تكاليف الغذاء تهدد القوت اليومي للمغاربة والقدرة الشرائية عاجزة عن مجاراة جنون الأسعار

احتقان واستنفار..

وصلت درجة الاحتقان في الشارع المغربي إلى مستويات قصوى، بسبب فورة أسعار جامحة ألهبت جيوب المواطنين هذه الأيام، حيث لم يعد بمقدور الغالبية العظمى من الأسر المغربية، مجاراة الوتيرة المجنونة لارتفاع الأسعار، التي لم تسلم منها حتى أساسيات القوت اليومي للمواطنين.
ودرءا لعواقب الغضب المستعر في صفوف المواطنين، استنفرت وزارة الداخلية منذ بداية الأسبوع الجاري، جميع ولاتها وعمالها ومصالحها الاقتصادية والاجتماعية، من أجل اتخاذ إجراءات استعجالية للحد من ارتفاع أسعار في المواد الغذائية التي تشهدها جميع جهات المملكة.
ودعا جميع الولاة والعمال، مختلف المناطق الترابية للمملكة، بشكل طارئ إلى اجتماعات ماراطونية لتدارس الوضعية الراهنة المتعلقة بتموين الأسواق بالمواد الغذائية الأساسية وللوقوف على الأسباب والعوامل التي تؤثر على استقرار أسعارها، والإجراءات الاستعجالية للحد من كل أشكال المضاربات في الأسعار.
وخلال هذه الاجتماعات التي مازال بعضها متواصلا إلى حدود اليوم، أمرت وزارة الداخلية بتكثيف المراقبة اليومية من طرف اللجن الوطنية والجهوية و المحلية لتتبع وضعية الأسواق في مختلف نقط البيع والتوزيع بأقاليم المملكة من أجل رصد كل أشكال المضاربات في الأسعار وتحرير محاضر في حق المخالفين وإحالتهم على النيابة العامة المختصة.
كما تقرر إحداث لجن لليقظة برئاسة ولاة الجهات، تتكون من المصالح الأمنية والسلطات المحلية والمصالح اللاممركزة المعنية، يعهد إليها التتبع اليومي لتموين الأسواق وتطور أسعار المواد الغذائية، واتخاذ الإجراءات الفورية لمواجهة جميع أشكال الاحتكار والمضاربة، وذلك بهدف ضمان استقرار الأسعار وتموين الأسواق بشكل عادي.

قفة المواطن البسيط في خطر

وأجهز الغلاء الفاحش الذي مازال متواصلا منذ أواسط العام الماضي، على القدرة الشرائية للمواطنين، ورمى بعشرات الآلاف منهم في براثن الفقر، وتسبب في تدهور المستوى المعيشي ل 83 في المائة من الأسر، بعدما أنهكت جيوبهم الزيادات غير المسبوقة في أسعار المواد الأساسية ، وهو ما أكدته بيانات رسمية صدرت مؤخرا، عن المندوبية السامية للتخطيط، التي قالت إن تكاليف المعيشة عرفت ارتفاعا صارخا حيث سجل معدل التضخم زيادة ب 6.6 في المائة بالمقارنة مع شهر دجنبر 2021 كما ارتفع مؤشر التضخم الأساسي، الذي يستثني المواد ذات الأثمان المحددة والمواد ذات التقلبات العالية، ب 5.8 في المائة بالمقارنة مع 2021.
وسجل المؤشر الرئيسي للأسعار عند الاستهلاك خلال عام 2022 ارتفاعا ملحوظا، بلغ 6.6 في المائة بالمقارنة مع العام السابق، وذلك بسبب الزيادة في أثمان المواد الغذائية ب 11 في المائة وأثمان المواد غير الغذائية ب 3.9 في المائة.
ولم تسلم جميع تكاليف المعيشة الرئيسية من موجة الزيادات المتفاوتة التي ضربت القفة اليومية للمواطنين انطلاقا من أسعار الخضر والفواكه ومرورا بأسعار اللحوم الحمراء والدواجن وانتهاء بأسعار القطاني..
وتراوح ثمن صندوق الطماطم في أسواق الجملة المغربية أمس الأربعاء بين 230 250 درهما، ليرتفع بذلك سعر هذا المنتوج الوطني إلى مستوى غير معهود في هذا الوقت من العام. ( 15 درهما للكيلوغرام الواحد) خصوصا ونحن على بعد أسابيع قليلة من شهر رمضان الذي يعرف ذروة الاستهلاك، وهو ما جعل العديد من المهنيين يحذرون من فورة أسعار الطماطم خلال الأيام المقبلة.
أما أسعار البصل فقد حطمت أرقاما قياسية بسبب الارتفاع المهول في أسعار المدخلات الفلاحية لهذه الزراعة، خاصة المواد الكيماوية والأسمدة، كمادة «الأزوت» التي كانت تباع في الموسم الفلاحي الفارط بثمن 300 و350 درهم للقنطار، بينما ارتفع ثمنها في الموسم الحالي إلى 600 درهم، وهو ما جعل سعل البصل عند البيع النهائي يبلغ حدود 12 درهما للكيلوغرام.

اللحم ممنوع عن موائد الفقراء!؟

ولم ينفع الحكومة بإلغاء شرط الوزن في استيراد العجول الموجه للذبح، في كبح جماح أسعار اللحوم الحمراء ، حيث اعتبر تجار ومهنيو القطاع أن هذا القرار الحكومي المعزول لن يكون له أي تأثير إيجابي على أسعار الاستهلاك النهائي في السوق الوطني، ولن يوقف مسلسل الزيادات الصاروخية التي تشهدها أثمان اللحوم الحمراء منذ عدة أسابيع، والتي تجاوزت 100 درهم بمعظم نقط البيع.
وأكد هشام الجوابري، الكاتب الجهوي لتجار اللحوم الحمراء بالجملة في الدارالبيضاء، أمس في تصريح لصحيفة «الاتحاد الاشتراكي» أن المشكل الحقيقي لارتفاع أسعار اللحوم في السوق المحلي ليس هو الوزن المفروض على المستوردين، والمحدد في 550 كلغ للعجول، بل هو مرتبط أساسا بالكلفة الباهظة للاستيراد وبالشروط الصارمة التي تفرضها الدولة على موردي اللحوم من الخارج.
وأوضح الجوابري أن قرار الحكومة بإلغاء شرط الوزن عند الاستيراد لن يغير في الأمر شيئا، ولن يكون له أي تأثير حاسم في تخفيض ثمن البيع النهائي للعموم، تماما مثلما لم يكن لقرار وقف استيفاء الرسوم الجمركية عند استيراد العجول أي انعكاس إيجابي على أسعار المستهلك.
واعتبر المسؤول النقابي أن الحكومة بهذه القرارات والتدابير المرتجلة والمتفرقة لا تعالج صلب المشكل وإنما تذهب لأمور هامشية لا تمس بشكل مباشر بنية الأسعار. وأوضح الجوابري أن إعفاء المستورد من 2 في المائة المفروضة على الاستيراد لا يمثل في النهاية سوى 300 أو 400 درهم عن كل بهيمة، وهو مبلغ زهيد مقارنة مع التكاليف الباهظة للاستيراد.
ويعتبر المهنيون والمستوردون أن الحكومة ستظل بهذه القرارات الخجولة تتخبط في معالجة هذا الملف الذي أصبح شائكا، بعدما تسبب في حرمان ملايين الأسر الفقيرة والمحدودة الدخل من حقها في الوصول الى اللحوم الحمراء التي قد تصبح منتوجا نخبويا، خصوصا ونحن على مشارف شهر رمضان، الذي يعرف ذروة الطلب على اللحوم.
وقال الجوابري إن الحل الآني والمستعجل لخفض الأسعار يكمن في وقف استيفاء الضريبة على القيمة المضافة، ولو بشكل مؤقت ريثما نجتاز ذروة الاستهلاك الرمضاني، موضحا أن 20 في المائة التي تشكلها الضريبة على القيمة المضافة تمثل ملا يقل عن 3000 إلى 4000 درهم من ثمن العجل، ولا شك أن إجراء من هذا القبيل من شأنه أن يعود بالأسعار إلى وضعيتها ما قبل التضخم، أي في حدود 70 و75 درهما للكيلوغرام الواحد.
إلى ذلك، يطالب المستوردون بضرورة مراجعة شروط الدفتر الصحي للحيوانات المستوردة، والتي يعتبرونها شروطا مبالغة في الصرامة، حيث تستنزف الاختبارات الصحية والتحاليل المخبرية المطلوبة، الكثير من التكاليف والوقت، وهو ما يجعل عملية استيراد الأبقار والعجول إلى المغرب تأخذ أسابيع طويلة مقارنة بما هو معمول به في دول ليبيا ومصر والأردن .. والتي تعتمد دفاتر تحملات وشروطا صحية أكثر مرونة، ما يسهل عملية الاستيراد في آجال معقولة لا تتجاوز بضعة أيام.

أسعار القطاني تخرجها من لائحة «المأكولات الشعبية»

وحتى القطاني والبقوليات التي كانت دوما الملجأ الأخير للطبقات الهشة والمحدودة الدخل ، لم تعد هي الأخرى في متناول القدرة الشرائية للبسطاء، حيث شهدت في الأيام الأخيرة زيادة كبيرة فرضها الجفاف، وكذا الأضرار الجانبية للأزمة في أوكرانيا، بتعطل سلاسل التوريد والإمدادات على نطاق عالمي. ويستمر سعر البقوليات والقطاني التي يستهلكها المغاربة في الارتفاع، وخصوصا الفاصوليا والفول والحمص والعدس التي اشتعلت أسعارها سواء المستوردة أو المنتجة محلًيا ، إذ قفز سعر كيلوغرام الفول حاليا من 12 إلى 25 درهما، أي 13 درهما أكثر من سعره المعتاد، ويرجع سبب هذه الزيادة إلى حظر دخول كمية كبيرة من الفول إلى الموانئ، وكذلك فرض ضريبة جمركية جديدة على الواردات، فيما تراوح سعر الكيلوغرام من العدس ما بين 22 و 30 درهمًا للعدس المستورد، و 28 درهمًا للمنتج المحلي سعر الجملة(. في حين عرف ثمن الحمص ارتفاعا صاروخيا متجاوزا عتبة 30 درهما للكيلوغرام، أما الذرة المحلية فغير متوفرة بالكميات المعهودة بسبب الجفاف؛ ويتراوح ثمنها بين 8 دراهم و 15 درهما حسب النوع. فيما قفز سعر الفاصوليا إلى 25 درهما للكيلوغرام ..

الغلاء يضرب جيوب
الطبقات الفقيرة والمتوسطة على حد سواء

غلاء اكتوى الجميع بنيرانه، سواء تعلق الأمر بالطبقات الفقيرة الهشة أو حتى المتوسطة، التي لم تعد تحمل إلا الاسم، والتي تم تذويبها بحسب تصريحات العديد من المواطنين التي استقتها «الاتحاد الاشتراكي» من مجموعة من الأسواق اليومية بتراب العاصمة الاقتصادية، وهو ما يؤكده سعر المحروقات، وارتفاع أسعار اللحوم الحمراء إلى مستويات قياسية، والتي التحقت بها الدواجن والأسماك بما في ذلك سمك السردين، فضلا عن الخضراوات وعلى رأسها الطماطم والبصل والبطاطس إلى جانب باقي مكونات «الطنجرة». ووقفت ذات التصريحات عند اختلالات تطرح أكثر من علامة استفهام في الشق المرتبط بالغلاء، كما هو الحال بالنسبة لوزن قنينات غاز البوتان الذي لم يعد هو نفسه، مشددة على أنها أضحت تستنفد محتواها من الغاز في ظرف زمني وجيز بشكل يبعث على الحيرة.
ارتفاع في الأسعار طال كل المواد الغذائية، بما فيها تلك التي كانت إلى زمن قريب تعتبر وجبات أساسية للطبقات المسحوقة، كما هو الشأن بالنسبة للعدس والفاصولياء والمعجّنات، دون الحديث عن الحليب ومشتقاته والزيوت وغيرها من المواد التي بلغت أسعارها مستويات قياسية. وأكد عدد من أصحاب البقالة في تصريحات لـ «الاتحاد الاشتراكي» أن الوضعية المادية لفئات عريضة من المواطنين باتت جد مؤلمة، بسبب الصعوبات المتعددة، التي جعلت الكثيرين يحجمون عن اقتناء منتجات ومواد بنفس الشكل كما كانوا عليه في السابق، مشددين على أن التقشف يأتي على حساب البطن بعدما اكتوى الجيب بلهيب الأسعار، مستدلين على ذلك بأمثلة بسيطة كما هو الحال بالنسبة للبيض، وهو ما يؤشر على أزمة اجتماعية جد معقدة يتعين على الحكومة بمختلف مكوناتها التعامل معها بكل جدية ومسؤولية وبمنتهى الوطنية، حتى لا يكون شهر رمضان الأبرك شهرا لمزيد من تعميق الجراح والأعطاب الاجتماعية.

وزير الفلاحة : وزارتي غير مسؤولة عن ارتفاع الأسعار !!

وعلى الرغم من جميع الدلائل التي تؤكد تورط السياسات الحكومية المقصودة في إعطاء الأولوية للتصدير وللمصدرين على حساب الاستهلاك الداخلي وعلى حساب الأمن الغذائي الوطني، فإن الوزير الوصي على القطاع، محمد صديقي، لم يتردد في التنصل من مسؤولية الحكومة عن الغلاء الفاحش المستشري حاليا في جميع المنتوجات الفلاحية والسمكية، وفضل أن يبرئ وزارته من أي مسؤولية عن الغلاء ما دامت غير مسؤولة عن تنظيم الأسواق الداخلية، وهو بذلك يرمي ضمنيا الكرة في ملعب وزارة الداخلية . بل إن الوزير قال في لقاء مع الصحافيين على هامش معرض “آليوتيس” للصيد البحري بأكادير، يوم الجمعة الماضي، إن وزارته ليست «مسؤولة عن غلاء أسعار المنتجات البحرية أو الفلاحية» ووعد المسؤول الحكومي ذاته بأن من بين الحلول التي تشتغل عليها الحكومة لمعالجة مشكل ارتفاع أسعار المواد الغذائية، «إعادة تنظيم قناة التوزيع بشكل شامل، والحد من تحكم الوسطاء في السوق، وتدبير الأسواق بشراكة مع الفاعلين المهنيين» مع العلم بأن هذا الوعد كان وزير الفلاحة السابق (رئيس الحكومة الحالي) قد قطع على نفسه أمام جلالة الملك، عند تقديمه لمخطط المغرب الأخضر بمكناس سنة 2008، ورغم مرور هذه السنوات الطوال، ما زال الصديقي، (الذي أشرف شخصيا من موقعه السابق ككاتب عام على تنزيل مخطط المغرب الأخضر) يردد نفس الوعد دون أن يرف له جفن.
واليوم وبعد مرور حوالي 15 عاما على إطلاق مخطط المغرب الأخضر، تبين أن بلادنا وان كانت قد نجحت في الرفع من بعض المنتجات الفلاحية، وهو نجاح استفاد منه المزارعون الكبار الذين انتعشت حساباتهم بفضل مساعدات الدولة، فإنها فشلت في رهان تأمين السيادة الغذائية التي وعد بها واضعو هذا المخطط، ولا أدل على ذلك من كون واردات المغرب من الغذاء هذا العام كلفت ما لا يقل عن 87 مليار درهم بينما لم تتعد قيمة الصادرات الغذائية 81 مليار درهم.

مجلس المنافسة: غلاء الأسعار شأن لا يهمني!!

أما رئيس مجلس المنافسة، أحمد رحو، فقد أكد أن مجلسه لن يتخذ أي مواقف بشأن ارتفاع الأسعار أو انخفاضها، وأنه لن يتدخل إلا «في حالة استغلال تعسفي لوضع مهيمن أو اتفاق».
وأكد رحو، في معرض جوابه على تفاعلات الصحفيين خلال لقاء نظمه مجلس المنافسة مع وسائل الإعلام، أن «دور المجلس، بصفته حكما رهن إشارة من يحترم القانون وضد الممارسات المنافية للمنافسة، لا يسمح له بالتدخل في حالة ارتفاع الأسعار أو انخفاضها ما لم يكن هذا التطور في الأسعار ناتجا عن استغلال تعسفي لوضع مهيمن أو اتفاق».
وذكر، في هذا الصدد، بأن القانون، في المغرب، ينص على أن أسعار المنتجات والسلع والخدمات (باستثناء قائمة أسعار المنتجات التي يحددها القانون، مثل الأدوية التي يتم تدبيرها) لا يمكن أن تخضع للتعديل إلا من خلال عملية العرض والطلب، وهو ما يعني، بشكل ملموس، أن «الأمر متروك للبائع أو الموزع للمنتج لإقرار الزيادة أو التخفيض في الأسعار».
وفي هذا السياق، أشار رحو إلى حظر اتفاقات حول الأسعار، مسجلا أنه «عندما يجتمع اثنان أو أكثر من الفاعلين يحظر عليهم الحديث عن الأسعار، وتحديدها بشكل مشترك ومناقشة العناصر التي يمكن أن تؤثر عليها»، ولا سيما أسعار الشراء، ومستويات المخزون والتخزين المشترك، وذلك بهدف «حماية المستهلك والفاعلين أنفسهم».
من جهة أخرى، سلط رئيس مجلس المنافسة الضوء على دور قانون حماية المستهلك، وقانون حرية الأسعار، وقانون المنافسة، التي يتمثل هدفها الأساسي في «التعددية وعدم الاتفاق»، لتلافي النقص الذي غالبا ما يكون مصدر زيادة غير ملائمة وغير مبررة في الأسعار.


الكاتب : عماد عادل

  

بتاريخ : 09/02/2023