جديد الأستاذ الطيب أجزول

النظام الإداري والمخزني المحلي
في ظل الحماية الإسبانية

 

ظل موضوع دراسة البنيات الإدارية التي انتظمت في إطارها حياة المغاربة خلال عهد الاستعمار، مجالا أثيرا للبحث وللتوثيق وللاستثمار الأكاديمي. وإذا كان هذا المجال قد عرف تدفقا غزيرا للأعمال القطاعية التي اهتمت بالمنطقة التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي، مثلما هو الحال مع الدراسات الرائدة للأستاذ عبد الحميد احساين. وإذا كان المجال -كذلك- قد عرف غزارة ملحوظة بالنسبة للوضع الإداري لمنطقة طنجة الدولية، مثلما هو الحال مع أعمال الرائدين عبد العزيز خلوق التمسماني ومحمد الأمين البزاز، فإن المنطقة الخليفية التي كانت خاضعة للاستعمار الإسباني لم تنل إلا اهتماما محدودا جعل الموضوع في حاجة للمزيد من البحث ومن التوثيق. فباستثناء الأعمال التأسيسية لرواد الكتابة التاريخية بالشمال من أمثال أحمد الرهوني ومحمد داود والتهامي الوزاني ومحمد المرير، وباستثناء الدراسات القطاعية لمؤرخي الزمن الراهن من أمثال محمد ابن عزوز حكيم وعبد المجيد بن جلون وعبد العزيز السعود ومحمد العربي المساري، لا نكاد نجد إلا أعمالا متفرقة، إما في شكل دراسات موزعة ومرتبطة بمواضيع عامة، أو أطاريح جامعية لم تستطع تغطية الموضوع في أبعاده العلمية والأكاديمية المعروفة.
لذلك، فإن صدور كتاب «النظام الإداري والمخزني بتطوان في عهد الحماية الإسبانية (1912-1956)»، للأستاذ الطيب أجزول، خلال سنة 2021، في ما مجموعه 213 من الصفحات ذات الحجم الكبير، يشكل إضافة هامة لمجال البحث في تاريخ البنيات الإدارية المزدوجة، الاستعمارية والمخزنية، التي أطرت الوجود الاستعماري وأنساق حياة المجتمع بمدينة تطوان ومعها عموم المنطقة الخليفية خلال عهد الاستعمار. لا يتعلق الأمر بنبش نوسطالجي مهووس بمعالم توهج المكان في الذاكرة الجماعية، ولا بكتابة تسجيلية صرفة، ولا بتدوين تقني جاف، بقدر ما أنه عمل قطاعي مؤسس يعيد تقليب خبايا الأجهزة الإدارية لمغرب الاستعمار الإسباني انطلاقا من تشريح البنى الإدارية لمدينة تطوان التي جعلها الاستعمار الإسباني عاصمة سلطاته ببلادنا. لقد اقتنع الأستاذ جزول بأهمية العودة للتوثيق للنظام الإداري المخزني بتطوان، بالنظر لدور هذا التوثيق في فهم مجمل التطورات المحلية التي صنعت ريادة مدينة تطوان داخل عمقها الجهوي وداخل امتدادات هذا العمق على المستويات الوطنية والدولية الواسعة، خاصة بالنسبة لأداء النخب المحلية وانخراطها في إنتاج قيم العطاء والتميز والمبادرة، ليس فقط داخل المنطقة الخليفية، ولكن على امتداد كل جهات الوطن. ولعل هذا ما اختزله المؤلف بشكل دقيق في كلمته التصديرية عندما قال: «يهدف هذا الكتاب إلى تسليط الضوء على النظام الذي كان قائما في هذا المنطقة على ازدواجية السلطة وممارستها من جانب السلطات الإسبانية، برئاسة «المفوض السامي»، أو «المقيم العام»، ومن جانب الحكومة الخليفية، برئاسة الصدر الأعظم، تحت إمرة الخليفة السلطاني، علما أن عدة شخصيات وأقطاب بارزة في الحركة الوطنية قد تولوا مناصب مخزنية في الحكومات الخليفية المتعاقبة في هذا العهد، كالحاج عبد السلام بنونة، والزعيم عبد الخالق الطريس، والفقيه محمد داود، وغيرهم. ومن هنا كانت الرغبة في إعداد هذا الكتاب، لعله يضيف إلى الرصيد التاريخي المغربي مرجعا يساهم في التعريف ببنية مختلف الأجهزة الإدارية السائدة في هذا العهد، مما قد يساهم في تجاوز الخصاص الملاحظ في هذا المجال…».
تتوزع مضامين الكتاب بين ثمانية فصول متكاملة، اهتم المؤلف –فيها- بتقديم نبذة عن الجهاز الإداري المخزني قبل الحماية، وعن معالم ازدواجية السلطة الإدارية في عهد الحماية الإسبانية، وعن تركيبة الجهاز الإداري لسلطات الحماية الإسبانية، وعن مهام الخليفة السلطاني وتوزيع مرافق إدارته، وعن مكونات إدارة الحكومة الخليفية بتطوان، وعن اختصاصات الإدارة المحلية بتطوان في عهد الحماية. وبموازاة هذا التدقيق التصنيفي، اهتم المؤلف بالتعريف بمعلمة «الفدان» باعتبارها فضاءً ظل يشكل ملتقى للجاليات المختلفة ومركزا للسلطة الإدارية المزدوجة. وختم الأستاذ أجزول عمله بتقديم فصل تشريحي لنمط الوثائق المخزنية التي كانت تصدر بتطوان خلال عهد الحماية.
ولتعزيز عمله، سعى المؤلف إلى استثمار عطاء البيبليوغرافيا المحلية المتخصصة في ماضي مدينة تطوان، سواء منها المؤسسة والمنتمية للنصف الأول من القرن 20، أم المجددة والمنتمية لزماننا الراهن. كما انفتح على رصيد ثري من الوثائق المخزنية والصور الفوتوغرافية والجداول الإحصائية والخطاطات التركيبية والتدقيقات الطوبونيمية والفهارس التفصيلية، مما أضفى على العمل صبغة علمية رفيعة لا شك وأنها تشكل أرضية ملائمة لتوسيع حلقات الدراسة الخاصة بتحولات أوضاع منطقة الشمال المغربي في ظل الاستعمار الإسباني.
ولعل من عناصر القوة في هذا العمل، نزوع المؤلف نحو توسيع حلقات بحثه وتنقيبه قصد ربط أنساق الجهاز الإداري والمخزني في تطوان بمجمل التطورات التي كانت تعرفها المدينة وعموم المنطقة الخليفية. في هذا الإطار نجد تتبعا كرونولوجيا دقيقا لوقائع أهم الأحداث التي عرفتها المدينة والمنطقة في ظل الحكومات الخليفية الخمس التي تعاقبت على المخزنية بالشمال. ونتيجة لذلك، أصبحت مضامين الكتاب تشكل نافذة للانفتاح على قضايا حيوية في تاريخ الاستعمار الإسباني، وفق رؤى تعيد ربط أوجه العلاقات القائمة أو المفترضة بين الأجهزة الإدارية والمخزنية من جهة، وبين مجمل تطورات الأوضاع بمدينة تطوان والمنطقة الخليفية من جهة ثانية. وعلى هذا الأساس، أمكن إعادة مقاربة قضايا غزيرة ارتبطت بهذه التطورات، مثل ظروف اندلاع مقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي بالريف، ومآل أحمد الريسوني في سياق تقلب علاقاته بالإسبان، وظروف ميلاد التنظيمات الحزبية الأولى بالشمال وعلى رأسها حزب الإصلاح الوطني وحزب الوحدة المغربية، ومعالم تبلور عطاء النخبة التحديثية التي حملت مشروعا مجتمعيا فريدا وسابقا لعصره، جسده الحاج عبد السلام بنونة ورفاقه…
باختصار، تتجاوز معالم استثمار خصوبة النبش الوثائقي الذي يقدمه الأستاذ الطيب أجزول، مجال التدقيق التقني في مكونات النظام الإداري والمخزني الذي انتظمت في إطاره شؤون المنطقة الخليفية، إلى مستوى إثارة نهم الباحثين المتخصصين من أجل سبر الموضوع، وفق رؤى تسعى إلى سد الثغرات القائمة، وتجاوز عقم الأطاريح المسماة «جامعية»، «السريعة» واللاهثة خلف «الديبلوم»، والتي أصبحت تعج بها ساحة النشر .


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 13/12/2021