كتاب «حياكة (خياطة) الزمن السياسي في المغرب: خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..» للباحث والجامعي محمد الطوزي كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته العميقة حول الدولة المغربية. وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل تخلله البحث الميداني والحوارات والقراءات في الوثائق والاحداث إلخ… ونزعم أن في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة فيها عناصر لم يسبقه إليها أحد، حسب ما اطلعنا عليه من مقاربات بشكل متواضع طبعا وطبعا.
في العالم القروي، تجسد التطبيع مع النيوليبرالية في برامج سميت بالبرامج التشاركية ذات الصلة بالتجهيزات الأساسية، علما أن التشاركية هنا تحيل على دفع المستعملين لكلفة التجهيزات! أما في الصناعة، فنجد أن المشاركة أقل تثمينا من الخوصصة، خصوصا مع إلغاء القانون الخاص بالمغرب والصعود القوي، (وغالبا ما تكون العودة القوية) للرأسمال الأجنبي أو انطلاق برنامج خوصصة المقاولات العمومية في 1993 .وقتها سنشهد عملية حقيقية «للتخصيص الموجه» customisation الذي يستعير القاموس الامبراطوري : التويزة والكلفة، الجماعة … وإذا كانت هذه البراديغمات الجديدة قد وصلت عبر الخبرة والتمويلات الدولية، فإنها شقت طريقها عبر العديد من المؤسسات والإدارات، في حين أعطاها المخيال السياسي المشترك، معنى. وكان «التملك» المغربي لوحده قد جعل تأثير مكاتب الاستشارة ، ممكنا، وهو الذي يفسر كذلك كيف أنه مع الخروج من سنوات الرصاص، كانت الحكومة التي يقودها اليسار الوطني سرعت، بحماس، تنفيذ برنامج الخوصصة. وسنعود إلى هذه التطورات والمفارقات في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
النيولبيرالية والحمى الاستراتيجية..
منذ 2005 تجسدت النيوليبرالية في ما سميناه في مكان آخر»الحمَّى الاستراتيجية»، ولعل الحدث الذي يرمز إلى هذه اللحظة الجديدة ، التي ختمت على التطبيع النهائي مع النيوليرالية وملاءمتها مع أنماط الحكم في المغرب، هو تقرير الخمسينية حول التنمية البشرية، حيث إن تخليد الذكرى الخمسين للاستقلال قد شكل قطيعة، إذ كانت لحظة لتملك مجمل التوصيات والخطابات « الخارجية»وخطابات البنك الدولي، وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية (بنود pnud)، كما توصيات وتقارير وخطابات المعارضين السياسيين في الأمس. وصارت الانشغالات الاجتماعية لهؤلاء المعارضين التي صارت تدمج ابتداء من 1998 مع حكومة التناوب، قضايا مركزية. وقد وضع التقرير كشفا بوجود انشغال بأفق مستقبلي، ورسم استراتيجية للعهد الجديد بعد ست سنوات من اعتلاء محمد السادس للعرش.. وإذا كانت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والأشغال الكبرى ( طنجة المتوسط، ومارينا الدار البيضاء وتهيئة أبي رقراق في الرباط سلا و»تي جي في» ) رموزا لتقنوقراطية الإرادوية الملكية – تقننةtechnocratisation «، فإن تقرير الخمسينية رسم التوجهات الكبرى الاقتصادية والاجتماعية للبلاد وحدد ملامح الإصلاحات القطاعية و»الحكامة «..القادمة!
لقد فتحت لحظة الخمسينية إمكانية القطيعة التي بدا أن الجميع يعتقد فيها، بما في ذلك الخارج. بيد أنه، وبعد 15 من بعد، وبالرغم من كل التحولات العميقة، تبدو مميزات النظام السياسي مازالت على حالها، وهو ما يفسر، جزئيا، حجم الانتقادات، وهي غالبا ما تكون هجومية حادة جدا، الموجهة للنظام، سواء من فاعلين مغاربة أو فاعلين أجانب أو هيئات دولية.. وهذا التوتر بين تأكيد التغيير والشعور بالباب المسدود ( أو على الأقل الإكراهات التي تمنع مجيء التغيير المعلن عنه) ليست بدون تأثير في الاحتجاجات والصراعات الاجتماعية والمشاحنات السياسية، وعدم فعالية الوسائط وهمزات الوصل، وفهم هذا الوضع يتطلب إعادة موضعة هذه اللحظة النوليبرالية ، وهي ليبرالية ضعيفة كثيرا، سياسيا، في المدة الزمنية الطويلة للدولة المغربية..
إن المخيال وحده هو الذي يتيح أن يصبح هذا التجميع لحالات المنطق العديدة والسلوكات والفهم المتعدد، الناجمين عن لحظات زمنية متنوعة كما هي متباعدة وبعيدة.. وعليه، فإنه بالأخذ بالاعتبار مخيال الدولة، يمكننا أن نفهم أن إصلاح أعوان السلطة ، كما فكر فيه أحد خريجي «مدرسة القناطر» على الطريقة الفرنسية قد «نسي» إدماج الشيوخ والمقدمين، وأن يطلب المهندسون المتخرجون من كبريات المدارس العالمية تمتيعهم بلقب «خديم» ، أو أن نجد مدير الخطوط الملكية المغربية «لارام» ، والذي يطبق باقتناع قواعد التدبير الأكثر جدية لإصلاح الشركة الوطنية، يعتبر عاديا أن يرافق هو نفسه طائرات حركها الملك ، وأن يعتبر نفسه، ولو من باب المزاح « قايد الحرس» كما وصفه ابن زيدان ( عن طريق حوار أجري في البيضاء عام 2001).