والخاصة، فجعلت العمامة لباس الخاصة دون العامة، وهو ما لا تؤكده المصادر، واستعمال جميع فئات الخاصة للعمامة عكس ما ذهبت إليه المصادر مع استثناءات في «ملوك الطوائف». كما استعملت في مشاهد متعددة وسيلة للإهانة والإقصاء، والإساءة، وهو ما لا نعرف مدى صحته في المصادر.
أما ملابس النساء المستعملة في دراما «ثلاثية الأندلس» فقد سجل الباحث أسئلة كثيرة عنها وأكد صعوبة الحسم في كونها تاريخية وتحاكي لباس النساء في أندلس عهود الإمارة والخلافة والطوائف. وربما كان السبب في أن وصف المصادر لم يكن بالدقة اللازمة مقارنة بملابس الرجال. كما أكد على استعصاء التعرف على أسماء كثيرة وردت في المصادر عن لباس النساء مثل القباء والإزار والملحفة والدرع والقميص والسروال والإتب والوشاح والملوطة وغيرها، في مشاهد دراما «ثلاثية الأندلس». وفي كل الأحوال فإن شرائح النساء في هذه الدراما كانت قليلة ومعظمها كان من نساء الخاصة، حيث غلب على لباسهن الأناقة والإسراف والغلو في الخامات؛ وهو ما ذهبت إليه بعض الدراسات، أما نساء العامة والفئات الوسطة فمن الصعب التعرف على محاكاة لباسهن في الدراما لقلة النساء التي حاكت مشاهد فيها.
وفي المجمل فقد خلص الباحث من خلال دراما «ثلاثية الأندلس» أننا أمام نماذج واضحة لما يجب أن تكون عليه الدراما التاريخية وأمام أمثلة بارعة لقدرة مؤلف الدراما أن يتقمص شخصية الباحث في التاريخ ويستحضر محاذير العمل على المادة التاريخية، كما تبين في الأخير وبغض النظر عما سجله الباحث من ملاحظات أن تاريخ المغرب في حاجة ماسة إلى أعمال وازنة بهذا الحجم وهذا المجهود لتعميم المعرفة التاريخية وتمكين الجمهور من تاريخهم وجعل الباحثين والمتخصصين يرون شكلا من أشكال إعادة تشكيل الماضي وجعله يحدث في الحاضر أمامهم.