«تتمنع عني العبارة» للشاعرة أمينة الأزهر العبارة بين الكشف والإخفاء

عندما أهدتني صديقتي الشاعرة مينة الأزهر ديوانها الأخير، أو لنقل مولودها الجديد ، استرعى اهتمامي وفضولي العنوان الذي تصدر الغلاف: «تتمنع عني العبارة «
وشاءت الصدفة أن أكون قارئة من قارئيه، وبحكم تكويني الفلسفي، لم يفتني أن أتساءل بعد الدهشة التي تولدت لدي :كيف للعبارة والتي تدخل في مجال اللغة، أن تتمنع عن الذات؟
الذات المفكرة، المريدة، الحرة، والرامزة عن طريق اللغة، التي أكد اللسانيون المعاصرون بعد رحلة من الأبحاث في هذا المجال، على أهميتها وقيمتها وضرورتها داخل الجماعة البشرية .
ومن بين من عالج مسألة اللغة، نورد هنا الفيلسوف الفرنسي ميرلوبونتي الذي أكد على أن اللغة والفكر، كلاهما محتو للآخر، فالفكر ليس شيئا «داخليا «.ولا يوجد خارج العالم والكلمات،لأن الفكر والتعبير يتكونان في آن واحد .فكيف للعبارة أن تتمنع عن الفكر وعن الذات ؟
ما الذي يحول دون ذلك، خصوصا وأن للغة وظيفتها الأساسية (التواصل) حسب العالم اللساني دوسوسير، أما اللساني الفرنسي ديكرو فيعتبر أن الكلام بطبيعته كلام من أجل الغير، وأن اللسان ينجز هو ذاته، بقدر ما يوفر للأفراد مجالا للتلاقي .
والشاعرة أمينة ، نجدها قد اختارت كمجال للتلاقي مع قارئها « الشذرة «، وأيضا اختارتها لتعبر من خلالها إلى ذاتها، وتعبر عن تجربتها الوجودية.
الشذرة والتي هي جنس أدبي ، عرف ظهوره منذ القرن الخامس قبل الميلاد مع الفلاسفة الطبيعيين الإغريق لتفرض نفسها في النصف الثاني من القرن 17، وتتحول إلى منهج في الكتابة وللتعبير في منتصف القرن التاسع عشر، خصوصا بعد انتشار مؤلفات الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه الذي من خلالها كان يتمرد على الكتابة الفلسفية الكمية النسقية، ويعلن بذلك أن الشذرة «فن الخلود «.ومن منا لا يشتهي الخلود اشتهاء، نحن الفانون ؟
أبت الشاعرة المبدعة أن تفنى كذات حاملة للمعنى، ولرسائل قضايا ربما كان طرحها ليس هنا، بل هو حقل السوسولوجيا الثقافية موطنها ، إذ من خلال شذرات مكثفة الدلالة مكثفة اللغة يمكن للقارئ أن يحس أننا أمام ذات نجحت في تحويل المأساة الى ملحمة وهي تلبس ذرع آريس ( روح المعركة /إله الحرب ) عند الإغريق ، لتنتشي كإلهة للنصر (نايكي) بفرحته وجدواه.
تقول الشاعرة :شذرة 157
في جلد
أحمل عمري
متجاهلة خيبات الوجود

(شذرة 138)
عبر نور القمر
ترف نجماتي
نحو الضياء
لقد عبرت الشاعرة عن هذه اللحظة الفارقة من وجودها من خلال العنوان الكبير الذي تصدر 61شذرة :
صفصافة البيت العتيق خدشتها الخيبات
لننتقل معها في تشوق إلى ما بعد الخيبات التي طالت الصفصافة ( اعتاد المصريون القدامى أن يزرعوا الصفصاف أمام إلهة الحب حتحور والتي كانوا يخاطبونها في البيت القديم المحيل على الذكرى والذي ينهل من الذاكرة الموجوعة .
ننتقل معها إلى حيث الوعد بالمطر بعد الغمام، والحياة بعد الموت .
(الشذرة 66):
في زحمة العمر
شجو تسلل في الوريد
تعيش طقوسه بتفاصيلها ،
طفلة اشتاقها الحلم
(الشذرة 71)
تربك النبض
بذرة أمل
انعشت الذاكرة
(الشذرة 72)
على أهداب الرجاء
تروي خلجات النفس
نفحة من ضياء
(شذرة 78)
على شفا السهاد
أرواح حرة
لاتكبلها عتمة !

انتقال لم يكن سهلا ولا متاحا ، بل كان عبر مخاض كبير عاشته الذات وصراع نفسي بين حنين، ذكرى ، يأس وبين أمل ورجاء .
(شذرة 91):
في أروقة التذكر
مكنون عنيف
أرنو إليه
(شذرة 96)
في وشوم الماضي
تنمو حالات جوى
أجثو على بعض من نبضي
(شذرة 21)
انتظرت الغيث طويلا
أجساد ضامرة
أجهدتها الخيبة
(الشذرة 20):
للسماء درك يادمعي
تجاعيد ألفت
طعن الأيام

(الشذرة 18)
من كثرة الكبوات
ارتج المكان
أربك تغريدي

لكن، هانحن نلمح بصيص الأمل يدب بين ثنايا شذرات ضمت في بهاء كبير، ما ضجت به الذات وما عمق من تجهدها الوجودي .
(شذرة 101)
في شفاه الفجر
أمنية لم تنطق
شقت الصدر
(الشذرة 97)
رعدة ملتاعة
تهذي بالجراح
بح صوتي !

ذات حرة، إرادة خطت نحو أفق جميل ( يبتهل المنى) يضمد جراح ( طفلة بداخلي لا تريد ان تكبر )، تمثلها الشاعرة بغمامة مرجوحة لا تريد أن تضع .
إنه بوح !

(الشذرة 114)
بوح ضاق به الحرف
تيه في التيه
تشتهيه الروح

(الشذرة 120)
على طرف أيام لم تطب
طيف طرقت باب معبده
يأبى على توهجي أن ييأس

(الشذرة )137
برقة الملهوفة
أستسلم لسحر عبير
لحنه الصبابة

الديوان تضج شذراته بكثير من البوح العف، والذي لم يكن يجد له فسحة ليتملك وجودا حقيقيا ، بعد أن تملك الذات التي بح صوتها من أجله، ولأجله، وأماني لم تنطق رغم أنها شقت الصدر، وحولتها (أي الذات) هي الأرض العطشى إلى ذات تعزف من الماء فرحا عذبا .

الشذرة 105
على صهوة الأماني
من خيوط نظرة
أغزل أفقا

الشذرة 98
توق بنكهة التحدي
يستوطن كنفي
ربما كنت أهذي !

لا ، الذات هنا لم تكن تهذي ولا كانت تنسج أوهاما، بل هي كانت وأظنها لاتزال تحمل بين ثناياها أحلاما عبرت عنها بجلاء ونجاح .

(الشذرة 102):
على جبهة الأيام
حلم يتدثر
تراكم مداد حرفي !

حرف اتشح بجمالية وبقوة لغوية، وأيضا بقدرة على تصوير دهاليز النفس التي رغم الحصار المضروب عليها،والذي يغذيه الاجتماعي والثقافي مثقلا كاهلها، محولا الذات المتكلمة المبدعة إلى معبر لكشف ما لا يسمح له أن يقال أو ما لم يقل بعد كما عبر عن ذلك ميشيل فوكو وهو يتحدث عن الشذرة «الشذرة تعيش على هامش المقول الذي يبقى دائما قابلا لأن يقال من أجل الكشف عن الكلام الذي لم يقل بعد .».
هذا هو ما عنونت به المبدعة ديوانها :التمنع «تتمنع عني العبارة» التي أراها حتى وإن توافرت كل شروط المنع، والتمنع، وهذا التسييج المفروض على الذات، والمحكم قبضته عليها ، إلا أنها أفلحت في أن تهدم أسواره الخفية، وتكتب في سرية وعلن، في بوح وإخفاء، في كشف وحجب ما يتنطع عن تحنيط أو إقصاء لما يمكن أن تحياه الذات وهي تعيش في أعتى لحظات وجودها المتشظي.


الكاتب : فريدة بوفتاس

  

بتاريخ : 31/01/2025