جديد البحث التاريخي المحلي … «لُمع» التاريخ التي تضيء سماء مدينة القصر الكبير

استطاعت جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير ترسيخ نهجها الفعال، في مد الجسور بين العمل المدني والجمعوي المبادر من جهة، وبين توفير المواد الارتكازية للارتقاء بالمعرفة العلمية بتاريخ مدينة القصر الكبير وعموم شمال المغرب من جهة ثانية. ويمكن القول إن هذا الجهد الفريد والممتد في الزمن، قد جعل من الجمعية إطارا لصقل الاهتمامات ولتطوير الإرادات ولاستثمار الزخم المرتبط بفورة التأصيل لمشاريع التنمية الثقافية الراشدة، الأصيلة، المبادرة، والمجددة. ونتيجة لذلك، عرفت سنة 2021، نزول سبعة عناوين من إصدارات الجمعية المتنوعة في مواضيعها وفي قضاياها، والمتكاملة في هوسها بالاحتفاء بمعالم التوهج الذي طبع الهوية الثقافية والحضارية لمدينة القصر الكبير على امتداد العهود الزمنية الطويلة الممتدة.
على رأس هذه الإصدارات السبعة، نجد الجزء الثالث من كتاب «لُمع من ذاكرة القصر الكبير» الذي أشرف على إعداد مواده الأستاذان محمد العربي العسري ومحمد أخريف، وصدر في ما مجموعه 311 من الصفحات ذات الحجم الكبير، احتوت مواد متنوعة اختارت المجلة إهداءها لروح المرحوم عبد القادر وية. ولقد حرصت الجمعية على الوفاء للرؤية العامة التي وجهت العمل الذي أثمر الجزأين الأول والثاني، سواء على مستوى التبويب العام للمضامين، أم على مستوى شروط انتقاء المواد الصالحة للنشر وإخضاعها لعمليات المراجعة الضرورية والكفيلة بالحفاظ على عنصري الجدة والجودة في كل ما تنشره الجمعية من أعمال وندوات وإسهامات وتنقيبات. في هذا الإطار تقول الكلمة التقديمية للكتاب: «في سنة 2012، أقدمت جمعية البحث التاريخي والاجتماعي على تجربة جديدة في مجال الإصدارات، حيث عمدت على نشر كتاب جماعي جل بحوثه ومقالاته كانت بأقلام أعضاء من الجمعية، اختارت له من الأسماء «لُمع من ذاكرة القصر الكبير (1)». ولقي الكتاب عقب صدوره اهتماما لافتا عند عموم القراء والباحثين، داخل المدينة وخارجها. هذا الاهتمام حفز الجمعية على مواصلة السير في الطريق الذي خطته لنفسها، وبدأ التفكير في توأمة لمع (1) بعمل جديد على شاكلته، يلبي طموحات الجمعية ويعزز رصيدها المعرفي. وهكذا، وفي سنة 2018، ستنشر الجمعية (لُمع 2) متضمنا بحوثا ودراسات قيمة، لم تقتصر في هذه المرة على إسهامات أعضاء الجمعية، بل امتدت لتشمل مشاركة باحثين أكاديميين، عززوا، مشكورين، بإسهاماتهم عمل الجمعية… ولم يقف طموح الجمعية عند هذا الحد، بل أخذت تتطلع إلى نشر عمل جماعي جديد، يساهم في إغناء الحركة الثقافية بهذه المدينة… فها هو (لُمع 3) بين يدي القارئ الكريم، وعبره سيلتقي بأسماء سبق له أن تعرف عليها في الكتابين السابقين، وفي الآن ذاته سيصادف أسماءً جديدةً لها مكانتها العلمية الموثوقة، وأخرى شابة تزخر بإمكانات واعدة… مما يعكس انفتاح الجمعية على كل الطاقات سواء داخل المدينة أم خارجها…» (ص. 7).
توزعت مواد الكتاب بين ملفات خاصة، وبين أبواب متنوعة بتنوع اهتمامات المساهمين في الكتاب وإن التقت جميعها في الاحتفاء بماضي مدينة القصر الكبير وبمعالم تراثها المادي والرمزي والثقافي، سواء منه القائم أم المندثر. ففي الباب الأول، خصصت الجمعية ملفا خاصا بالمرحوم عبد السلام القيسي، أحد أطر الجمعية وأحد أبرز وجوه العطاء الثقافي والتربوي والمعرفي بالمدينة. تضمن الملف تعريفا بمعالم السيرة العلمية والثقافية للفقيد، إلى جانب شهادات عميقة للأستاذين محمد العربي العسري ومصطفى الشريف الطريبق. كما تضمن الملف نبشا ثريا لعبد القادر الغزاوي حول ذخائر «المكتبة القيسية»، باعتبارها واحدة من بين أبرز المكتبات الخاصة بشمال المغرب، ثم قصيدة في رثاء المرحوم القيسي للشاعر عبد الرحمان الشاوش، وأعادت الجمعية نشر أبحاث غير منشورة للمرحوم عبد السلام القيسي، يتعلق الأمر بدراسته حول سيرة الولية الصالحة فاطمة الأندلسية، وبتقريره الخاص بالمعرض الذي احتضنته مدينة القصر الكبير حول المخطوطات والمصنفات الحجرية وذلك سنة 1973.
وفي باب «أبحاث ودراسات»، نشر عبد الرحمان الشاوش ترجمته لمادة توثيقية لخيسوس ف.صالا فرانكا، تحت عنوان «إطلالة على زمن مغربي إسباني غابر من 1941 إلى 1958». ومن جهته، قدم الأستاذ محمد أخريف نبشا تاريخيا وثقافيا عميقا حول فن زهجوكة بحمولاته الجمالية والإنسانية المتميزة، واهتم الأستاذ أبو الخير الناصري برصد تجليات الرحمة النبوية في الشعر المغربي الحديث من خلال نموذج ديوان «في غمرات النضال» لمحمد المهدي الطود. وفي مادته التأملية، قدم محمد العربي العسري تقابلا افتراضيا خاصا بتوأمة فكرية بين تمثال «الكاتب المصري» وبين شخصية سيد الكاتب «المصري» الذي يوجد قبره في حالة يرثى لها تعكس حالة الجحود المهيمن على تعاطينا مع معالم الضوء المشع في سيرنا الحضارية الماضية. واهتم أحمد الغرابلي في إسهامه، بتقديم تفاصيل حول الأبعاد التاريخية للقب الغرابلي الذي حملته إحدى أعرق العائلات التي استقرت بعدة مدن مغربية وعلى رأسها مدينة القصر الكبير. وعاد محمد العربي العسري في دراسته الثانية للتعريف بشخصيات فاسية استقرت في مدينة القصر الكبير. وقدم أحمد بن عبد العزيز بنعبد الله مادة تعريفية بشخصية الفقيه محمد العبراق القصري.
وفي باب «دراسات إسلامية»، نجد دراسة نقدية أعدها خليل المودن حول بعض ما جاء في كتاب «شعب الإيمان» للشيخ عبد الجليل بن موسى القصري، ثم دراسة لمحمد السباعي حول الأحكام الاعتقادية في محرر ابن عطية. وفي باب «كتابات إبداعية»، نشرت المجلة مادتين استرجاعيتين عميقتين للمبدع مصطفى يعلى، أولاهما تحت عنوان «النيارين»، وثانيهما تحت عنوان «دارنا عش ألفة وخلية حنين». كما نشرت المجلة نصا مسرحيا للمهدي زريوح استحضر فيه البعد الوطني في سيرة الشاعر أحمد قدامة، إلى جانب نصوص إبداعية، شعرا ونثرا، لكل من سمية نخشى، وخليل القدميري، وجمال عتو، ومصطفى الطريبق. واختتم الكتاب أبوابه، بسلسلة من المواد التوثيقية لأحداث ثقافية نظمتها أو شاركت فيها الجمعية المشرفة على إصدار الكتاب، إلى جانب أخبار توثيقية متنوعة وألبوم صور تاريخية لحفظ الذاكرة وللاحتفاء بعناصر توهجها.
وبذلك، يقدم كتاب «لُمع 3»، عناصر ثرية لا شك وأنها ثمرة جهود مسترسلة، نجحت جمعية البحث التاريخي والاجتماعي في التنسيق بينها وفي تثمينها، باعتبارها قيمة ثقافية أصيلة تشكل امتدادا لمعالم البهاء الثقافي والحضاري الذي طبع وجه مدينة القصر الكبير عبر تاريخها المديد.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 24/02/2022