تحولات الإعلام السمعي البصري في المغرب محور ندوة موضوعاتية بجامعة فاس

عندما سألت عبد الصمد بن شريف خلال ندوة تحولات الإعلام السمعي البصري بالمغرب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس فاس نظمتها شعبة علوم الإعلام والتواصل في ال7من ماي الجاري عن مصير أرشيف التلفزيون المغربي منذ نشأته عام 1962 حتى الآن، لم يكن جوابه صادما فحسب، بل فجائعيا على نحو مفزع للغاية حيث قال:
أجل، الأرشيف السمعي البصري منذ الاستقلال إلى الآن أهم ثروة تم التفريط فيها بغباء وكان خطأ جسيما. وتأسف عبد الصمد على التفريط فيه وضياع جزء كبير من هذا الأرشيف نتيجة سوء التقدير المبني على الإهمال والغباء. كان الأرشيف يوضع في المرائب التحت أرضية والكراجات والزوايا الرطبة مما عرضه للتلف جراء الرطوبة الشديدة .أنها سياسة الاستهتار والجهل بقيمة الأرشيف كثروة مادية ولا مادية وتبخيس مكانته في الذاكرة الجمعية للأمة . أما مصير ما تبقى من هذه الثروة فقد كشف المحاضر أن ما تم استعادته من فرنسا يوجد طور الرقمنة ،مشيرا إلى أن هناك إمكانية لإحداث قناة وثائقية على غرار دول الجوار العربي كالجزائر ومصر مثلا. هذه الأخيرة تتوفر على قسم للذاكرة بالتلفزيون . ولها قنوات موضوعاتية لا تقتصر على توظيف الأرشيف ،بل تعتبره من صميم اهتمامها وبرمجتها .وخلص إلى القول أن إحياء هذا الأرشيف وإعادة استثماره بكيفية ناجعة يحتاج إلى قرار وغلاف ومتخصصين لترميم الوثائق المتضررة وبرمجة محتوياتها رقميا .
وشدد بن شريف على أهمية الأرشيف السمعي البصري باعتباره كنز هوياتي يوفر كرونولوجيا أسماء وتجارب، ويعزز ثقافات وأشكال مدنية تراثية من أغاني سهرات برامج وأعمال تلفزية وحلقات وعروض وحوارات ومسرحيات ولقاءات مع كتاب وفنانين ومبدعين الجواهري العروي.. وآخرون شكلوا ثروة حقيقة للأمة وروادا طلائعيين للمؤسسة الإعلامية في مختلف المجالات . وخلص إلى أن الأمر يحتاج إلى قرار سياسي. حتى يتسنى إنقاد ما تبقى صالحا للعرض بواسطة الرقمنة واستطرد قائلا لكن المادة المتبقية الصالحة للعرض جزئيا في المغرب تحتاج إلى خبرة أجنبية للتوضيب لا سيما المتهالك من الأرشيف والذي يحتاج لتقنيات متطورة وعالية لا نمتلكها وعلينا الاعتماد على الخبرة الفرنسية وهذا أمر مكلف جدا .
إلى ذلك شكل موضوع «تحولات الإعلام السمعي البصري بالمغرب يوم 7 ماي 2024. محور ندوة تفاعلية مع الصحفي والإعلامي عبد الصمد بن شريف مدير القناة الرابعة» الثقافية» يسر أطوارها باقتدار الدكتور محمد الزوهري بحضور وجوه من حقل الصحافة والإعلام ونخبة من أساتذة الجامعة المغربية سواء من نفس الكلية أو خارجها ،كما غصت القاعة بطلبة وطالبات شعبة علوم الإعلام والتواصل وشعبة اللغة الإنجليزية وممثلي عدد من المنابر الإعلامية فضلا عن تمثيلية للشبكة الوطنية للقراءة والثقافة. كل التثمين إذن للجهود التي بذلتها شعبة الإعلام والتواصل بالكلية من أجل الإعداد والتنسيق وجعل اللقاء التواصلي التكويني متميزا ومشرقا بالوجوه والطموحات والتفاؤل . تجدر الإشارة إلى أن هذه الشعبة تعتبر من بواكير الدرس الإعلامي في الجامعة المغربية. و يرجع تاريخ تأسيسها بفاس حسب د الزوهري أستاذ المادة بالكلية للمرة الأولى على الصعيد الوطني في الجامعة المغربية إلى العام 2008 على يد الأستاذ القدير محمد القاسمي. ومنذ ذلك التاريخ، راكمت الشعبة تجربة مهمة على مستوى تكوين وتأطير أفواج من الطلبة .كما سبق أن تخرج منها العشرات من الطلبة منهم من يزاول حاليا في منابر إعلامية وطنية وأجنبية . ونود أن نتوجه بالشكر الجزيل إلى الحضور الإعلامي المواكب لمجريات اللقاء في شخص الزميلة إيمان خليف عن محطة راديو بلوس- الزميل يونس الشرقاني إذاعة فاس الجهوية – والزميل سعيد بقلول وطاقم موقع rfm24 ومراسل جريدة الاتحاد الاشتراكي ، فضلا عن نشطاء إعلاميين ومهتمين بالصحافة والإعلام.
ويندرج هذا اللقاء الموضوعاتي في سياق البرنامج السنوي لأنشطة شعبة الإعلام والتواصل بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس بفاس، وانفتاح الجامعة على محيطها خدمة للطلبة وتشجيعا لهم على ارتياد آفاق البحث والتكوين والارتقاء بحب المهنة وشغفها لدى المقبلين عليها من شباب الجامعة المغربية. وارتكز اللقاء على ثلاثة محاور رئيسية ، المسار الإعلامي للرجل بقبعاته الثلاث السياسية الإعلامية والإبداعية. استوفاها الأكاديمي بن شريف وأسهب بخبرته وتجربته الإعلامية الواسعة في تسليط الضوء على مختلف تجلياتها وتمظهراتها بكل صراحة وموضوعية. ويحسب للدكتور محمد الزوهري احترافية الربط ومهنية تيسير المحاور وتفاعلها بدينامية بين المحاضر والطلبة.
بعد ورقة تقديمية عن الضيف بدا أن الأمر يتعلق برجل ارتبط بعالم الصحافة على مدى أربعة عقود وأحد الوجوه الإعلامية المرموقة على الصعيد الوطني التي بصمت الساحة الإعلامية الوطنية والدولية يتميز .إنها تجربة تمازج نظيف ممتد بين الصحافة والثقافة والسياسة. لقاء ممتع وغني ومثير، لقاء مساءلة تواصل وتفاعل . ولما كانت نظرة الضيف إلى الإعلام العمومي ترتكز أساسا على اعتباره الأصل والمرجع. لا سيما حين يتعلق الأمر بمسألة المصداقية والالتزام بالأخلاقيات . فقد شدد على ضرورة العودة إلى الإعلام العمومي فيما يخص الخبر الذي يثق به الناس ويحظى بمصداقيتهم. مستشهدا في هذا الصدد بما وقع في العالم خلال جائحة كورونا ،حيث عاش العالم كله حالة من الذهول الدهشة الجماعية الكبرى يقول المحاضر .مشيرا إلى ما اعترى العالم حينذاك من ندرة في الأخبار وشح المعلومات .ما جعل المرء خائفا مرتعدا لا يعلم مصيره. وأبرز بن شريف أهمية الإعلام العمومي الذي كان الملجأ الملاذ في تللك المرحلة الحساسة من تاريخ البشرية. وتابع قائلا إن جائحة كورونا التي هزت العالم تعتبر تيرمومترا حقيقيا للقياس . ومختبرا أو مجهرا وضعت تحته كل المؤسسات بما في ذلك الإعلامية . ذلك أن 40 بالمائة من شباب المرحلة كانوا يشاهدون قناة BBC بسب المصداقية والخبر اليقين الذي يطمئن وينطلق من الحقيقة و ينشر السلام والأمن والاستقرار.
وتطرق بن شريف إلى ما أسماه الهجرة المبكرة للكفاءات ومغادرتها للمؤسسات الإعلامية بالمغرب داعيا الأوصياء على الشأن الثقافي إلى عدم الانصياع وراء قوانين حد السن التي تفسح المجال لمغادرة المجال الإعلامي في 60 سنة وهي ذروة النضخ والاختمار . وأوضح في السياق ذاته أن فتح المجال أمام الكفاءات كي تمارس نشاطها الإعلامي بمؤسساتها بعد التقاعد ضمن رؤية جديدة مؤطرة سيضمن أن تظل مرجعا ومشعلا سيأخذه الجيل القادم لإنارة الطريق وجعل الرؤية الإعلامية أكثر وضوحا . إذ من شأن بقاء الكفاءات والخبرات المرصدة بالمؤسسات الإعلامية العمومية أن يضخ قيما وحماسا تستفيد منها الأجيال اللاحقة. وللتأكيد على أهمية المسعى النبيل ، أورد بن شريف أمثلة حية من الغرب وأمريكا على وجه الخصوص حيث تحظى البرامج بثقة الناس وبمتابعة ومصداقية حتى ومنتجوها ومعدوها يتجاوزون 67 سنة .هناك مقدمي برامج ونشرات يفوق عمرهم ال70 سنة في قنوات غربية وبرامجهم تحظى بالمصداقية لدى عموم الشعب. وختم مشددا على ضرورة أن تعيد مؤسساتنا الإعلامية النظر في استراتيجية تدبير الموارد البشرية باعتبارها ذخيرة حية وعدة استراتيجية في حقل الصحافة والإعلام. لافتا أن هناك كفاءات وتجارب ملهمة تصرف الدولة عليها الكثير وتتخلى عنها في أوج عطائها بدافع حد السن . وهذا ما يبخس جهود الشباب المقبل على ارتياد آفاق الصحافة والإعلام بالشغف الذي نرغبه.
وشدد المحاضر من هذا المنطلق على أهمية الخدمة العمومية ومفهوم المرفق العام والرسالة التي يقوم بها باعتبارها إحدى الرسائل الأساسية مهما بلغ تطور التكنولوجيا ومهما كان الذكاء الاصطناعي جبارا وماحقا. مؤكدا عدم التضحية بالمرفق العمومي لأنه يهم الوحدة الوطنية ويهم كذلك مسألة المصداقية الاستقرار والأمن المجتمعي. وأبرز في السياق نفسه ما للنشرة المسائية على القنوات العمومية من تأثير على المجتمع بقوله «أن الإعلام العمومي التقليدي هو الأصل، ولا يمكن تجاوزه ولا القفز عليه. فإلى حدود الساعة يضيف بن شريف فإن نشرة المساء الرئيسية في أي دولة في العالم تشكل موعدا مقدسا. كما هو الحال في المغرب. حيث هناك من ينتظر الموعد ليرى النشرة الجوية فقط وآخر يريد معرفة نتائج فريقه الرياضي فقط.. مؤشرا على ما أسماه « علاقة نوستالجية بين المشاهد والمؤسسة الإعلامية».
وبعد رصده للتحولات في المجال السمعي البصري بالمغرب وما يطرح من أشكال المنافسة -الإعلام البديل- ،أشر المحاضر على حتمية الاعلام العمومي كمرفق عام .مؤكدا في الوقت نفسه، أنه سيظل ساريا ومركزيا ،مرتبطا بنقل الخبر الصحيح وبخدمة المرفق العام. ليس لأنه محكوم بدفتر تحملات محكوم بالهاكا محكوم بالحفاظ على الهوية الوطنية للمغاربة بمختلف مكوناتهم . ويراعي مبدأ التعدد والغنى في الموروث الثقافي للأمة فحسب، بل لأنه أيضا ممول بأموال الشعب ودافعي الضرائب.هناك مسؤولية والتزامات أخلاقية يقول المتحدث خلافا لما يحدث على الضفة الأخرى من الإعلام الخاص أو البديل تجاوزا، عبر وسائط التواصل الاجتماعي ،حيث لا حسيب ولا رقيب ، لا كوابح ولا حصارات . وهذا راجع إلى بعض الاختيارات يقول بنشريف مشيرا إلى ما حصل مع تجربة باسو خلال برمجة رمضان التي أبهرت البعض بطغيان الكرافيزم والإنارة بشكل مثير، وقال في هذا الصدد « الإعلام العمومي يتوفر على صحفيين محترفين وبإمكانه أن يصنع الأفضل. إنهم قادرون و يبدعون العجائب وبإشكال متطورة جدا . خلافا لذلك ، يضيف بن شريف لما يكون شخص ما يمتلك خطابا معينا. و في وضع متحرر ،في حل من أي التزامات مؤسساتية أو دفاتر تحملات تكبح جماح تعبيره. مشيرا إلى أن الإعلام العمومي يعني الوطنية بالمعنى الشامل للكلمة لا يقبل بعرض بعض الممارسات المشينة على أنظار 40 مليون مغربي .لا يمكن أن يسمح بمشهد يضع الخمر فوق الطاولة في رمضان .لأن له التزامات أخلاقية اتجاه المجتمع من عائلات بكل مكوناتها وحساسياتها ومرجعياتها.
وعلى صعيد آخر. ثمن عبد الصمد بن شريف خيارات شباب شعبة الإعلام والتواصل بالكلية مذكرا بنبل مهنة الصحافة وسمو رسالتها المقدسة. مؤشرا على ضرورة الاحتكام إلى الضوابط و الأخلاقيات بوصفها أحدى الركائز الأساسية التي يمكن الاستناد إليها في ممارسة المهنة. مشددا على ضرورة المصداقية قبل نشر الخبر والجرأة في صناعته . وفي سياق الأدوار التي يجب أن يطلع بها صحفيو المستقبل ، نبه بن شريف بصفته خبيرا في المجال أن الدور الذي يمكننا أن نقوم به كمجربين ومهنيين هو أن نكثر مثل هذه اللقاءات التفاعلية في مجال الإعلام والتواصل في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها ميدان السمعي البصري كوكبيا . لنجسد بواقعية سمة التلاقح والتواصل والاستمرار. ولعل التناص مع حياة محمد شكري وبيرنار بيفو وفيصل القاسم و الجواهري والجراري … توقظُ في الصحفي الشاب روح المثابرة و التحلي بالعزيمة والجرأة للخروج من بوثقة النمط و التغريد خارج الكورالات الرتيبة الجامدة و الخالية من أية معنى نبيل .
مواضيع أخرى كثيرة ومتنوعة تطرق إليها المحاضر أو مر عليها استشهادا دعما أو أسنادا : تحرير القطاع وإقرار التعددية الإعلامية- الانتقال الديمقراطي بالمغرب في بداية الألفية – تخفيف القيود على الممارسة الإعلامية في بلادنا وفتح هامش كبير من الحرية والانفتاح. في الحاجة إلى هوليدنغ إعلامي مبنى على الاحترافية- تقديم منتوج إعلامي جيد لا يستقيم دون موارد مالية وبشرية معتبرة – مالذي على المغرب القيام به وهو مقبل على مونديال 2030 . ضرورة تطوير القطاع السمعي البصري والعمل على الرفع من تنافسيته-الإعلام الخاص الجديد البديل -الذي يستند على وسائط التواصل الاجتماعي لن يكون بديلا للإعلام التقليدي في المصداقية وإنتاج الخبر الذي يحظى بثقة الناس – الإعلام الإلكتروني رغم فوريته ونجاعته رافقته جملة من الانتهاكات والأخطاء الجسيمة – فسح المجال لمن هب ودب كي يحمل ميكروفونا وأوتوكول صحفي دون رادع . تسجيل فوضى وغياب التقيد بأخلاقيات المهنة والجهل بقواعد الصحافة وقوانينها – الجزء الأكبر من الممارسين للمهنة دون رصيد ثقافي أو معرفي – استئساد الميوعة وهيمنة التفاهة إساءة حقيقة للمهنة. هشاشة الأرشيف السمعي البصري بالمغرب – ضعف المضمون الثقافي في الإعلام التلفزيوني يعود إلى ضعف الاعتمادات المادية ومحدودية الموارد الصحفية- إحداث قنوات تلفزيونية جديدة ببلادنا يحتاج إلى قرار سياسي وإرادة حقيقية من طرف الدولة. هيمنة ملحوظة للمحتوى الرقمي على الفضاء الإعلامي أمر طبيعي  ذلك طبيعيا طالما أن صناع المحتوى يركزون على مواضيع جذابة ومثيرة وبوسائل بسيطة- المشاهد المغربي أصبح أكثر قابلية للتفاعل مع المحتويات التي تبدو ظاهريا انها تعالج مشاكل يومية بلغة مستمدة من محيطه القريب –
والحقيقة تقال ،لقد كان اللقاء تفاعليا زاخرا لما فيه من أفكار و هواجس و طروحات قيمة إضافة إلى لغته الصحافية السلسة و أسلوب السرد الشيق الممتع ، و لعل للحديث حول الصحافة ومتاعبها مع المولوعين بسِحرها الأدبي سر خاص .و كمتتبع ممتن لهذا الزخم الذي قدمته لنا شعبة الإعلام والتواصل ضمن أنشطتها السنوية .و هذه المتعة التي منحنا إياها عبد الصمد بن شريف على مدى ساعتين وأكثر. و نحن نتابع سير أحداث رجل جدير بالتقدير مسكون بحب الكلمة ومشحون بشغفٍها باهتمام بالغ فاق الشغف وتحدى الجرأة . من يقبل على مهنة الصحافة لابد أن يتسلح بأمور ثلاثة 1 الشغف بالمهنة . 2 التسلح بالجرأة والشجاعة- 3 القراءة المستمرة والمواظبة على المطالعة – مهنة الصحافة ليست فقط الحصول على دبلوم وولوج سوق الشغل . في كلمة الختام أعرب عبد الصمد بن شريف عن أمله في أن يكون اللقاء مع الطلبة ناجحا ممتعا ومفيدا وقادرا على إنارة الدروب وتسليط الأضواء على مجموعة من المناطق الرمادية التي يلفها الغموض في ظل هذه الثورة التكنولوجية الكاسحة والجامحة .


الكاتب : عزيز باكوش

  

بتاريخ : 16/05/2024