تتحلق النسوة حول يزة، وقد تركن حبوب القمح لأشعة الشمس الساطعة على حصائر مفروشة بعدما رشت بماء الساقية. بحذاقة قامت رقية بتوضيب صينية الشاي مع خمائر فوارة ، فطور صباحي دسم بحضور يزة قابلة الدوار ومفسرة الأحلام ، والخطابة التي تتوسط في تزويج العذارى، الفتيات يستبشرن بوجودها ويستعدن بكل حيوية لإعداد لوازم الحناء، فالزائرة نقاشة محبوبة وماهرة في تحنية الأيدي والأرجل، بمنمنمات عجيبة تخلب بسحرها النظر.
خيوط شمس الضحى سبائك ذهبية تغمر المكان، تتسلل من سقيفة خوص، صينية الشاي ، النساء يجلسن ضاحكات لنكات وتعليقات الضيفة المرحة .
تمعن رقية في رفع براد الشاي والسائل الذهبي ينسكب في الكؤوس، تتقبب رغوة المشروب بحبيبات سرعان ما تتلاشى فقاعات متناهية الصغر، مسكت كأسا، وقدمته للضيفة بعناية خاصة، المائدة تضج بالفطائر المدهونة وزبد يتقطر على الحواشي.
كانت عائشة لهبيلة في المراح، ترخي السمع تارة وتدق دقات بقوة على المهراس تارة أخرى لتزيد الحنة رقة وشفافية .
انبرت إليها رقية صارخة : – اذهبي بعيدا للحوش ودعينا ننصت لعظامنا !
قبل أن تغادر المكان قبلت عائشة لهبيلة رأس يزة طالبة برجاء :
زوجيني فالوحدة قتلتني يا خالتي! –
تضاحكت النسوة بجذل، وطردتها رقية وهي ترشقها بفردة حذاء صادفته بجانبها:
– سيري الله يمسخك !
القاسمية خرجت من صمتها الثقيل، موجهة كلامها ليزة متنهدة :
قبل الفجر بقليل، أرى خيرا وسلاما نفس الحلم يتكرر «جلول « بطوله وعرضه وفلجة أسنانه، يلبس الأبيض في الأبيض « علام « سربة التبوردة يقترب مني ويكسو ظهري بسلهام أخضر بتواشي براقة، ويضع في يدي بيضة ودراهم ملمومة في منديل مزوق، ينضم لفرقته مطرطقا البارود في السماء منسجما مع باقي البنادق، فيصفق الجمهور والخيول تعود بخيلاء إلى نقطة الانطلاق، فلا أسمع إلا الحمحمات لا يقطعها إلا صوت أذان الفجر .
ران صمت يكبس الأنفاس، والنساء صامتات يحتسين الشاي بسكينة مطلقة، وبعد برهة فاهت يزة :
– السلهام الأخضر في الحلم خير، اللون الأبيض سعادة تصيبك في الدنيا والآخرة، بشائر آتية، ستربحين الدعوى والمحكمة ستنصفك أنت وباقي أخواتك من تسلط أخيكم الأكبر الذي يريد أن يحتكر الإرث لوحده ، البيض الصائن فأل حسن، وكسب لذهب أو فضة، وربما يكرمك الله بعمرة أو حجة، والدراهم فرج بعد شدة وإطلاق البارود في السماء، معناه هناك من يكيد لك ويحسدك سينجيك الله من حاسد إذا حسد .
استبشرت القاسمية، شخصت بعينيها إلى السماء لاهجة بالدعاء، أخرجت ورقة نقدية من فتحة صدرها وقذفتها في حجر يزة والفرح يرقص قلبها طربا .
يامنة البوشتية المفجوعة في ولدها الذي غافلها ذات ليلة ، وتسلل إلى الزريبة وساق البقرات الأربع عند نجمة الصباح إلى سوق الأربعاء ومن ثمة اختفى، سمعت في ما بعد بأنه هاجر سرا خارج البلد وقطع البحر، وتسقطت أخباره بعدما وصل إلى الضفة الأخرى .
بحرقة واصلت : – تواعدت سابقا مع أختي الياقوت بأن تكون زهرة زوجة لولدي التامي، لكن بعد طول غياب بقيت البنت معلقة وفي كل مرة تلح أختي وقد ترادف الخطاب على دق الباب ، البنت بارت وقريناتها تزوجن وأنجبن ، كبدي يحترق على ولدي ، يحضر في منامي خيرا وسلاما، وقد تزوج نصرانية وأطفلت له ولدا أشقر يشبه أمه ، ولما أقترب من حفيدي لأضمه لصدري وأبوسه ، تنهرني وتخطفه من بين يدي، تفقسني النصرانية فأستيقظ شاهقة باكية .
الولد في الحلم ورطة أم مشكلة ولدك يعيش محنة، أكثري من الدعاء وزيارة الأولياء، أما النصرانية القاسية القلب، كناية عن ظروفه الصعبة هناك في أرض الغربة، بلا أوراق ثبوتية ولا إقامة ولا عمل ،الله يفرجها عليه، تقبل يدها مؤمنة : – آمين .
عرت الضاوية رأسها الذي لم يستر طلاء الحناء الواضح شيبه الزاحف :
– اسمحن لي ، قلبي فاض .
التفتت إلى يزة بلهجة شاكية « العربي « راجلي ، منذ سقط في ساحة التبوريدة ، ماتت حيتانه ، لم أعد أسمع لخيله صهيلا ، لم يعد قادرا على ذلك الشيء ، ويتكرر عندي الحلم، حمار العطار يأتيني إتيان أتانه وأنا أتأوه!
عصفت كركرات النساء ، وهن يسترن وجوههن بأطراف ثيابهن خجلا .
تبرمت يزة متعففة :
– اغربي عن وجهي يا المفضوحة، حلمك يفسر نفسه بنفسه ، جعت يالحلوفة!
على استحياء تقدمت ميلودة إلى يزة متحركة بصعوبة ببطنها البارز التكوير .
بادرت أمها الكاملة إلى القول : – لم أكن أنوي أن ترافقني مخافة أن تلد لي في الطريق ، ولكن أصرت على مصاحبتي راغبة في رؤيتك ومجالستك .
قالت ميلودة :
– حلمت بأني ولدت ضفدعة تقفز من بطني وتشق طريقها للواد ثم أردفت متسائلة هل عندي ولد أم بنت ؟
تحسست يزة بطن ميلودة بدربة :
– هل الرفسة في جانبك قوية أم خفيفة ؟
-فركلة الرفسة قوية جدا كأن المولود يستعجل الخروج
ردت يزة بيقين :- تلك بنت ، الله يكمل بخير .
قاطعتها أمها الكاملة متوترة:
– العروسة عندنا لا نحب أن تبكر ببنت
أجابت يزة : – الأمر لله .
تداركت ميلودة : – والضفدعة!
قالت يزة : – ضيف قادم بالبشائر .
بلهفة أقبلت فاطنة مستعجلة لاهثة وجسمها البدين لا يطاوع خفة حركاتها ، قبلت يد ورأس يزة وغمغمت بانفعال :
– الحمد لله على أني وجدتك ، سمعت بأنك هنا ، فالتحفت إزاري وأتيتك جريا ، لتفسري حلمي الغريب .
صمتت النسوة مترقبات وهن يتتبعن فاطنة بتركي ، تكلمت بحماسة :
– خيرا وسلاما ، رأيت نفسي أسير على شاطىء بحر وإذا بصياد لا هو بالصغير ولا و بالكبير يعطيني سلة ممتلئة سمكا، ينغل ويتلألأ مع ضوء الشمس ، ومضيت بالسلة إلى البيت، وحين وصلت لم تبق إلا سمكة واحدة وهي تتخبط داخل السلة طول الطريق .
تبسمت يزة قبل أن تجيب ورقية تجدد صب الشاي في الكؤوس ، مصرة بأن يكون برزة وكشكوشة .
أنت أرملة وجميع الرجال يطمعون فيك وعينك خضرة يالعفريتة!
السمك فأل حسن، ولكن يدك مثقوبة، ولاتبقين لدوائر الزمن شيئا ، ولا تظفرين
إلا بماكتبه الله لك من رزق ، وهناك رجل يترصدك، أنت راغبة فيه ، والحياء يدعوك لحفظ السر ولمه في صدرك ، ستتزوجينه قريبا إن شاء الله .
فكت صرة نقود ، ونفحت يزة بسخاء .
تنحت النساء ليتركن المجال للصغيرة صفية، وقد جهزت لوازم الحناء ومدت يدها ليزة .
النساء يشربن الشاي ويلتهمن الفطائر ويغرقن في أحاديث جانبية .
على حين غرة ، ندت عن ميلودة صيحة مدوية .
استشعرت النسوة جميعن بلحظة الطلق، الأم مفزوعة تكفكف الدمع والعرق المتصبب على جبين ابنتها بفوطة .
النساء يحضرن الماء الساخن ومطرحا للنفساء التي فاجأها المخاض ، ويسندن يزة حتى تقوم بمهمتها .
ميلودة تعض وتمضغ منديلا وضعته في فمها حتى تحد من صراخها الحاد وآلامها المبرحة ، يزة تدخل أصابعها الخبيرة في بطن ميلودة وتدعوها بأن تكون قوية وتصبر ففرج الله قريب .
تصيح ميلودة : – ربي .. ربي .. ربــــــي ..
آمي .. آمي .. آمــــــي ..
بلهجة تهديد تتوعد : – والله ما نخلي الرجل يقرب مني!
تتبادل الحاضرات نظرات متخابثة وهن يكتمن ضحكا يتمرجل في صدورهن .
يزة تعلق ساخرة : – كلنا نقول ذاك الكلام في البداية ونهز الرجل في النهاية ، ونعاود الكرة ، أين كنت لما تتلذذين وتتذوقين شهد العسل ، فوراء كل لذة ألما، والدخول لايشبه الخروج .
– آمي .. آمي .. آ مــــــي ..
– ربي .. ربي.. ربــــــي ..
– الوقت يمر ثقيلا ولحظة الترقب تتمطط ، النساء احتواهن صمت مريب .
– ميلودة أمست ورقة مدعوكة وقد اعتصر دم وجهها
– صرخة ووعوعة أشعلت البهجة في النفوس وفي المكان ، زغاريد تصدح وتتعالى :
– آخيرا ضفدعتنا تظهر
مبروك جاءك ولد!