في ذكرى رحيلها الثلاثين … 19 فبراير 1992 / 19 فبراير 2022
هنا الكثير من الأشياء الجميلة التي يمكن أن نتذكر بها الراحلة ثريا السقاط، أيقونة النساء الاتحاديات .. تجربة إنسانية فريدة في الحياة، كف حانية وقلب من فولاذ …امرأة مرت بهية في الحياة .. صامدة شامخة كنخيل البلح، كبلسم جرح كانت تداوي وجع الثكالى والمكلومين …قاومت بعناد مرحلة رهيبة وما انكسرت، سلاحها الصبر كان ..والبوح الجميل …ضمن دفتى هذا الحكي من « مناضيل وقضبان « تحكي لنا ثريا ما جرى وأياديها ممدودة للصفح من أجل وطن يستظل الجميع بظلاله الوارفة .. !!
«إن تجربتي مع السجن لا تنحصر في العشر سنوات الأخيرة، بل تبتدئ منذ سنة 1951 حيث بدأت معاناتي مع سجنين من سجون المغرب، كان السجن الأول هو سجن سلا، بينما كان السجن الثاني هو سجن الرباط، وإذا كان علينا أن نتحدث عن المعاناة فلا يجب أن نبدأها من السجن ، بل يجب أن نرجع إلى البداية، بداية لقائنا أنا وزوجي الوديع الآسفي وهو اللقاء الذي كان قاسمه المشترك معاناة الأمة… فبمجرد أن تم زواجنا، و نحن في سن مبكر، جاء قرار النفي في حق زوجي الذي أبلغ – أثناء غيابي عن المنزل – بقرار الإبعاد عن منطقة تمثل نصف المغرب بمعية السيد مصطفى بلعربي العلوي وزير العدل السابق، ومصطفى بن احمد (المدير السابق لدار الحديث الحسنية) وعند رجوعي إلى المنزل، وجدت أن الأثاث البسيط الذي كنا نتوفر عليه قد ضاع في ظروف مجهولة، وزوجي مشرد في مدينة الدارالبيضاء.. استمرت هذه المعاناة فترة طويلة ، إلى أن تمكنا من الحصول على منزل صغير بمدينة سلا استأنفنا فيه حياتنا من جديد.
في هذه الرحلة كان النضال الوطني هو القاسم المشترك بيننا، وفي الوقت الذي كانوا يأتون فيه لاعتقاله ، كانوا دائما يجدونه مرتديا ملابسه، وحذاءه وهو نائم بملابسه فوق الفراش، ونحن كأسرة كنا مستعدين لمواجهة الوضع الجديد… في ذلك الوقت كان النساء يناضلن في واجهة، والرجال يناضلون في واجهة أخرى، وقد أخذت على عاتقي أن أناضل في الواجهة النسائية، بينما أخذ الوديع على عاتقه النضال في الواجهة الرجالية. وفي هذا الإطار كان عملي يتمثل في تأطير السيدات في مدينة سلا، ومحاربة الأمية في صفوف «الطليعة» (طليعة الشابات) التي كنا نطلق عليها «طلائع الإصلاح» وإسعاف عائلات المعتقلين أثناء فترات اعتقالهم ، كل هذه الأشياء كنت اعتبرها من صميم عملي… بالإضافة إلى ذلك كان زوجي دائما يقول لي عند كل اعتقال: الآن عليك أن تقطعي كل صلة بيني وبينك لأنني لا اعتقد أننا سنلتقي مرة أخرى… وعندما يذهب إلى السجن : كنت أتحمل مسؤولية زيارة عائلات المعتقلين، إلى جانب مسؤولياتي الحزبية والعائلية مع محدودية الإمكانيات.
معاناتي مع السجن إذن بدأت بعد الحوادث التي أعقبت اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد ، حيث دعا الحزب إلى القيام بمظاهرات واسعة تضامنا مع الشعب التونسي .. وبالفعل قد خرج الوديع لتوزيع المناشير الداعية إلى الإضراب والتظاهر ، فتم اعتقاله و كانت تلك أول تجربة لي مع السجن، بكل ما يتطلبه من ذهاب وإياب ، وصراع بباب السجن وخصام مع المسؤولين عنه وتوعية عائلات المعتقلين الذين التقي بهم بباب السجن ، هذه التجربة لم تستمر طويلا ، لأن محكمة الاستئناف خفضت العقوبة إلى النصف ( 6 أشهر بدل سنة التي أصدرتها المحكمة الابتدائية …) بعد ثلاثة أشهر من مغادرته للسجن ، جاءت أحداث غشت 53 التي أعقبت نفي الملك الراحل محمد الخامس . في هذا الوقت لم يتوقف عملنا النضالي كنساء سواء على مستوى التوعية ، أو في إطار اجتماعات الخلايا ، أو بالتفكير في وسائل النضال بالطريقة التي سار عليها الفدائيون في ما بعد ( التفكير بالعمل المسلح…) ، ومن بين السيدات اللائي شاركن في هذا العمل أذكر المرحومة الباتول الصبيحي والسيدة زهور بنسعيدة ، والسيدة فاطمة زنيبرية ، بالإضافة إلى العديد من السيدات الأخريات ومن طلائع الإصلاح .
في هذه الأثناء جاءت أحداث غشت 1953 … التي روعت المغرب بأكمله، نظرا للعلاقة المتينة التي كانت تربط الملك الرحل محمد الخامس بالشعب المغربي.. وكنا نحن النساء نتوزع على مساجد الرباط وسلا لمراقبة خطب الجمعة، ونقوم بإبلاغ المعلومات إلى الحزب آنذاك… في هذه الفترة جاء الاعتقال الثاني للوديع، وبدأت التجربة الثانية مع السجن، وكانت تجربة أعنف وأشرس… فعندما جاءوا لاعتقال الوديع كان عندنا في البيت أحد الفدائيين وهو المرحوم محمد التازي الذي كان تاجرا يقطن بدرب الفقراء الذي توفي في حاثة سير بعد الاستقلال ، بعد اعتقال زوجي بدأت أبحث عنه، فتوجهت إلى مركز الشرطة بسلا، فقيل لي بأنه غير موجود… كررت المحاولة عدة مرات. وبعد أسبوع من التردد على المركز، أخبرني أحد الأشخاص بأنه ربما يكون في السجن الذي كان يقيم به في المرة السابقة… ذهبت إلى رئاسة الناحية التي كان يعمل بها آنذاك مسؤول يسمى «ماكسيم» دخلت عنده ، وطلبت منه أن أرى زوجي، إن كان على قيد الحياة وإذا لم يكن كذلك ، فمن حقي أن أعرف عند خروجي من مكتب رئيس الناحية اقترب مني الحارس الذي كان يستمع إلى الحديث الذي دار بيني وبين المسؤول الفرنسي، وقال لي عليك أن تحضري إلى باب السجن في الثالثة تماما لتري زوجك.
في ذلك اليوم فرض منع التجول، لأنه اليوم الذي نفي فيه محمد الخامس ، كان منزلي يبعد عن مركز الشرطة بحوالي ثلاثة كيلومترات ، لذلك غادرته في الثانية لأصل في الموعد المحدد وبالفعل عندما وصلت إلى الساحة التي كانت تسمى «باب الخباز» وجدتها مزروعة باللفيف الأجنبي وجنود السنغال ورجال « الكوم» ..اخترقت حشد الجنود ، إلى أن وصلت إلى باب السجن، قرعت جرس الباب، ففتح لي الشخص المذكور… رأيت «شبحا» قادما من الأسفل، والضمادات تغطي يديه وقدميه، ووجهه تغمره صفرة الموت قال لي: ماذا جئت تفعلين هنا ؟ قلت: جئت لأطمئن عليك . فقال: من الآن اعتبري أن العلاقة التي كانت بيننا قد انتهت .. اليوم سيتم نفي محمد الخامس، ونحن سنموت إما هنا أو في الخارج…!!
في اليوم التالي، هيأت سلة الطعام كالعادة في مثل هذه المناسبات، وتوجهت إلى السجن عندما قرعت الجرس فتح الحارس الباب وأخبرني بأن المعتقلين قد نقلوا في الليل إلى مكان آخر ، وأنهم ربما يوجدون في الصحراء… لم أرجع إلى المنزل بل توجهت إلى الرباط سيرا على الأقدام إلى أن وصلت إلى سجن «لعلو» وهناك وجدت نفسي أمام بحر هائج من البشر من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ والشباب في مظاهرة عارمة … اخترقت الصفوف إلى أن وصلت باب السجن، فسألت و لكن دون جدوى… انضممت إلى المتظاهرين الذين توجهوا في مسيرة صاخبة من «باب لعلو» إلى «الكزا» وهم يهتفون برجوع محمد الخامس ، تطوقهم قوات اللفيف الأجنبي والسنغال والكوم بالرشاشات و البنادق… وكل أنواع الأسلحة.
رجعت إلى المنزل بعد تفرق المظاهرة ، على أساس أن الوديع موجود في الصحراء، ومع ذلك فقد كررت المحاولة في اليوم التالي.. وبعد أسبوع من الاستفسار اليومي، أخبرت بأنه موجود ، وأنه باستطاعتي أن أزوده بالطعام والملابس … قضى الوديع في سجن لعلو سنة كاملة ، من المدة التي حكمت عليه بها محكمة الاستئناف بعد أن كان الحكم الابتدائي سنتين نافذتين في هذه الفترة . ربطت علاقات مع عائلات المعتلقين الوطنيين ، وبخاصة مع أسرة المرحوم بوزيد الذي اعتقل بسبب علاقته بالمناضل الحنصالي . في هذه الفترة نقل المقاومون «الفدائيون» الذين حكمت عليهم محكمة فاس بالإعدام إلى سجن لعلو : (بنشقرون عبد العزيز ، و بنشقرون عبد العالي،و الماريكاني) .. وأتيحت لي فرصة الاتصال بهم . بعد تأكد الحكم الاستئنافي على الوديع ، أصبح عليه أن ينقل إلى سجن آخر … و هكذا كان علي أن أداوم أمام باب السجن طيلة خمسة عشر يوما لمعرفة اليوم الذي سيتم فيه تسفيرهم إلى سجن «العادر». وذات صباح جاءت إحدى الشاحنات العسكرية، وعلى متنها جنود مدججون بالسلاح ، وحملت المعتقلين الذي كانوا مقيدين بالأصفاد من أيديهم (الوديع، بنشقرون عبد العزيز، بنشقرون عبد العالي، الماريكاني… وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم)…
هنا بدأت تجربتي مع سجن آخر هو سجن «العادر» الذي كنت أزوره أسبوعيا وكانت زيارة السجناء السياسيين في «العادر» تشبه التظاهرة أو النزهة، لأن جميع عائلات المعتقلين ، سواء الذين صدرت في حقهم أقسى الأحكام أو أبسط الأحكام، كانوا يجلسون في حلقات صابرين محتسبين، وهم يتطلعون إلى استقلال المغرب وعودة محمد الخامس. بعد حوالي أربعة شهور، نقل الوديع إلى سجن القنيطرة على إثر الأحداث التي شهدها سجن «العادر» وهنا بدأت تجربتي الأولى مع سجن القنيطرة… ولكن بعد مدة تم نقله صحبة المعتقلين من مدينة وجدة والذين لا تحضرني أسماؤهم إلى سجين علي ومومن… الذي شكل بالنسبة إلى تجربة جديدة كلها معاناة .. لأن السجن كلمة صغيرة، ولكنه في معناه ومدلوله شيء كبير جدا.
كان علينا أن نراقب يوم إطلاق السراح، لماذا؟ لأن السلطات الاستعمارية آنذاك كانت ترسل المعتقل السياسي، تحت الحراسة على قدميه من بلدة إلى اخرى إلى أن يصل إلى مقر إقامته.. ولذلك كنا نعد الدقائق والساعات لمعرفة وقت إطلاق سراحه حتى نكون متواجدين أمام باب السجن… و هكذا خرج الوديع من السجن ليستأنف نضاله في صفوف الحركة الوطنية وفي صفوف المقاومة. وكان من بين الذين ذهبوا لاستقباله في باب السجن المرحوم محمد التازي الذي كان من أكبر الفدائيين في المغرب… وبذلك انتهت مرحلة المعاناة مع السجن في فترة الاستعمار، لتبدأ مرحلة جديدة من المعاناة مع السجن، ولكنها معاناة من نوع جديد، في عهد الاستقلال.
في يوليوز 1963، انعقد اجتماع اللجنة المركزية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالدارالبيضاء ، وكالعادة في كل الاجتماعات السابقة كنا ننتظر في المنزل قدوم عدد من الناس للمبيت عندنا بعد انتهاء أشغال الاجتماع.. طال انتظارنا دون جدوى إلى طلوع الفجر… كنت حديثة العهد بالدار البيضاء، ومع ذلك غادرت المنزل في السادسة صباحا، صحبة ولدي صلاح الذي لم يكن يتجاوز التاسعة من عمره دون أن أدري إلى أين سأذهب بالتحديد… ولكن صلاح دلني على مقر الحزب الذي كان والده يتردد عليه بصحبته مرارا… عندما وصلت إلى عين المكان سألت الشخص المكلف بحراسة المقر، فأخبرني بأن الشرطة طوقت المكان في الليلة السابقة، وأحضرت العديد من السيارات والشاحنات، واعتقلت الأشخاص الذين كانوا موجودين بالمقر، وأنها عادت هذا الصباح لتأخذ سياراتهم التي كانت واقفة أمام مقر الاجتماع.
توجهت إلى المفتشية المركزية للشرطة لأسأل عنه دون جدوى ولكنني علمت في النهاية بأنهم موجودين هناك… رجعت إلى المنزل وأخبرت الموجودين بأمر الاعتقال، وأرسلت من يخبر عائلات المعتقلين عن طريق الهاتف أو البريد… وفي المساء كانت هناك مآتم بمنازل المعتقلين، لأن البلاغ الذي قرأه الوزير الأول آنذاك الحاج امحمد باحنيني على أمواج الإذاعة لم يكن له سوى معنى واحد هو أن جميع المعتقلين سيحكم عليهم بالإعدام..!!
هنا بدأت معاناة جديدة، مع سجن جديد ليس بالمفهوم السابق… سجن عهد الاستقلال سجن يعذبك فيه مغربي…!!. المهم أنني توجهت في نفس اليوم إلى مركز الشرطة ومعي سلة الطعام وبعض الملابس، إلا أنهم رفضوا تسلمها مني.. كررت المحاولة في اليوم الثاني، فقبلت الأشياء التي أحضرتها معي، ولكن بعد استنطاقي حول الطريقة التي بلغني بها خبر اعتقال.. هنا بدأ الناس يتوافدون من الأقاليم بعد أن شاع خبر الاعتقال. في اليوم الرابع توجهت إلى مركز الشرطة كالعادة، ولكنني فوجئت بخبر توزيع المعتقلين على عدد من مراكز الشرطة، وعلمت بوجود الوديع في مركز درب مولاي الشريف …توجهت مباشرة إلى المركز المذكور، وعندما وصلت إلى السلم أوقفني الحراس واستفسروني، فقلت لهم أن زوجي هنا، وأنا أريد رؤيته، فأخبروني بوجوده و لكنهم رفضوا السماح لي برؤيته …عندما عدت في المساء إلى المركز كان الوديع يتعرض لتعذيب وحشي، وكان صوت صراخه يصل إلى أذني، فلم أتمالك نفسي وأخذت أصرخ، وأصرخ، ولكنهم لم يعبأوا لذلك.. بل طلبوا مني أن أذهب إلى حال سبيلي. بعد عشرين يوما، تم نقله إلى تطوان دون أن أعلم بذلك، وفي هذه الأثناء كنت أتوجه إلى الرباط للاطلاع على لائحة المناضلين الذين سيقدمون إلى المحاكمة… وعندما علمت بخبر نقله إلى تطوان ، سافرت إلى هناك، وذهبت إلى مركز الشرطة فأكدوا لي أنه غير موجود، فتوجهت إلى المحكمة، وقابلت ممثل النيابة العامة الذي طلب مني كتابة رسالة في هذا الصدد، فنفذت طلبه.. وهنا اتصل هاتفيا بمركز الشرطة واستفسرهم عن مصير زوجي، فأخبروه بوجوده عندهم. عندما توجهت إلى مركز الشرطة في مساء نفس اليوم على أمل مقابلة الوديع، استقبلني المسؤولون بالمركز وطمأنوني على صحته وأحواله، وأكدوا لي بأن ملفه فارغ وأنه من الممكن أن يطلق سراحه بين وقت وآخر… ولكنهم رفضوا تسلم الطعام والملابس التي أحضرتها معي..
بعد مدة، تم الإفراج عن الوديع، ولكن ليس الذي اعتقل بل وديع «آخر» وكنا نظن بأن المعاناة قد انتهت بإطلاق سراحه، ولكن ما كاد يمر شهران حتى جاء زوار الفجر في صباح أحد الأيام ليأخذوه من جديد إلى المعتقل الذي مكث فيه ستة شهور أخرى بدون استنطاق ولا محاكمة … !!
توقفت المعاناة في أواخر سنة 1964 لتبدأ معاناة جديدة سنة 1965 مع نضالات الأبناء … آسية ، وصلاح الدين ، وأسماء الذي عاشوا أحداث 1965 يوما بيوم وعشنا كذلك أحداث 1967 … في هذه الفترة لم تتوقف معاناتي مع السجن فقد كنت أزور جميع المعتقلين من بينهم الشهيد عمر رحمه الله ..
في سنة 1969 عشنا أحداث محاكمة مراكش إلى حد أنني عندما ذهبت سنة 1973 لزيارة الوديع في السجن المركزي بالقنيطرة، أعتقد المسؤولون بالسجن أنني جئت لزيارة الأخ الحبيب الفرقاني .. !!
بعد ذلك جاءت تجربة 1973، حيث اعتقل الوديع ضمن حملة الاعتقالات التي شملت آلاف الاتحاديين ، أخذوه ثم عادوا به لتفتيش المنزل، وأذكر بالمناسبة أن واحدا منهم فتح درج الخزانة فوجد فيها صورا للوديع والمهدي بنبركة وبعض زعماء حزب لقوات الشعبية الآخرين ، فقال لي : هاذ السيد الله يهديه ، ما بغاش يتفرق على هاذ الناس» فقلت له «أنتم لديكم إخوتكم وأحبابكم وآباؤكم ، أما نحن ، فإن أحبابنا وأباؤنا وإخوتنا هم هؤلاء الناس» … !!
لم نترك أي مكان إلا وبحثنا فيه عن الوديع دون جدوى ، كنا نذهب إلى القنيطرة كل أسبوع تقريبا … بدون فائدة وأخيرا، وبعد جهد جهيد، علمنا بوجوده في السجن المركزي بالقنيطرة، ولكن تبين لنا في ما بعد أنه لم يكن هناك، ومرت سنة، ونحن ننتقل من سجن إلى سجن، ومن محكمة إلى محكمة دون أن نعرف مكان اعتقاله، وبقينا في هذه الدوامة إلى أن تم الإفراج عنه من ذلك المعتقل السري بعد اعتقال دام قرابة السنة…!!
وهنا بدأنا معاناة من نوع جديد… ففي أحد الأيام من سنة 1974 جاء رجال الشرطة بالليل وطلبوا تسليمهم صلاح الدين وأسماء، فأجبتهم بأن صلاح الدين غير موجود، أما أسماء فلا يمكنني أن أسلمها لكم الآن …وفي الصباح سأحضرها لكم في تلك الأثناء. كان ابني خالد بجانبي فقالوا لي سنأخذ هذا إلى أن يحضر أخوه فقلت لهم : افعلوا ما شئتم ، هذا ليس هو صلاح، ولكن إذا أردتم أن تأخذوه فلكم ذلك…
ذهب رجال الشرطة إلى حال سبيلهم… وبقي اعتقال الأبناء معلقا، خرج الوديع من المعتقل السري في حالة يرثى لها، بحيث أنني لم أعرفه عندما رأيته للمرة الأولى وقد قضينا في علاج الرجل/ الشبح مدة طويلة تمتد من يناير 1974 إلى نونبر من نفس السنة … !!
وهنا نصل إلى المعاناة الكبرى، ففي 6 نونبر 1974 أخذوا عزيز الذي لم يكن عمره يتجاوز السادسة عشر والنصف، وقف بالقرب من الباب وهو ينظر إليه لكي أسلم عليه أو أقبله، كانت عيناه مغرورقتين بالدموع فقلت له: «اسمع يا عزيز هذا طريقك ، وأنت الذي اخترته فسر فيه إلى النهاية».
أخذوا عزيز، وفي المساء عادوا به إلى المنزل ليفتشوه… ثم أخذوه من جديد وبعد 36 ساعة اعتقل صلاح من جديد… وبعد ثلاثة أيام اعتقلت أسماء… وهكذا دخلنا فصلا جديدا من فصول المعاناة الشديدة، حيث كنا في بعض الأحيان لا نرجع إلى المنزل أياما وأسابيع، لأن الظروف كانت تحتم علينا البقاء إما في باب السجن ، أو في مركز الشرطة، أو في المحكمة.. اعتقل عزيز وصلاح وأسماء إلى جانب العديد من المناضلين الآخرين الذين وصل عددهم إلى 190 تقريبا، استمر الاعتقال مدة أربعين يوما، أطلق بعدها سراح أسماء… كان المعتقلون يغادرون مركز الشرطة إلى السجون على دفعات .. وكانت آخر مجموعة منهم تضم 26 معتقلا (ضمنهم عز وصلاح). مكثت هذه المجموعة في مركز الشرطة 15 شهرا، لم نكن نعرف فيها أي شيء عن أوضاعهم بعد نقلهم إلى السجن المدني بالدار البيضاء، علمنا بأن عزيز عانى معاناة قاسية جعلتهم ينقلونه إلى مستشفى الرباط، حيث مكث هناك خمسة أشهر تحت الحراسة بسبب انهياراته العصبية من جراء ما عاناه داخل المعتقل، وقد ظل يعاني من ذلك بعد انتقاله إلى السجن المدني، حيث تم نقله إلى الجناح 36 بمستشفى ابن رشد الخاص بالأمراض النفسية… ذلك الجناح الذي يتجلى فيه انعدام الإنسانية، بحيث أنني لم أستطع أن أنقل ابني إلى ذلك «السجن الثاني» إلا بعد شهرين من المعاناة ، كنت أتنقل خلالها وبشكل شبه منتظم بين السجن والمحكمة والمستشفى وإدارة السجن تقول: لقد أعطيت الأمر بنقله إلى المستشفى، إلى حد أن المعتقلين السياسيين الآخرين دخلوا في إضراب عن الطعام لنقله إلى المستشفى …
ذلك اليوم اقتحمنا الجناح الذي كان يوجد به المستشفى، فوجدناه محاطا برجال الشرطة وهو يهذي بدون وعي احتضنته، وأخذت أسير به جيئة وذهابا، في محاولة للتخفيف عنه، رفق رجال الشرطة لحالي، وتركوا المريض مع «طبيبته» بعد أن كانوا يحولون دون ممارسة الطبيبة لمهامها، وهنا بدأت معاناتي مع هذا الجناح، بحيث أصبح علينا أن ننظف، وأن نمول، وأن نعول ، وأخذنا ننتقل بين سجنين: السجين حيث صلاح والمستشفى حيث عزيز . فكانت المحاكمة، ولأن الناس لم يأتوا ليسمعوا أحكاما بعشرين أو ثلاثين سنة ، ولكن ليطلعوا على أشياء أخرى ، ومنها أن هذا المغرب السعيد يدفن زهراته وأبناءه الذين يمكن أن يستفيد منهم في المستقبل…!!
أما يوم المحاكمة، فقد كانت معاناته لا تقل عن معاناة الاعتقال والسجن من حيث الضغوط والحراسة القوية، وخنق الأمهات والأخوات والزوجات والآباء والأبناء، وكل من له علاقات مع الشباب الموضوعين في قفص الاتهام، ووفق ولدي صلاح وعزيز سمعا أنهما متهمان بتهم خيالية، وكان علي أن أتمالك دموعي، ولكن ما كل شيء تريده يتحقق، حيث توزعا بعد ذلك مع باقي المعتقلين على زنازن السجن.
في السجن «المركزي» كانت المعاناة أشد إيلاما، نظرا لأن هناك من كان يعتقد بأن المعتقلين السياسيين يجب أن تنكسر شوكتهم، و»الانكسار يجب أن يتم بالعنف والقهر».. الشيء الذي أدى إلى الإضراب عن الطعام مدة ستين يوما ( المعروف بإضراب 45 يوما ) والذي استشهدت على إثره، كما نعرف، المناضلة سعيدة المنبهي، ولا يمكن أن يمر على هذا الحادث دون أن نذكر التفاعل الذي عشناه كأسرة مع أسرة الشهيدة، وكعائلات للمعتقلين السياسيين، الشيء الذي كان يفرض علينا الذهاب والإياب من القنيطرة إلى الدار البيضاء ثلاث مرات في يوم واحد.
فبمجرد ما سمعنا هناك شيئا غير عادي، اتجهنا إلى المستشفى وبالضبط في الجناح الذي كانت توجد به سعيدة ، فوجدنا من المحامين الأخ محمد كرم، والأخ عبد الرحيم برادة، ورتبنا في ما بيننا ماذا يجب إنجازه وجمعنا عائلات المعتقلين المبعثرة بين طرقات المستشفى، وخرجت السيارة تحمل جثمان الشهيدة في اتجاه مراكش، وتبعتها العائلات في سيل من السيارات، وعشنا هناك مع عائلة الفقيدة كل مراسيم المأثم ، وبعدها مباشرة، عدنا من مراكش إلى القنيطرة . ولأن أية رخصة للحوار لم تكن ممكنة ، جلسنا على الأرض أمام بوابة السجن المركزي في فضاء ملؤه الصياح والاحتجاج ، بحيث لا من يدخل ولا من يخرج، وجاءت الشرطة ، وكانت حالات إغماء متعددة، وكانت حالات شلل الأقدام .. !!
وفي النهاية تبين أن الحملة بهذه الصفة لم تعط نتيجة، مع العلم أن الرجال متواجدين بنسبة لا تعتبر ، وكان علينا أن ننقل نضالنا من مستوى إلى آخر. فقررنا أن نذهب إلى البرلمان ونتصل بالمحامين ونقابتهم وبالمحكمة، وفي هذا الاتجاه، وكان الفصل شتاء زرنا الأخ عبد الرحيم بوعبيد ، وعرضنا عليه الأمر ووجدنا أن طريق البرلمان مطوقة بعد أن تسرب الخبر، فتوجهنا إلى وزارة العدل، استقبلونا فعلا، ثم أدخلونا غرفة وأغلقوها علينا، واستدعوا الشرطة لتعتقل من بقي من العائلات، اعتقلوني أنا وآسية وأم المعتقل عبد العزيز مريد، أسماء كانت بعيدة عن السيارة وأبصرتنا داخلها، فأسرعت وطالبت أن تلحق بنا وبعد ذلك، أضافوا إلينا أم صابر والضاوية و أخريات، وأوصلونا إلى مركز الشرطة لتبدأ الاستنطاقات»العادية» حتى منتصف الليل، قبل أن تأتي تعليمات بإطلاق سراحنا .
في صباح اليوم الثالي، كنا على موعد مع السجن من جديد ، ولما وجدنا أن خطة عملنا لم تعط الثمار الأساسية ، قررنا الذهاب إلى المساجد، والمسجد الأول الذي وضعناه في الاعتبار هو مسجد السنة بالرباط .. بالفعل، دخلنا حرم المسجد، صلينا مع المصلين وبعدها، قررنا أن ندخل في إضراب عن الطعام حتى يحل أبناؤنا إضرابهم ومر الظهر، ومر العصر، ومر المغرب، ومر العشاء، وجاء موعد إغلاق المسجد فأمرنا محافظ المسجد بالخروج فرفضنا، وفسرنا له الأمر وكان عليه أن يستدعي الشرطة، وهو ما حصل فعلا .. انتدبتني لحظتها الأخوات لمحاورة رجال الشرطة الإقليميين ، أنا وبعض الأخوات الأخريات، وبدأ مسلسل الوعود كالعادة تحت التبريرات المعتادة، دائما وكان جوابنا أننا نقدر خطورة الظرف الذي تجتازه البلاد، جئنا إلى المسجد ولم نخرج إلى الشارع بتظاهرة، وإذا قدرنا نحن الظرف، فإن على المسؤولين أن يقدروه، وضربنا موعدا معهم في صباح الغد لنذهب إلى بعض كبار المسؤولين، وبالطبع كان الأمر مجرد كذبة «لابد منها» لإلهائنا عن الاستمرار في اعتصامنا داخل المسجد..!!
وفي الغد، طوقوا المسجد لكي لانعيد الكرة من جديد، فانتظرنا وقت الصلاة، ودخلنا مفردات.. واحدة.. واحدة إلى قلب المسجد، أقيمت الصلاة وانتهى الدعاء والحديث، فجهرنا بالتكبير والتهليل بحضور جمهور المسلمين، وانفض بعد ذلك الجميع ،وبقيت بعض النساء معنا… ذهب الجميع، وبقينا نحن في المفاوضات مع الشرطة، وكانت لنا كلمة واحدة، إما معتصمات هنا حتى يحل الإضراب، وإما معتقلات فقط .. وفعلا، نقلونا إلى مخفر الشرطة، وبدأ الحوار معنا، فقلت لمسؤول الشرطة: ليكن في علمك بأننا إذا أطلق سراحنا اليوم ، سنرجع غدا لنقوم بنفس الاحتجاج .. وهنا بدأ الرأي العام يتحرك، فسمعنا بأن لجنة برلمانية تشكلت في هذا الشأن وستزور المعتقلين، وقمنا بعدة مساعي لحل الإضراب الذي ظل مستمرا حتى داخل المستشفى بكوننا سنتحمل المسؤولية في المحافظة على النظام ، وعلى هذا الأساس أبلغنا المعتقلين بحقيقة الأمر وأقنعناهم بالتحادث معنا.
ويأتي تصريح للوزير الأول أنذاك الذي يقول بأنه ليس لدينا معتقلون سياسيون، مما سيطرح «ضرورة» الإجهاز على مكتسبات هؤلاء المعتقلين، ولذلك قرروا الدخول من جديد في إضراب عن الطعام، مما جعل إدارة السجون توزع أبناءنا على عدد من السجون المغربية، وكأن نصيبي أنا سجينان : فقد ظل عزيز نظرا لحالته الصحية المتدهورة بالقنيطرة بينما أخذ صلاح إلى سجن عين علي ومومن بسطات.
في هذا الوقت ولحقد قديم ظل يغلي في نفسية مدير السجن المركزي بالقنيطرة أخذ عزيز وهو في حالته الصحية المزرية إلى زنزانة منفردة، وحلق شعر رأسه وتعسف عليه، وفي الزيارة الثانية لعزيز اتصلت بالمدير وسألته: هل هو مسؤول إداري أم خصم صريح، فأخذ يقسم ويقسم أن ما فعله لم يكن إلا في صالح عزيز.
وبدا السفر الطويل والشاق بين سجنين، وبدأ سعينا الدؤوب من أجل العمل على جميع المعتقلين ومركزتهم، وبعد جهد جهيد ألحقوا عزيز بصلاح قبل أن يعود المسؤولون ليمركزوا المعتقلين السياسيين بالقنيطرة …وهكذا سينطلق مسلسل آخر من النضال الصامت مع السجن، وفي ما يبدو، فقد أطلق سراح البعض من أبنائنا ولا يزال آخرون منهم في غياهب الزنازن ومن ثم، فالمعركة بالنسبة لي لم تنته بعد مادامت هناك يدان مقيدتان وصوت مصادر…»
صدر كتاب مناديل وقضبان للراحلة ثريا السقاط سنة 1988