«بهيجة وأخواتها» قصة من تأليف الروائي المغربي النيني عبد الرحيم ادريوشي صدرت طبعتها الأولى عن دار فضاءات للنشر والتوزيع بعمان الأردن سنة 2023، بغلاف من تصميم نفس الدار وهي تقع في 321 صفحة.
تَجَمَّلَ غلاف الرواية بصورة لفتاة تطل علينا بنظرة ترقب توحي بأن هناك شيئا ما قادم، نظرة ترنو نحو المجهول في انتظار نهايات مفاجئة، أو كأنها لمحت طيفا توارى من أمامها بملامح غير محددة، نظرة من عينين هادئتين تنمان على أن الفتاة كلها قوة وثبات استعدادا لأية مواجهة مع أي أمر مقدر أو مصير منتظر. وفوق الصورة كتب عنوان الرواية بخط بارز أبيض اللون ثم فوقه اسم كاتب الرواية. والغلاف من خلال لونه البني الجميل يبدو جذابا، تغري سيميائيته بسرعة انجذاب القارئ والدفع إلى الغوص في أعماق دهاليز الرواية، لمعرفة مجاهل زواياها وخبايا شخوصها.

رواية «بهيجة وأخواتها»

رواية اجتماعية جريئة يمكن تصنيفها ضمن الأعمال التي استطاعت تجاوز المألوف بتخطيها كل أشكال الرقابة المفروضة اجتماعيا. وتصريفها مجريات الأحداث في قالب واقعي حر غير خانع أو منبطح لأي من الطابوهات، قالب مكن وبشكل عقلاني من تبرئة كثير من السلوكات والتصرفات التي طالما عمد المجتمع إلى تغليفها بقناع المحرم فعله تحت ذريعة الوازع الأخلاقي، وقد كان للكاتب النيني عبدالرحيم ادريوشي من خلال روايته هذه ما يكفي من الجرأة لاختراق هذا الجانب الشاذ والنشاز من سلوكيات مجتمعنا، محاولا قدر الإمكان تجفيف كل ينابيعه من مساحيق الرياء والكذب والنفاق، سواء تعلق الأمر بهاجس الجنس في جميع تجلياته وأشكاله، أو هاجس العلاقات الحميمية خارج مؤسسة الزواج، أو حتى هاجس الجلسات الخمرية والليالي الحمراء بجميع توابعها وما يجري أثناءها من غرائب وأحداث، من باب أن المجتمع هو من عمل على حجب هذا الجانب المجهول من حياتنا قسرا، وحكم عليه بالتموقع ضمن خانة البَسْل التي تعني الحرام كما تعني الحلال، وفي ذلك من الإحالة ما يجعل الشيء المحظور جهرا أشد رغبة في السر.

أولا : فكرة المتن الروائي

يقول فرانز كافكا في روايته «القلعة»: «على الكِتاب أن يكون تلك الفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا».
ونحن إذ نشفق على أنفسنا من أنانيتنا المتضخمة، بدعوى أن لنا كامل القدرة على التحكم في توجيه خط مسارنا الحياتي كما نشاء، وبكل ما أوتينا من قوة وحيطة وتوأدة، دون أن نشعر بأننا في الحقيقة لا نفر من قدرنا إلا لقدرنا. وأحداث رواية «بهيجة وأخواتها» من حيث بناءها السردي لا تكاد تحيد عن منطق أن هذه الحياة هي مجرد لعبة Puzzle، الصورة فيها عبارة عن قطعة تكمل القطعة الأخرى. ذلك أن الأحداث تتناسل لتجعل كل فرد من شخوص الرواية يتحرك وفق شروط تحكمها مسارات حياتية كأنها أعِدَّت قبلا. فمن خلال الفصل الأول المعنون بـ»في محطة الحاضرة» نجد فقرة مؤطرة لكل البناء السردي للرواية مفادها أن : (كل شيء يبدأ من المحطة وينتهي فيها، المحطة الطرقية مكان للبداية كما أنها مكان للنهاية.)ص10
من هذه النقطة بالضبط تبدأ الحكاية وفيها تنتهي، هكذا تشاء الأقدار بعد ركوبه الحافلة في محاولة منه الفرار والابتعاد عن بهيجة أن يتذكر صالح -بطل الرواية- أول يوم وطأت قدماه محطة مدينة أسفي بعد عودته إلى الحاضرة. كي يتسلم «حصته من حقه في قسمة ميراث الآباء والأجداد»ص32. حيث سيعيش أحداثا اختلط فيها المتخيل بالواقعي، سواء بالنسبة للشخوص أو الأماكن أو الأحداث. وفي المحطة تشاء الصدف أن يصطدم صالح بذاك الشرطي الذي كان في ما مضى قد لفق له ولصديقه مُولود تهمة تتعلق بكتابة كلمات تدعو الناس للعصيان وتسيء للبلاد ورموزها، والتي قضى بسببها ليلة في مخفر الشرطة، ثم من المحطة توجه صالح إلى نزل إشبيلية حيث التقى «مدام فلورونس» صاحبة النزل الذي قضى به لحظة حميمية مع منظفته المسماة بهيجة. لكن ما أثار انتباه صالح بهذا النزل هو تلك الصورة المعلقة على جدران الغرفة حيث يوجد شخص «بهندامه المغربي يمسك بيده امرأة ذات ملامح غير عربية، والرجل أشبه بسحنة والده رحمه الله.»ص26.
وفي محاولة منه استرجاع ذكريات بعض أزقة المدينة أثناء تجواله بها، وجد نفسه في أحضان ما يسمى ب»السوق الخانز» و»السوق الخانز» هو اسم تلبس بزنقة ابن طفيل التي كانت تسمى قديما بسوق التمر حسب ما أخبر به محمد صديق صالح الملقب ب «فرانكشتاين» وذلك بسبب وجود محلات كانت تخزن بها جلود مذابح المدينة والأسواق القروية المجاورة قبل نقلها للمدابغ، وبعدها بفترة أصبحت مخزنا للأسماك المجففة. وكلها كانت تعطي روائح كريهة. ومن هذا السوق يعود صالح بعد غياب طويل إلى حي «سانية الجمرة» مكان الولادة والنشأة الأولى، حيث تسلم عقود أملاكه من الأفوكاتو الذي كان مكلفا بوصية والده، وهنالك التقى بأصدقاء والده وبعض معارفه وكذا أفراد من أسرته. وفي الفصل المعنون ب»حي الكورس» هذا الحي القديم حيث تتواجد بعض أملاك الوريث صالح، والذي سيكون مسرحا لكثير من نزوات بطل الرواية ومغامراته الغرامية مع شابات وفتيات الحي من بينهن نعمة التي اسمها الحقيقي هي الأخرى بهيجة. وفي يوم جميل بينما كان صالح يتسكع بين أزقة حي الكورس إذا به ينجذب كليا نحو فتاة جميلة كانت تجلس أمام مسكنها وهي منهمكة في قراءة قصة «العروس الأسيرة» دون أن تعيره أي اهتمام. لكن غروره سيدفعه إلى بذل كل ما في وسعه من أجل نيل رضى الفتاة، فسخر لغرضه هذا إحدى المدمنات تدعى زينب التي ستنجح بطريقتها في استغواء الفتاة المسماة هي الأخرى بهيجة وإحضارها لبيت صالح في اليوم الموعود، وكما يقال الوقوع في الحب أسهل شيء في العالم. فمن يومها وهو يغدق عليها من الأموال ما يزيد ومن الهدايا ما يفيض، وفتح لها حسابا بنكيا هو من كان يمونه، واشترى لها سيارة وعلمها اللغة الفرنسية، وكتب بعض أملاكه باسمها حتى أصبحت ذات نفوذ ومن الحسناوات المدمنات داخل المدينة. وهذا ما يؤكد ما ذهب إليه صالح حين قال :»لدي إحساس مرهف وقلب رقيق عاشق ولهان، يميل بمجرد نظرة عين ساحرة لحوراء جميلة فاتنة حسناء، فأنسى نفسي وأفقد صوابي وأضيع مالي. ولا أندم على ما ضيعته إلا بعد فوات الأوان…» ص64-65.
بعد عقده العزم على الزواج من معشوقته بهيجة، قام ببيع بعض ممتلكاته من أجل توفير كل لوازم العرس، إلا أنه أُصيب بخيبة أمل حين فاجأته بهيجة بأن يكون العرس شكليا بالفاتحة دون عقد أو شروط.
كل شيء كان منتظرا مند أن أصبحت لبهيجة تحركات مشبوهة مع غرباء، ولم تعد تعر أي اعتبار لمواعيد صالح همها الوحيد هو تحصيل ما تبقى من أملاكه وأمواله. أما صالح الولهان فقد أصبح همه الوحيد نيل مبتغاه اللحظي من بهيجة. دون أن تكون له الجرأة حتى على سؤالها أو محاسبتها عن أخطائها الكثيرة والمتكررة، والتي رأى بعضها بأم عينيه. وبعد أن ضاقت به الأحوال، لم يجد متنفسا لما ينتفض في دواخله من ألم إلا لدى صديقه محمد، الذي حكى له كل الزلات التي ارتكبتها بهيجة في حقه سواء بعد زواجه العرفي أو قبله. فصالح كما يبدو هو ذو شخصية عفوية ومتسرعة في اتخاذ القرارات دون أي تدقيق أو تفكير في العواقب، شخصية مجازفة ومرتكبة للحماقات شديدة الانفعال وغالبا ما تكون قراراتها مزاجية، وذلك من شدة فرطها في حب الحياة. فحتى حين واجهها بالحقيقة من قبل، صاحت في وجهه : «انا لست بهيجة واحدة …انا واحدة من أخريات…واحدة لك…واحدة لأسرتي…واحدة لنفسي..وواحدة للآخرين..» ص277.
بهيجة فتاة متمردة في طبعها، رافضة لواقعها من أجل ركوب المستحيل بهدف تحقيق مصلحتها ولو على حساب سمعتها، لا تأبه بالآخرين ولا تنساق للتقاليد والأعراف. وتمردها هذا ناتج عن ظروف التربية والنشأة وكذا الوسط المحيط، بالإضافة إلى عدم النضج المعرفي وعدم الثقة في النفس.
لم تمض على علاقة صالح ببهيجة سوى خمس سنوات وسبعة أشهر، حتى أصبح صالح بسببها عرضة للسخرية من طرف كثير من معارفه وأصدقائه. خاصة وأن صديقه محمد سبق وأن صاح في وجهه بقوله : «إن بهيجتك بغِي يا صالح.» ص220. فطلب منه الابتعاد عنها في أقرب وقت.
وفي «مغارة الأدهم» عنوان الفصل الأخير من الرواية، حيث كان يجتمع أولئك الذين وصفهم كاتب الرواية في إهدائه بقوله « إلى كل من طالهم التهميش والإقصاء والتشرد بسبب التطاول على حقهم …إلى المهمش والمقصي والمشرد ظلما…» ص 5 ، والذين وجد فيهم صالح ضالته كلما حاول الهروب من واقعه المر. فكان يحاورهم ويجادلهم خاصة وأنهم كانوا يخوضون في مواضيع كثيرة تجمع بين ماهو ثقافي وسياسي واجتماعي وديني وهزلي بعد معاقرتهم لكؤوس من الخمر…في هذه المغارة كانت لصالح مع أصحابه آخر ليلة بالحاضرة، حيث من ثم قصد فندق «نوفيلتي» ليستريح به حتى العصر، بعد ذلك سيلملم أغراضه ليقصد المحطة تاركا وراءه هذه المدينة بكل ما فيها إلا من قلب جريح وضياع ميراث. وعند خروجه من الفندق سلمه المكلف بالاستقبال ظرفا به رسالة تركتها له «مدام فلورنس» صاحبة نزل إشبيلية مؤكدة فيها، أنه في حال عودته ولم يجدها فهناك صندوق صغير قد تركته له بنفس الغرفة التي كان ينزل بها، فيه وثائق مهمة تخصه، كما طلبت منه السؤال عن أخت له تدعى هي الأخرى بهيجة. ولما تسلم الظرف خبأه في حقيبته بنية قراءته حين يصعد الحافلة التي ستقله إلى شمال المغرب،
وبهذا تنتهي فصول الرواية.

ثانيا : الزمان والمكان

أحداث الرواية يمكن تأطيرها زمنيا بفترة العقدين السادس والسابع من القرن الماضي، وذلك في بناء سردي ينم عن ذاكرة جد قوية من الكاتب النيني الذي استطاع أن يُطَوق كل جزء من الرواية بشخوص وأماكن وأحداث تتفاعل في ما بينها بواقعية مفرطة، مما يسهل على القارئ الإبحار عبر الزمن ليصبح شاهدا متفاعلا أكثر مما هو قارئ، موقظا بذلك في دواخله حنين الماضي بألوان فاتحة لم يعد لها أي رابط بألوان الحاضر التي لم تمهلها سرعة الزمن من التبوث والاستقرار لتشكيل واقع طبيعي. فزمن أحداث الرواية كان كل شيء فيه يُشَكَّلُ بنضج وروية وبنوستالجيا غير عادية. زمن يسمح بأخذ ما يكفي من الهواء وما يكفي من أشعة الشمس وحتى من محبة الأهل والصحاب، وهذا لا يعني أن الزمن لم تكن له قيمة بقدر ما أنه كان يكفي ويشفي، عكس ما نحسه الآن من تسارع يكاد يكون غير منطقي. ثم من خلال مجريات أحداث الرواية نرى وكأن شخوصها هم من يتحكمون في زمنهم ليل نهار، بل منهم من جعل ليله نهارا ونهاره ليلا. قد يكون زمن مجايلي زمن الرواية جميلا بمنظور من هم لازالوا على قيد الحياة. الذين يحنون إلى استرجاع ما لا زال راسخا وحاضرا في الذاكرة من صور حياة ذاك الزمن، سواء من خلال بعض الأماكن التي عفا عنها الزمن من قبيل سينما «سيني فوكس» وبناية «السانديكا» وأماكن أخرى لا تزال شاهدة كانت تنبض بالحيوية والحياة، وكثير من الذكريات كنزل اشبيلية وسوق الإثنين وسينما «أطلس» وسينما «الملكي» ومقهى لمداسني ومعامل تصبير السمك و»كاكس» لتوزيع الماء الصالح للشرب وساحات الفرجة والاحتفالات…وغيرها، علما بأن «الصور الجديدة في ألبوم الذاكرة لا يمكن لها أن تمحو الصور القديمة»*1. وهكذا فالأمكنة عند الكاتب النيني بحمولتها التاريخية والاجتماعية والثقافية لها من الرمزية ما يخولها القيام بتشخيص قسط كبير من البطولة عبر جدلية الوجود والهوية، حيث يصبح للمكان ذاكرة بل كيانا حيا له روح وقلب ويبادلك نفس الأحاسيس، فيصبح بذلك عنصرا مساهما وبشكل رئيسي في بناء الحدث التاريخي وركيزة أساسية لتثبيت المتن الروائي.

ثالثا اللغة السردية :

العناوين الرئيسية لفصول رواية «بهيجة وأخواتها» تكاد تبدو وكأنها غير قابلة للتأويل إلا أنه بإمكان القارئ أن يتناولها من عدة أوجه تأويلية، نظرا لما تزخر به من حمولة تاريخية بالإضافة إلى ما حَمَّلها الكاتب من تراكمات حياتية، خاصة وأن جلها إما هو أسماء أماكن مثل محطة الحاضرة / نزل إشبيلية / السوق الخانز
سانية الجمرة / حي الكورس/ قرية الذهب / تراب الصيني / طريق الجرف ومغارة الأدهم، أو أسماء شخوص رئيسية في الرواية مثل بهيجة وزينب وأبو الشتاء. أضف إلى ذلك الأسلوب السردي المشوق، المدموغ بعربية فصيحة سهلة الفهم تخللتها قفشات عامية في محطات معينة كان لابد منها كي تكتمل الصورة. كما أن الكاتب بأسلوبه هذا عرف كيف يزيح عن المتلقي عبء القراءة وتعب التركيز بنصب باحات للاستراحة والترفيه هي عبارة عن كبسولات حكائية إنسانية لها من الأهمية ما يفيد في البناء السردي للرواية، بحيث كان لابد من دمجها كي تكتمل صورة المتن الروائي، من قبيل «حكاية مي زهرة»و» حكاية محفظة لمقدم» و»حكاية المكي»و»حكاية اشلومو اليهودي الأحدب»و»حكاية الداقنة والخميسة» و»حكاية سلام أستاذ المعهد العالي»…وحكايات أخرى زادت المتن إمتاعا وتشويقا، كما أنها أطرت كل العناصر المكملة للحدث الرئيسي للرواية عكس الكتابات الروائية التقليدية التي تكون سجينة المقدمة والعقدة والخاتمة.
ما أثار انتباهي وأنا مسترسل في قراءة هذا المتن الروائي، أنه غني ب «بهيجات» فهل لكل بهيجة عالمها الخاص؟. أم أنها بهيجة واحدة تتكرر في ذوات متعددة؟. هذا بالإضافة إلى روعة التخييل حيث نجد كثافة الأفكار والمعلومات التي توثق لمواقع وشخصيات بشكل دقيق وممنهج، وفق مسار تاريخي طبع الخريطة السياسية المحلية لحاضرة المحيط. توثيق يوقظ في خوالج القارئ نوستالجيا للأمكنة والمواقع بشخوصها، مستنطقا بذلك سيميائية جغرافية لها من الرمزية ما يثير أحاسيس الذاكرة ويجعل القارئ بالفعل يسافر عبر الزمن، بينما هو في خضم تمتعه بقراءة رواية «بهيجة وأخواتها».

الهوامش.

*1 – قراءة نقدية في رواية-شارع الحرية- للكاتب إبراهيم اليوسف
جبر الشوفي.
قناة الحوار المتمدن.