من اللافت للانتباه حضور تيمة موت/ قتل الأب في العديد من الأعمال السينمائية المغربية. نركز هنا على الأشرطة الروائية الطويلة. تكتسي هذه التيمة مظاهر و تجليات مختلفة، مما يدفع الباحث إلى طرح السؤال بحدة عن أسباب هذا الحضور القوي لهذه التيمة، و عن الخلفيات الواعية و اللاواعية لهذا الحضور. كما عن تمظهرات هذه الظاهرة في سينمانا الوطنية، و أساسا عن القيمة الإبداعية و الجمالية لهذه الظاهرة.
قبل أن نحاول تقديم إجابات أولية عن هذا الأسئلة من خلال مقاربة نماذج من السينما المغربية في علاقتها بهذه التيمة تحديدا، أقترح بداية تصنيفا أوليا لأشرطة سينمائية مغربية تبعا لنوعية تعاملها أو تناولها لهذه التيمة:
موت الأب قبل زمن المحكي الفيلمي: كما في أفلام «شمس الربيع» (1969) للطيف لحلو، «عرائس من قصب» (1981) و «ذاكرة معتقلة» (2004) للجيلالي فرحاتي، «منى صابر» (2001) لعبد الحي العراقي، «علي زاوا» (1999) لنبيل عيوش، و «ماجد» ( 2011) لنسيم عباسي… في هذه الأفلام يحضر الأب، و موت الأب إما على لسان الشخصيات من خلال الحوارات بينها أو من خلال مونولوغاتها (المستوى اللفظي verbal) محيلة إلى زمن ولى من أزمنة الحكاية…
إظهار الأب على قيد الحياة خلال زمن المحكي الفيلمي ثم موته: كما في أفلام «وشمة» (1970) لحميد بناني، «باب السماء مفتوح» (1987) لفريدة بليزيد، «الرحلة الكبرى» (2004) لاسماعيل فروخي، «جوق العميين» (2015) لمحمد مفتكر. (مستوى الإظهار monstration)..
حضور الأب جسدا و روحا طيلة المحكي الفيلمي رغم موته: كما في فيلم «روك القصبة» (2013) لليلى المراكشي، حيث يظل الأب الميت/الحي هو الممسك و الموجه لأحداث الشريط، أو كما في فيلم «هم الكلاب» (2013) لهشام العسري حيث يتم «قتل» الأب و «دفنه» رغم أنه ما يزال على قيد الحياة. (مستوى الخطاب discours ) (1)
إظهار الأب خلال زمن المحكي الفيلمي لكن بشكل معاق: و هذه الإعاقة تشكل بدورها تمظهرا آخر من تمظهرات موت/ قتل الأب كما في فيلمي «سميرة في الضيعة» (2007) للطيف لحلو، و «كازانيغرا» (2008) لنورالدين لخماري، أو إظهاره على هامش المجتمع بعد فترة اعتقال طويلة كما في فيلم «علي ربيعة و الآخرون» (2000) لأحمد بولان، علما أن الأب في هذا الفيلم الأخير يحضر بكيفية ملتبسة تطرح إشكال شرعية الأب أو مصداقيته ضمن سياق سوسيو – ثقافي محدد.
المواجهة القاسية مع الأب (زوج الأم) كما في شريطي موت للبيع (2011) لفوزي بنسعيدي، و «كازانيغرا» لنورالدين لخماري..
***
من المعلوم أن السينما المغربية تناولت عبر تاريخها مجموعة من التيمات الثابتة أو المرتبطة بظروف و مناسبات خاصة، مثل ظاهرة الطفولة المشردة أو المغتصبة، أو ظاهرة العنف ضد المرأة، أو ظاهرة الاعتقال و التعذيب، لكننا لن نجازف إذا قلنا إن الخلفية التي تتبلور فوقها كل تلك التيمات «الظرفية» تظل في العمق هي تيمة موت / قتل الأب.. فكما لو أن التيمات «الظرفية» ليست سوى تعلة لتناول، إما عبر الإظهار أو الإخفاء، ظاهرة موت/ قتل الأب بأشكال و تلوينات مختلفة.
و قبل الوقوف عند بعض النماذج نسوق تعليقا أوليا بخصوص هذه الظاهرة.. السينما فن حداثي كما يعلم الجميع..في الترسبات اللاواعية ترتبط بالمحرم بشكل أو بآخر.. لذلك فإن النزوع السينمائي يتضمن في العمق مساءلة، إن لم نقل مسعى لخلخلة و لتقويض هذه البنية الرمزية.. و إذا كان الأب هو الممثل الأساسي لهذه البنية، فإن المواجهة معه تكون، بوعي أو بغير وعي، من أولى الأولويات التي تشكل هاجس السينمائي المغربي..
لكن لا ينبغي أن نغفل مسألتين لهما أهميتهما بهذا الصدد:
أولاهما أن ظاهرة موت الأب تتحدد أحيانا بالبعد السيرذاتي autobiographique لدى السينمائي المغربي بشكل معلن، كما في تجربة «روك القصبة» و «جوق العميين» حيث يصرح المخرجان أنه كان لتجربة موت الأب تأثير قوي في مسارهما الحياتي و الإبداعي، مما استلزم نقلها إلى الشاشة السينمائية، أو تحيل إلى مرجع واقعي محدد كما في فيلم «دموع الندم» لحسن المفتي، حيث يكون موت الأب هو الخسارة الضرورية من أجل تحقيق تألق المبدع في المستوى الموسيقي من خلال تجربة الفنان محمد الحياني.
المسألة الثانية هي أنه فيما تعاملت مجموعة من الأشرطة مع هذه التيمة بشكل ميكانيكي يعيد إنتاج ظاهرة حياتية معيشة، فإن أفلاما أخرى مضت تفكك الظاهرة بحس سينمائي إبداعي عميق، انطلاقا من خلفية فكرية تستحضر و تستفيد من آخر المستجدات في المجالين الإبداعي و الفكري.
أضف إلى ذلك أن كل صنف من الأصناف المذكورة أعلاه يحمل دلالات خاصة، يمكن أن يقوم التحليل بالكشف عنها بما يليق من دقة لازمة. لكننا اخترنا الوقوف هنا عند ثلاثة نماذج فقط هي «وشمة» لحميد بناني، و «باب السماء مفتوح» لفريدة بليزيد، و «عش في القيظ» لحكيم بلعباس، بانتظار تعميق البحث و القراءة مع أشرطة أخرى لاحقا…
«وشمة» لحميد بناني.. أو القتل المزدوج:
في شريط «وشمة» لحميد بناني يتكفل رجل اسمه «المكي» بتبني طفل يتيم يحمل اسم «مسعود». هكذا يحسم بناني الأمر منذ البداية في هذا الشريط الذي يكاد يجمع كل المهتمين بأنه الشريط المؤسس لسينما حقيقية ببلادنا..الفتى اليتيم، تماما على غرار السينما اليتيمة، التي تبدو بدون أصل حقيقي في تراثنا العربي القديم، يتبناه أب رمزي، يعطيه رمزية ضرورية له، قبل أن يسلم الروح لخالقه بدوره (الموت الثانية للأب)، ليبقى الابن (مسعود) تائها داخل متاهة غامضة تنتهي بمصرعه بعد اقترافه جريمة قتل بأداة يحتفظ بها من أبيه الرمزي.
إننا لا نهتم كثيرا في الفيلم بموت الأب الفعلي، لأن الأب الرمزي هو الذي يحتضن الطفل، و هو الذي يعطيه وجودا و معنى..فكيف يتعين هذا الأب الرمزي في الفيلم؟ إنه يتعين بالأساس من خلال الاسم. يوحي اسم الطفل «مسعود» برمزية ثقافية تقليدية شفوية تقوم على تبعية الإنسان لقدر غيبي يتجاوزه، أما اسم الأب «المكي» فواضح أنه يحيل إلى مدينة مكة بما تحمله من دلالات مقدسة يعرفها الجميع، مثلما يحيل إلى رمزية الأب في ثقافتنا الشعبية التقليدية.
و يتقوم اسم الأب في الشريط انطلاقا من عناصر تؤثث الفضاء الفيلمي في ارتباط بهذه الرمزية التقليدية المشار إليها. عناصر من قبيل المصحف، و البندقية، و الحذاء، و الكسكس… لكن الطفل الذي يتم احتضانه داخل هذا الفضاء الرمزي يظل متشبثا بشيئين يلازمانه كظله: صمته و نظراته، معبرا من خلال ذلك عن اغترابه داخل مكان ليس له. غير أن الرمز هو الذي ينتصر في نهاية المطاف. الرمز قاتل. عندما يقتل «مسعود» (محمد الكغاط) ذلك الشخص الكسيح بمسدس الأب الرمزي الميت، فهو يوقع بذلك على موته الشخصي..
لم يستطع السينمائي المغربي عموما التخلص من رمزية الأب القاتلة.. و ما أبدعه بناني في «وشمة» هو استعارة عميقة لمسار السينما المغربية بكامله.
«باب السماء مفتوح» .. التقليد لمواجهة الحداثة:
في الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرجة فريد بليزيد «باب السماء مفتوح» (1989)، يغص الفيلم بحشد من الطقوس الرمزية ذات البعد الديني منذ الإعلان في المشاهد الأولى عن موت الأب. موت أب بطلة الشريط نادية (زكية الطاهري) القادمة من أوروبا، محملة بثقافة حديثة..لكن حدث موت الأب يجعلها تتخذ منحى آخر مغايرا لمنحى الحداثة الغربية، لتغرق بذلك في لجة طقوسية رمزية تذكي بها انفتاحا روحيا كجواب على معاناتها الخاصة.
لكن الطقوسية الرمزية في «باب السماء مفتوح» لا تنفصل سينمائيا عن إحساس خاص، قوي، بالمكان. المكان من جهة هو الوجه الآخر لموت الأب، و هو من جانب آخر بمثابة مرآة لانفتاح الروح على أبعاد أخرى.
و اللغة السينمائية هي لغة متيمة بالمكان. البيت التقليدي الشاسع. الزاوية. المسجد. المقبرة. الولي الصالح. الخلاء الشاسع.. كل ذلك من خلال لغة سينمائية بطيئة، عبر لقطات بانورامية تداعب المكان و الشخصيات، أو لقطات غاطسة تلتقط المكان التقليدي في صمته الصاخب، و في جماليته الروحية الخاصة. لكن كل تلك اللغة تستحيل في نهاية المطاف إلى لغة سطحية عاجزة عن استيعاب الآليات العميقة التي تحكم و تؤسس ثقافتنا الراهنة في ديناميتها المتوترة، بما هي لغة تمتح من ثنائيات ضيقة من قبيل ثنائية التقليد/الحداثة، الشرق/الغرب، القلب/العقل، الروح/المادة،إلخ…
عش في القيظ.. أو الحداثة بهاجس موت الأب:
من أهم التجارب السينمائية المغربية التي يحضر فيها احتفاء قوي بالطقس الرمزي في بعده الروحي تجربة السينمائي حكيم بلعباس. في بداية فيلم «عش في القيظ» (1999) تتناهى إلى سمعنا هذه العبارة التي أعتبرها بمثابة مفتاح أساسي من مفاتيح ولوج العوالم التخييلية لسينما حكيم بلعباس. يقول السارد/المؤلف عبر تقنية الصوت الخارجي Voix off: «خوف و إحساس بالذنب يثقل صدري»..الشعور بالذنب من جراء هاجس القتل الرمزي للأب هو ما يفسر الحضور الطاغي للأب من جهة، لفضاء أبي الجعد من جهة ثانية، و للطقوس الرمزية من جهة ثالثة…
يقترح علينا شريط «عش في القيظ» سلسلة من الطقوس المتتالية، تبدأ بمشهد أضرحة الأولياء على مستوى الفضاء، و على مستوى الزمان تأهب المدينة للاحتفال بموسم حصادها السنوي و حج زوار وليها الصالح. طقوس الفروسية، مرورا بزيارة القبور، و الدق على الدفوف، و الصلاة، و غيرها.. لكن حكيم بلعباس يتبنى منذ البداية سينما تتراوح بين الوثائقي و الروائي.. «الخوف و الشعور بالذنب» يجعل من هذه السينما دائما سينما مترددة..حائرة..تبحث عن ذاتها باستمرار.. هناك دائما مسعى للخلاص من هذا الشعور المحدق من خلال هاجس اختراق الأجناس الفيلمية و من خلال عدة تطويعات للغة السينمائية.
و الانشداد إلى المكان بهذه القوة هو من زاوية أخرى انشداد إلى الموت. من هنا كثرة حضور الأضرحة و القبور و طقوس الموت في أشرطة حكيم بلعباس..الرمز هو السبيل الأسمى لمواجهة الموت. ذلك ما نلمسه بوضوح في شريط آخر لنفس المخرج هو «همسات» (2001).. حكيم بلعباس مسكون بهاجس الموت. لديه إحساس باطني بأنه متورط بشكل ما في هذه الموت، كما يتجلى ذلك من خلال تبادل الأدوار داخل القبر بين الأب و الطفل. التفكير في الأب عند بلعباس لا ينفصل عن هذا الحدث المزعج و الصادم الذي هو موت الأب. لذلك لا يمكن أن تكون السينما كما يمارسها إلا احتفاء بهذا الأب، من خلال الاحتفاء بالمكان الذي ترعرع فيه الطفل، و الذي هو مكان الأب.
في نهاية «عش في القيظ» يبكي الابن كثيرا في حضن أبيه. يخشى الابن أن يموت الأب خلال غيابه الطويل. في «همسات» عندما يهرب الطفل بآنية الخزف ما يلبث أن يكسرها عندما تسقط منه خلال هروبه. سقوط الآنية و انكسارها هو استعارة قوية للشعور بالذنب الذي يمزق نفسية الطفل، من جراء الهجرة بعيدا عن الموطن الأصلي، لكن أساسا من خلال «تبني» ثقافة أخرى مغايرة لثقافة و رمزية الأب، كما من خلال «اقتراف» مهنة تنتمي في الوعي الشعبي لمجال المحرم، هي مهنة السينما. لكن عوض أن يلجأ السينمائي إلى سمل عينيه، فهو يجسر على توظيف السينما لخدمة المكان، للاحتفاء بالجوانب المنسية و المهملة لفضاء هامشي، لكن من خلال اقتحام المؤسسة السينمائية من داخلها، عبر انتهاك الروائي بالوثائقي و العكس…
***
سنعود في دراسات أخرى مقبلة لتحليل الأشرطة التالية لحكيم بلعباس في ضوء تيمة موت / قتل الأب هذه، و لتحليل أكثر عمقا لنماذج أخرى من سينمانا الوطنية، لكننا نكتفي هنا بالقول ختاما إن الحضور القوي لموت/قتل الأب في السينما المغربية هو تعبير – قد يكون لاواعيا في معظم الأحيان – عن الشعور بالعجز عن تحقيق حداثة سينمائية حقيقية حتى الآن. هذا العجز كان واضحا في فيلم «سميرة في الضيعة» من خلال استعارة العجز الجنسي كامتداد طبيعي لإعاقة الأب مما يجعل من العلاقة مع الأب علاقة تواصل مستحيل كما يتضح ذلك أيضا في شريط «الرحلة الكبرى» لإسماعيل فروخي. لنستحضر تلك الهستيريا الجماعية التي عشناها غداة تسرب مقاطع من فيلم «الزين اللي فيك» (2015) لنبيل عيوش. و لنستحضر أيضا حقيقة أن مجموعة من المشتغلين بالسينما عندنا يضطرون في كثير من الأحيان إلى الاستعانة بممثلات أجنبيات لأداء بعض الأدوار، ناهيك عن المآسي التي عاشها بعض السينمائيين ببلادنا (مأساة محمد الركاب نموذجا)، أو التهجمات الحادة على بعض الممثلين الذين أدوا أدوارا جريئة (ادريس الروخ، سعيد باي، لبنى أبيضار…) لنخلص إلى القول مؤقتا بأن تيمة موت/قتل الأب لا تنفصل عندنا عن تجربة المخاض العسير الذي تعرفه السينما المغربية في طريقها نحو حداثة حقيقية، في ارتباط بالسياق السوسيو – تقافي الشامل راهنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المقالة في الأصل مداخلة ألقيت ضمن ندوة «الأعمال الأولى في السينما المغربية» ضمن فعاليات الدورة الأخيرة لمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط.
1- يمكن العودة بهذا الصدد إلى قراءتنا لشريط «روك القصبة» تحت عنوان « الرسالة الكاشفة عن الأسرار – قراءة في فيلم روك القصبة لليلى المراكشي» نشرت بموقع «أنفاس من أجل الثقافة و الفن»..و كذلك قراءتنا لشريط «هم الكلاب» في مقالتنا بعنوان « هم الكلاب لهشام العسري..سينما ضد الصورة !؟» نشرت بالملحق السينمائي لجريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 08/04/2017