كتاب «حياكة (خياطة) الزمن السياسي في المغرب: خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..» للباحث والجامعي محمد الطوزي كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته العميقة حول الدولة المغربية. وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل تخلله البحث الميداني والحوارات والقراءات في الوثائق والاحداث إلخ… ونزعم أن في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة فيها عناصر لم يسبقه إليها أحد، حسب ما اطلعنا عليه من مقاربات بشكل متواضع طبعا وطبعا.
لقد تزامنت عودة السجل الامبراطوري مع لحظة سياسية جد دقيقة ومحددة ، لحظة صار فيها الوضع الاعتباري للملكية لا يناقش وغير قابل للنقاش، وقضية الصحراء قد جددت الخطاب حول الوطن. كما أن موازين القوى في الحقل السياسي صارت تلعب لصالح الملكية وحدها، علاوة على أن «الخطر اليساري» قد تم القضاء عليه ونجح الحسن الثاني في فرض المرجعية الدينية كقاعدة لشرعية الحكم على حساب الكفاح الوطني، وتحول المجتمع تحت تأثير بناء الوطن، وظهرت نخب جديدة في الوقت الذي بدأ الشعور بحدود الوطنية الاقتصادية التي اتخذت شكل قطاع عمومي قوي، عن طريق المغربة، يرتسم ..
كل هذا فتح الأبواب للإصلاحات والتحولات في المؤسسات بشكل جعل الملكية نفسها، مباشرة، تواجه المجتمع بدون مصفاة الأحزاب ولا الهيئات الوسيطة ، وهو ما قد يظهر أنه خطير كما بينت ذلك الانتفاضات الكبرى في الثمانينيات . وقد حدثت هذه التحولات في سياق دولي صارت معه الإيديولوجية النيوليبرالية، المهيمنة، الرحم الوحيدة التي يمكن فيها للإصلاحات الاقتصادية والسياسية المفترضة أن ترى النور..
المنعطف النيوليبرالي في المغرب
يمكننا التأريخ بالإرهاصات الأولى لـ»منعطف النيوليبرالية» في سنة 1978 عندما سعت الحكومة، بمبادرة منها، إلى وضع سياسة للتقشف والتقويم المالي للدولة، وهي السياسة التي سرعان ما تم التخلي عنها بسبب التوترات الاجتماعية ( هذه الإجراءات أثارت انتفاضات الخبز في سنة 1981، التي اشتهرت في المغرب بانتفاضة الدار البيضاء والتي قُمعت بطريقة دموية خلفت حوالي 100قتيل ).
هذه الفترة النيوليبرالية الأولى هي فترة إعادة تقويم المالية العمومية ومحاولة حل معضلة المديونية. وقد انتهت رسميا في 1992، وهو التاريخ الذي خرجت فيه البلاد، بعد اعتبارها مستقرة، من سياسة التقويم . وطوال هذه الفترة ، في المغرب كما في غيره من الدول، سيعمد اتفاق واشنطن إلى نشر وشرعنة فهم آخر للاقتصاد ودور الدولة ، مسهلة بذلك نقل معايير جديدة. وهذا الانتشار لم يقف عند الحدود الماكرواقتصادية، بل عرف نموا قطاعيا لاسيما في الفلاحة..وبهذا الخصوص انطلقت برامج التقويم الهيكلي الفلاحي (باساPASA)) في سنة 1985) مع برنامج توسيع المساحات المسقية pagi ، وبرنامج الاستثمارات في القطاعات الفلاحية (بيزاPISA) والتي لم يمولها البنك الدولي وحده فقط، بل ساهمت في ذلك منظمة الأغذية العالمية (الفاو) والصندوق الدولي للتنمية الفلاحية (فيدا)، علامةً على اختراق عام وسريع للإيديولوجية النيوليبرالية داخل الأمم المتحدة والمجموعة الدولية، اختراق قليل من الكتابات توحي إليه. وهذه البرامج لم تقف فقط عند التقليص من الالتزام المالي للدولة وتحرير الهياكل الإنتاجية والتسويقية مع إلغاء أغلبية المكاتب كما هو حال مكتب التسويق والتصدير ومكتب الشاي والسكر.. والتقليص الصارم للدعم ، باستثناء الدعم المقدم للمواد التي تعتبر حيوية وأساسية وحساسة من قبيل الدقيق والزيت والسكر والغاز….كما رافق كذلك، مجيء آليات وأجهزة «التتبع والتقييم» المتمحورة حول الأراضي المسقية مثل اللوكوس في منطقة الشمال 1982ـ 1984..
هذه الإصلاحات الأولى عنت الاختراق السريع لمعايير جديدة للتدخل، وترجمت انشغالا جديدا بالنجاعة والشفافية والمسؤولية.. وإذا كانت قد ساءلت الطريقة التي اشتغلت بها الدولة في الستينيات والسبعينيات، أي تقليص التكاليف عبر استعمال الوسائل واللجوء الى الخواص في التدبير العمومي، فإن هاته اللحظة الأولى كانت أيضا لحظة التعبير عن التنويع في المعارضة، وعن صمود قوي بما يكفي (تمظهر في «انتفاضات الخبز» في 1981 الدار البيضاء و1984 في شمال المغرب ومراكش )..كما كانت لحظة المقاومات والانزياحات والحيل من طرف السلطات المغربية ( كما كان الأمر عليه في حالة مسلسل المفاوضات حول التدبير المفوض لفائدة ليديك بالدارالبيضاء وريضال في الرباط مع ما صاحبها من نقاشات عمومية «حقيقة ومخادعة «..).
سنعود، في ما بعد، الى المعنى السياسي لهذه التوترات والتي انزلقت أحيانا إلى العنف، ولكن يمكننا بادئ ذي بدء أن نقول من الآن إن هذا المنعطف شكل صدمة من وجهة نظر النزعة التدخلية للدولة الوطنية المهيمنة وقتها في المغرب..