جديد الاشتغال على التراث الإسطوغرافي المغربي

«تلخيص ما عليه المُعول في أخبار من بالمغرب من الدول»

 

صدر كتاب «تلخيص ما عليه المُعول في أخبار من بالمغرب من الدول» لمؤلفه عبد القادر بن محمد بناني، سنة 2019، بدراسة وتحقيق للأستاذة فطيمة الكنوني، في جزأين مستقلين، وذلك في ما مجموعه 578 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويمكن القول إن صدور الكتاب يشكل ثمرة جهد شاق بذلته الباحثة الكنوني في الغوص بين ثنايا التأليف، قصد إنجاز عملية تحقيق تحظى بمواصفات أكاديمية محترمة. لذلك، يشكل الكتاب إضافة هامة في مجال الاشتغال على البيبليوغرافيات المغربية الكلاسيكية، ليس -فقط- من زاوية التخريج والنشر، ولكن -أساسا- على مستوى تفكيك مضامين المتن، وإعادة تشييد عوالمه المتداخلة. لم يكن الأمر سهلا ولا يسيرا بالنسبة للباحثة الكنوني، فقد سلخ من عمرها أربع سنوات من العمل المتواصل، في شكل كتابة ثانية لمضمون المخطوط، بالاستقراء وبالضبط وبالتنقيح. وإذا كانت مضامين الكتاب تنهل من رصيد الإسطوغرافيات التقليدانية المتوارثة مثل «الاستقصا» و»الجيش العرمرم» و»نشر المثاني» و»مناهل الصفا»، فالمؤكد أن نفض الغبار عن الخبايا الفريدة للكتاب يعيد الكشف عن عناصر التميز التي هيمنت على الصفة الرئيسية للكتاب. وتوضح الأستاذة الكنوني هذا الملمح العلمي الأصيل في كلمتها التصديرية عندما قالت: «تأتي مشروعية تحقيق مخطوط «تلخيص ما عليه المُعول في أخبار من بالمغرب من الدول» لعبد القادر بناني كونه يهم تراث أمتنا المغربية ويلقي الضوء على تاريخها العريق، وهو يدخل في مرحلة التأليف في تاريخ المغرب ككل… ويتميز أيضا بالشمولية والإحاطة، لكونه غطى فترات تاريخية مختلفة من التاريخ المغربي، وبالضبط أحداثه السياسية. إن هذا النص جديد لم يدرس من قبل، وبالتالي يستحق أن يتوجه إليه الاهتمام، وسيضيف الجديد في ما يخص التاريخ المغربي، نظرا لتناوله لأحداث تاريخية خاصة بالمغرب وتتعلق بفترات تاريخية مختلفة، من عهد الأدارسة إلى غاية الدولة العلوية مع تخصيص حيز كبير لهاته الأخيرة، ثم إن «المُعول» تناول أحداثا هامة من عهد السلطان عبد العزيز لم تطرح في المصادر السابقة له. وأخيرا، فإن الباحثين الذين تحدثوا عن «المُعول»، أشاروا فقط إلى الجزء الثاني من المخطوط، بينما بقي الجزء الأول مجهولا لدى الباحثين…».
استطاعت الأستاذة فطيمة الكنوني تقديم عمل جاد، لتصنيف تاريخي يكتسي أهمية كبرى بالنسبة لتاريخ المغرب المعاصر، وخاصة بالنسبة للمرحلة التي عاش فيها المؤلف، وأعني – في هذا المقام- مرحلة حكم السلطانين الحسن الأول وابنه عبد العزيز، وهي المرحلة الممتدة بين سنتي 1873 و1908. لقد عايش المؤلف وقائع هذه المرحلة، وقدم بخصوصها الكثير من المعطيات والتفاصيل من موقعه كشاهد عيان، مما أثمر سردا دقيقا يوفر الأرضية الخامة لاشتغال الباحثين والمؤرخين. وعلى مستوى آخر، استندت كتابته التأريخية للمراحل السابقة عن الفترة المذكورة، إلى انفتاح شامل على أمهات المصادر المغربية العربية ذات الصلة بتعاقب الدول المغربية من عهد الأدارسة إلى عهد العلويين. وفي ذلك، ظل سرده وفيا لمنطلقات الاشتغال الإسطوغرافي التقليداني وخاصة على مستوى نقل المرويات وتوظيف الجزئيات، مما ينسجم مع طبيعة الموقف الفكري والوظيفي الذي حملته النخب التقليدية تجاه علم التاريخ وتجاه أدواره في توجيه أحداث الزمن الراهن.
لا يتعلق الأمر بانزياحات منهجية مرتبطة بضوابط الكتابة التاريخية الكلاسيكية، بقدر ما أنها استلهام لحصيلة المنجز السابق من أجل تقديم متن يعتمد عنصر التحيين والاستثمار المرتبط بشروط الواقع. ولعل مما ساعد على خلق التوازن الضروري في مضامين السرد، قوة التحقيق العلمي الذي اعتمدته الأستاذة فطيمة الكنوني، من خلال سلسلة توضيحاتها الواردة في الهوامش على مستوى ضبط السياقات، والتعريف بالمصطلحات التاريخية، وشرح الأعلام البشرية والجغرافية، والتنبيه لبعض ما اكتنفه الغموض أو الاضطراب أو عدم الدقة، إضافة إلى سلسلة الفهارس التي أغنت العمل وأضفت عليه قيمته العلمية الرفيعة، خاصة بالنسبة لفهارس الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، والأعلام البشرية، والبلدان والأقطار والمدن، والأمم والشعوب والقبائل والأسر والجماعات، والمصطلحات الحضارية، والكتب المذكورة في المتن، والجبال، والأماكن والأحياء والمنشآت، والمؤسسات الدينية والتعليمية، والأديان والفرق والمذاهب، والوقائع والأيام، والظواهر الطبيعية والكوارث، والوثائق والظهائر والرسائل، والأشعار.
يتعلق الأمر بجهد تنقيبي هائل يبرز مكانة فعل التحقيق ووظيفته في إضفاء البعد الإجرائي الأكاديمي الأصيل على كل محاولات التعاطي مع المخطوطات ومع النصوص الكلاسيكية، مما يتطلب جهدا كبيرا وخبرة وافية لا يمتلكهما إلا من خبر دهاليز البحث العلمي وقيمة فعل التحقيق. ولعل هذا ما انتبه إليه الأستاذ صلاح بوسريف في كلمته التقديمية للكتاب عندما قال: «لا يمكن أن نعتبر المحقق مجرد ناقل، أو ناسخ لما قيل وأُملي أو كُتب، بل إن عمل المحقق فيه إبداع، وفيه جهد وشقاء، لأنه بحث في أكثر من مصدر ومرجع، وبحث في أكثر من حقل من حقول المعرفة، ففي الكتاب المحقق تتصادى وتتنادى كتب ونصوص كثيرة، لا يمكن التغاضي عن دورها في إزالة كثير من حجب اللبس والغموض، سواء أكانت في الفقه، أو في اللغة، أو الأدب والشعر، خصوصا، أو في الجغرافيا، فهي تكون بمثابة كشاف وديدن في بناء النص المحقق، وإعادة ترميم ما فيه من فراغات وشروخ وتصدعات، بحكم عامل الزمن، وأيضا، ما قد تكون هذه الوثيقة تعرضت له من نسيان وإهمال، وتلف بعض أجزائها، أو امحاء أسطر وكلمات، وغيرها من الأمور التي جرت على كثير من المخطوطات القديمة، التي ضاع الكثير منها، وتلاشى…» (ص ص. 7-8).
لذلك، فمهمة التحقيق تظل في غاية الصعوبة، تتطلب الكثير من الصبر ومن الجهد ومن الأناة ومن التقصي. ويبدو أن الأستاذة فطيمة الكنوني قد نجحت في امتلاك ناصية هذه المهمة، مما أثمر هذا العمل المتميز الذي يشكل إضافة نوعية لمجال تراكم البحث التاريخي الوطني المعاصر. وللاقتراب من معالم السقف العلمي الذي اعتمدته الأستاذة الكنوني في عملية إعادة بناء السرد في تلازم مع «تدخلها» في السياقات والتفاصيل عبر سلسلة الهوامش، يمكن أن نستشهد بفقرة -على سبيل المثال لا الحصر- تهم حديث المؤلف عن تحرير السلطان المولى إسماعيل لمدينة أصيلا سنة 1690م. ففي ذلك اختزال لأبرز المواصفات المنهجية التي حددنا معالمها أعلاه. يقول المؤلف:
«ـ فتح أصيلة:
ثم وجه أيضا، جيشا لحصار ثغر أصيلة (في الهامش: حاصر المجاهدون النصارى الذين بأصيلا سنة كاملة فطلبوا الأمان فأمنوهم على حكم السلطان. فلما لم يطمئنوا لذلك، ركبوا سفنهم ليلا ودخل المسلمون المدينة فملكوها وذلك سنة 1102ه/1690م. الاستقصا 105/6 ط 2001)، فحاصرها سنة ( الهامش: ذلك أنه بعدما اشتد الحصار على النصارى بأصيلا، طلبوا الأمان، لكنهم لم يثقوا في ذلك الأمان، فركبوا سفنهم ليلا ورحلوا إلى بلادهم. (الاستقصا 6/105 ط 2001) إلى أن فتحت سنة اثنين ومائة وألف (الهامش: الموافق ل1690م)، كما أشار إليه الناظم في قصيدته بقوله: /98أ/
ومرسى أصيلا من هوى فرط حبها تجر ذيول التيه مثل الكواعــــب
فلله يا لله ملك لنــــــــــــــــــــاصر تجلى على التأييد فوق الحواجب
تطاول في ميز وعدل حكومـــة فطال ولكن في شريف المناصب (ص.341).
وعلى هذا المنوال، ينساب السرد، ليجمع بين حقول معرفية شتى، لعل أبرزها التاريخ والشعر والأدب، مما ينسجم مع منطق اشتغال عقل المؤرخ التقليدي الموسوعي. يتكامل هذا المنطق مع إواليات فعل التحقيق، ليقدم مادة علمية تكتسي كل عناصر الإثارة والتجديد بالنسبة للباحثين وللمؤرخين المتخصصين.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 23/01/2023