تِلكَ الجُوكَندَا.. بِلِبَاسِ نَومِها


مِنْ تَصَاريفِ أحوَالِه
أنْ ضَيَّعَ في الحُبِّ تقواه،
ومِن فرُوجِ يُمناه
تَتَسَرّبُ حَبّاتُ السّبحَةِ
بَعَدَدِ أسمائهِ كلَّ صَلاة..
في مَقاماته الطليقة،
كانت فزّاعة الحُقولِ
بِكَعبِها العالي
تشرَئِبُّ دوماً
للأطيار المُستَكِينَةِ بِيَدَيه،
أشبَهَ بطيفِ امرأةٍ مَتروكةٍ
في غَيبَتِهِ لِعُريِ الأمكنة،
أقرَبَ لِجِذع شجَرَةٍ منذورةٍ
في الخَلاءِ لِحَرَائِقِهِ السّائبة،
أكثرَ ألفةً مِن نسخةِ جُوكَندا
تَرمقه بنظرةٍ عاشِقَة
في صَالةِ الفندقٍ الباردة..

1
تِلكَ الجُوكَندا
بلِباسِ نَومِها،
تخاله حَاجِبَ الليلِ عَلى بابها
ليَحرُسَها من مَغَبّةِ وحدتها..
تُريدُهُ راعيَ الأسحار في قِلاعِها
لِيَطرُدَ سَحَرَةَ الجِنِّ عن أسوارها..
أو بُستانيّاً في حَدائِقِها المُعَلقة
مِن أجلِ وَردَةٍ في السّماء..

لَم يَحدُث في حَضرَتِه
أنْ هَمَسَت لِلرّيح بِغير مَا يَشتهي،
وهو يَخوضُ لأجلها حربَ طواحينَ
على أرضٍ مُوحِلَة..

2
لم يَحدُث في غَيبَتِه
أنْ خَرَجَت من صَحراءِ الوَقتِ
بغير الرّملِ الزاحِفِ
عَلى أهدابِها،
وهو يُرَاودُ مَراياها الطاعِنَة
في ليلِها المُسَجّى تابوتاً مُحَنّطاً
على ضَوءِ قِندِيل..
في كلِّ سَماءٍ بأجوائها،
تتنسّمُه في أدراجها غيمَةً ماطِرَة
مِنْ أفقٍ لا يُرَى..
تَتَعَشّقه بأحضانها موجَةً هادِرَةً
مِنْ مَرفَإٍ بعيد..

في كلِّ مَسَاءٍ بانتظاره،
تَحلمُ بِهِ حارسَ أحلامِها،
نَجماً سَاطِعاً من عَليائِها
لِأقصى مَجَرّة..
3

كُلَّ صَباح،
تَتَمَلاهُ بأعتابها
نرجساً كابياً
على سِيَاج حَديقَتِها،
أو وجهاً يَتَلَبَّسُ كلَّ الوُجوهِ
في ألبوم عُشاقِها..

وفي الليل،
كما من واحة حُبٍّ عزلاءَ
بخلوَةِ البوح على الأثير،
من غرفتها المُوصَدَة
تَصِله وئيدَةً حَشرجَة صوتها،
كأنها من بعيدٍ تُغافِلُ ظِلَّاً
تَصرِفُ به دَهشتَها،
ثمّ تُرخِي عَليهِ مِن قَتامَةِ الرّوح
ما يَليقُ بمِزَاج حَفار مَقبَرَة
في ساحة حربٍ مفتوحةٍ
بِلَا هَوادة..

4
لعله لم يكن عاشقاً
يَتَفَيَّأ ظلالَ الوَقتِ
كَيْ يَمنَحَها حزمَةَ شعر
من بائعةِ الكتبِ التي صَادفته
ذَاتَ مَرَّة في قَصِيدَةٍ حَالِمَة..

لَم يَكنْ بِحُزنِ البَنَفسج
كي يَدُسَّ في حَقِيبَةِ يَدِها
قَارُورَةَ عِطر مُسكِرَة،
أو يُهدِيَها على عَجَل باقة
من بائعةِ الوردِ الذابلةِ
في زحمة الرّصيف..

5
لم يَعُد يافِعاً بما يَكفِي
ولا شاعراً بالمَرّةِ
كما في صَبواته الغابرة،
كي يَأتَمِنَ على القلبِ الفَتِيِّ
سَيِّدَةً بِغنجِ طِفلَةٍ مَهوُوسَةٍ
بتكسير دُميَتِها كلَّ ليلة..
لا ولا عاشقاً مأجوراً
كي يُصَوِّبَ في غمرة الجنون
رَصاصَةً من صَميمِ القلب
لِصَدر حَبيبَته الجَميلة..

6
هَا قد صَارَ
أقلَّ حَماساً لِمُخاتَلَةِ الوقت
أو التمَشّي وَحيداً على شَط المدينة،
أقَلَّ هُدوءاً لِفتح كِتابٍ
أو الجلوسِ في الرّكن المُعتم
بمقهى الغروب لكتابة قصيدة،
أقلَّ انتشاءً بِبَالِ خاطرَةٍ سَانِحَةٍ
أو معزوفة صامتة..
أقَلَّ اكتراثاً بمُوَاءِ قِطةٍ بِبَابِ الشقة
أو رَنّةِ الهاتف بقلب الليل
لصُحبَةِ امرأةٍ عاثِرَة..

7
ها قد صارَ معها
أقلَّ صَبوة لِنَرْجِسِ يديها
أو جُفولِ ظِلها يَنسَدِلُ عَليهِ
في شوارع الليل الموحشة..
أقَلَّ شهوةً لكولونيا صَدرها
أو كأسٍ مُغرورقةٍ بِرَذَاذِ البَحر
على شرفةٍ عَالقةٍ
بخيوطِ شمسِها الآفِلَة..

مِن كلِّ ذلك
صَارَ في حَضرَتِها
أكثرَ حُزناً على حَبيبَتِهِ السّابقة،
أكثرَ تيهاً بين تفاصيلها المُغرقَة
في خلجانها الخبيئة..

8
مِن كلِّ ذلك
صَارَ أكثرَ حنيناً لِوجههِ المَعجُونِ
مِن وَحشَةِ الأرضِ
وأنواءِ الغيم السّابح
في سَمائِهِ السّابعة..
سَاهِماً في عَينَي جُوكَندا
بِلِبَاسِ نَومها
ونَظرَتِها البَاهِتة،
تَرمقه الآنَ وَحيداً
على مائدة المساء
بِصَالَةِ الفندق البَاردَة..


الكاتب : نور الدين ضِرَار

  

بتاريخ : 27/11/2020