تجربة الشاعر عبد الغني فنان : عندما تتحول رهافة الحس وقوة الكلمة إلى سلاح يخدم قضايا الإنسان

الكلام عن ديوان الأستاذ عبد الغني فنان، وعن تجربته الشعرية .كصوت مراكشي مناضل، من بين تلك الأصوات التي اختارت توجيه طاقاتها لخدمة قضايا الإنسان، لا يمكن استيفاء الحديث عنه في مقال، ذلك لان استيعاب تجربة تجر وراءها سنوات من العمل الدؤوب ومن الكتابة في مجالات الصورة والشعر، ومحاولة الإمساك بجذرها، يتطلب مجالا واسعا من التفكير والبحث. على أن القيم والمعاني التي تعكسها أعمال الشاعر، وخصوصا ديوانه الأخير poèmes en seul majeur «قصائد …» هي عوالم وليست عالما واحدا، وفهمها يقتضي وضعها في إطارها المتحرك، الذي يرى الوحدة في التعدد و التعدد في الوحدة.

عنوان يُغنَّى ولايُترجَم:

جرت العادة عند تناول أي بحث أو عمل أن يفرد لعنوانه حيزا، لاستنطاقه باعتباره الخاص الذي يكثف معاني العام، هكذا فاختيار الشاعر للكلمات المكونة للعنوان، كان دقيقا و مقصودا، ليس الغرض منه إشعار القارئ/المترجم بنوع من القصور، بقدر ما يشكل طريقة فذة، عرف من خلالها الشاعر كيف يكشف لنا عن جمودية الإسقاطات، وهفوات منطق المعرفة بالمماثلة الذي نقيمه عندما نتحرك بين ثنايا اللغات.
وتبرز المفارقة التي يطرحها العنوان، في علاقة التماهي التي أقامها الشاعر عبد الغني فنان بين الدال ( الكلمات كرموز ) والمدلول ( كمعنى ) داخل اللغة التي يكتب بها. هكذا فالكلمات المشكلة لعنوان الديوان الشعري، تبدو سهلة وشفافة، منفردة، لكن عندما نريد أن نعبر بها كوحدة إلى لغة الضاد، تتحول إلى سيدة مستبدة، تغادر أمكنتها ومواقعها لتعتم المعنى، مبدية نوعا من الممانعة والرفض.
إن نزوع العنوان إلى الحجب لحظة التعريب، ومعه العديد من الشذرات في كتابات الشاعر، بعد أساسي نستشف من خلاله، استحالة الإغراق في عقلنة لغة الشعر، فوحده الإنسان الذي يستطيع قراءة عبد الغني فنانقراءة المتذوق، لا قراءة العارف، قادر أن يسبر أغوار دلالات شعره، وكأنه يريد أن يقول لنا « لقد كان عليها أن تُغَنَّى « .

صعوبة و لكن!

إن صعوبة نقل العنوان إلى العربية، وتعذر حركيته في هذا الاتجاه، يجب ألا تحجب عنا ما ينطوي عليه من انفتاحات تشكل مسارات جديدة للتفكير والتذوق معا، فالصعوبة هنا لا يطرحها الشاعر كتعجيز بقدر ما يمنح القارئ فرصة لإبداع تأويله الخاص، فيبدو أن عبد الغني فنان، ملتزم بالفكرة التي تقتضي بأن ليس هناك وقائع مستقلة عن التأويل، وأن كل تأويل يمكن بدوره أن يصير موضوع تأويل جديد وفق حركة دائرية و مستمرة.

صوت الحكمة:

إن مسألة غموض بعض القصائد، ووضوح أخرى، ليس فقط مجرد اختيار، بل هي إقرار واعتراف من الشاعر بواقع متعرج، سمته التعدد والغنى والتنوع، ما يقتضي التنويع في الأساليب، والطرق التعبيرية. ولعل الحكمة واحدة من أهم تلك الأدوات، التي ينقل من خلالها وبها الشاعر تجربته، فعندما يقول الشاعر في إحدى القصائد:
الشاعر الذي يرقص على حبلك المشدود
عند سقوطك تولد
أنشودة ونهار
كنبع يتدفق ماء دافئا
Poète qui danses sur ta corde tendue
De ta chute naissent
L’entre-chant et l’entre-jour
Comme un geyser.
علينا الاعتراف في هذا المستوى أن عبد الغني فنان، يقيم علاقة جدلية بين فعل السقوط وفعل الولادة، حيث يستحضر لاعب الحبل للتنبيه إلى أن الحقيقة لا تنكشف في المظهر/الظاهر. فاللعب قد يكون عبارة عن تشويه و تزييف، في حين يتحول فعل ( السقوط) كما عند الشاعر إلى ولادة و انكشاف. إن هذا التصوير، في ما يبدو لي، هو ما تتضمنه استعارة «نيتشه» عندما قال على لسان «زرادشت» : «في أي عام مبسط بشكل غريب ومخاتل يعيش الإنسان» موردا علاقة الجمهور بالراقص على الحبل le danseur de corde والذي يسعى لإبقائهم سجناء الأوهام ! فبين المعرفة وغياب المعرفة ،ينبغي دائما توخي الحيطة و الحذر من زيف المشاهد وخطورة الانصهار في بوتقة بادئ الرأي.

شاعرية ملتزمة بقضايا الإنسان :

إن قراءة بسيطة في ديوان ( قصائد …) poèmes en seul majeur كافية لأن تظهر صدق معاناة الشاعر لقضيته، إنه يعري لنا خطابه منذ البداية كاشفا مآلات مرافعته عندما يقول :
أنا الزنجي
أنا زنجي كحنابعل
كفيدريكو غارسيا لوركا
كالتاجر والمحامي والقاضي والجنرال
أنا الزنجي
أُسْمِعُ القضية وأُدِينُ التمييز
Moi le n’aigre
Je suis nègre comme hanibal
Je suis nègre comme rom
Je suis nègre Federico Garcia Lorca.
Comme le marchand , l’avocat ,le magistrat, le général,
La vieille démangeaisonde Rimbaud.
Je suis nègre ;
Je clame le sujet et la différence maculée
في قصيدة من بضعة سطور شعرية، يلخص لنا قضية إنسان مستغل (بفتح الغين) مقصي، يمكن أن نلتقي به في أي مكان من هذا العالم، قضية سيزيف جديد (الزنجي) قدر له أن يهضم صمته، الذي شبع منه حتى التخمة. إنسان استنفذت طاقاته واستلبت هويته. الزنجي هو اللامفكر فيه في جل الثقافات. حتى تلك التي تتغنى بالقيم الإنسانية. لنقل بلغة التحليل النفسي، انه ذلك المكبوت الذي قدر له أن يعيش حياة بدون حياة في ضيافة اللاشعور .
إن تكرار عبارة ( أنا الزنجي ) هو في العمق إعلان عن ميلاد انتفاضة، تنشد نفض غبار الوهم. وخجل التبني عن قضية إنسانية، صدها تحول بفعل قوته إلى هوية حية حرة ومتوهجة، عادت بنا إلى زمن حنابعل وعالم لوركا، حيث تمتزج الكلمة بالفعل والموت بالميلاد والتجاهل بالاعتراف .
ولقد ختم هذه القصيدة كما بدأها يصرخ منتصبا ليدين كل أنواع الميز. ويحس القارئ المتبصر أن الشاعر حدد انتماءه ثم وضع نفسه وكلمته في خط المواجهة، لأنه على وعي تام بأن مأساة السود ذات جذور ضاربة في العمق.

نحو تأسيس جديد للعلاقة مع الغير :

بعض من قصائد الشاعر عبد الغني فنان، تتبنى أسلوبا تصريحيا و متابعتها لا تستدعي كثيرا من التأمل والتدبر. قصائد تحكما المباشرة في تناول الموضوع، هذه الفكرة تتجسد في حلتها الشفافية عندما تتناول العلاقة بالغير كضرورة. فلكي يتوصل الإنسان إلى إدراك حقيقة ذاته، لابد له أن يمر عبر الغير فهو الوسيط بيني و بين ذاتي «يقول الشاعر :
القصيدة
كسفر
نحو بين «الأنت» و«الأنا»
بين الأنا وأنا
La poème
Comme voyage
Vers
Entre
Toi et moi
Moi et moi
إن الشعر من هذا المنظور «وسيلة ثقافية» أساسية تنقل العلاقة مع الغير من عالم الغربة والتمثل إلى عالم الألفة. وتسمح بانفتاح عالمين: عالم «الأنا» وعالم الغير. في فضاءات دافئة و حميمية . فالشاعر ينتصر لفكرة مفادها أن القصيدة، لغة مفتوحة إلى أبعد الحدود، تريد أكثر ما تريد، خلق مجال مشترك يسمح بانسياب الذوات. وكأن نهر الكلمات الموزونة يشق بين العقول مجراه.
عود على بدء !!!
إن قصائد عبد الغني، عميقة في تعبيراتها، وغنية في تصويراتها، تدعى صدق تجربته، تنفعل بانفعاله، وتتفاعل بتفاعله مع القضايا التي يعالجها. تسافر بالقارئ إلى عوالم أخرى، تقع خارج حدود المألوف الشعري. إن صوره الشعرية، كائنات تحجب بقدر ما تعطي وتمنح، تسمع بقدر ما تتكلم، كائنات ترتدي زي اللغة/الرمز لكي تتجاوزهما نحو عالم المعنى، وفق حركية مستمرة، تحمل في ثناياها شاعرية مرهفة، أكثر ما تصطبغ به هو إدارة الحياة .
(*) (باحث في الادب)


الكاتب : n م.البخاري (*)

  

بتاريخ : 04/04/2017