جديد المؤرخ محمد أخريف موسيقى الفن الزهجوكي والجبلي

 

ظل التراث الموسيقي المميز لمنطقة جبالة بشمال المغرب منجما لا ينضب بالنسبة للباحثين وللمهتمين. كما أنه ظل مثار أسئلة مسترسلة بالنسبة لمؤرخي الزمن الراهن، في سعيهم نحو الاحتفاء بالتراث الرمزي الذي خلفته المنطقة على امتداد تاريخها الطويل. وإذا كان الحديث عن موسيقى زهجوكة التي طبعت التراث الثقافي المرتبط بطراوة الأرض وبأشكال التعبير المبدع عن الفرح الجماعي، وعن لحظات الانتشاء المشترك بعناصر الانفراج في علاقة الإنسان بذاته وبمحيطه وببيئته، قد ظل على هامش الكتابة التاريخية الكلاسيكية والمدرسية، فإن مرد ذلك إلى ما ظل يعتري هذا المجال من رؤى تبخيسية أنتجتها «الكتابات العالمة» تجاه مكونات التراث الرمزي غير المدون المرتبط بعطاء الأقاصي وبتجاربها الإبداعية وبتراثها الرمزي اللامادي. لذلك، فقد أضحت العودة العلمية للنبش في أسرار فن زهجوكة مطلبا أكاديميا رفيعا، انخرطت فيه أسماء وازنة، وتبلورت داخله إرادات متعددة الاختصاص ومتكاملة الرؤى ومتقاطعة الأفق في سعيها للتأصيل لمنطلقات الدراسة العلمية لتراث موسيقى زهجوكة المرتبطة بالقرية التي تحمل نفس الاسم، والواقعة على بعد حوالي 25 كلم شرق مدينة القصر الكبير بالشمال المغربي. يتعلق الأمر ب»قرية الطبالين والغياطين» التي ارتبط اسمها بالإبداع الموسيقي الجبلي المحتضن لفضاء العيطة الجبلية كما وقع ذكرها في مصنفات التاريخ المحلي، حسب ما أكده المؤرخ عبد الوهاب بن منصور في كتابه «قبائل المغرب»، عندما قال: «زهجوكة مشهورة بين قبائل جبالة بالرقص والغناء وتضرب بها الأمثال في ذلك…».
في سياق الاهتمام بتوجيه الجهد نحو تجميع وثائق ظاهرة زهجوكة بشمال المغرب، يندرج صدور كتاب «نظرات في موسيقى الفن الزهجوكي والجبلي»، للأستاذ محمد أخريف، ضمن منشورات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، خلال سنة 2022، وذلك في ما مجموعه 47 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. والعمل الجديد، تعزيز لمسار تجربة الأستاذ أخريف في مجال النبش في الذخائر الوثائقية الخاصة بماضي منطقة الشمال، وبأحواز منطقة اللكوس تحديدا، وداخلها حاضرة القصر الكبير. وعلى غرار التجارب السابقة للأستاذ أخريف في تجميع الوثائق الدفينة وإعادة فك طلاسمها وفك أسرارها، يقدم الكتاب الجديد نبشا مركزا، حرص فيه المؤلف على تقديم أرضية للبحث المونوغرافي المجهري حول فن زهجوكة وحول حمولاته الفنية والجمالية والتاريخية، وحول امتداداته الواسعة والرحبة المنفتحة نحو آفاق العالمية. يقول المؤلف في هذا السياق: «لقد تم اكتشاف الفن الزهجوكي ونقله من المحلية والوطنية إلى العالمية على يدي كل من الكاتب والموسيقي بريون جيسين والفنان بول بولز بعد التقائهما بالمرحوم الفنان محمد الحمري، فانتقل هذا الفن في البداية إلى مطعم ألف ليلة وليلة بمدينة طنجة بين سنتي 1953 و1956، على يد بريون جيسين والفنان محمد الحمري (الرسام)، حيث شغلا فرقة زهجوكة في هذا المطعم. وعندما جاءت (فرقة) الرولينغ الستون إلى المغرب…، قدم لها كل من جيسين والحمري بريان جونس الذي كان يريد دمج الصوت في الموسيقى وتسجيله. وقد تم (ذلك) سنة 1968. وتبعه فنانون آخرون في 1973. وفي سنة 1962، وعن طريق الفنانة السينمائية كاترين دونوف التي جاءت للمغرب لأخذ بعض الفرق الموسيقية والتراثية، اختير ضمنهم السيد عبد الرحمان العطار والفنان بوكر الخليفي العطار من زهجوكة، وذهبا مع المجموعة إلى باريس، ثم إلى نيويورك، ومنها إلى هوليود، ومنها إلى شيكاغو، فكان ذلك أول نقلة للتراث الجبلي الزهجوكي إلى القارة الأمريكية…» (ص. 21).
ولتفصيل الحديث عن الموضوع، اهتم المؤلف بتقديم معطيات عامة حول القضايا المؤطرة لموضوع نبشه. في هذا الإطار، اهتم بإبراز البعد التاريخي لموسيقى الفن الزهجوكي الجبلي، من خلال تقديم معطيات توثيقية حول مدشر زهجوكة بقبيلة أهل سريف، وحول الخصائص الثقافية والتاريخية والسياسية للفن المذكور، وحول ارتباط فن زهجوكة بالبعد السياحي والنفسي للمنطقة، معززا كل ذلك بشهادات بعض المهتمين والمؤرخين. وفي نفس السياق كذلك، اهتم الأستاذ أخريف بإبراز معالم إشعاع الفن الزهجوكي محليا ووطنيا ودوليا، مع التركيز على التعريف بالظهائر المخزنية ذات الصلة بالموضوع، وبالمصادر والمراجع التي اشتغلت عليه، وبأشكال انفتاح رواد موسيقيين عالميين وباحثين ومؤرخين متخصصين على خبايا هذا الفن الأصيل المميز لمعالم النبوغ الموسيقي لمنطقة جبالة. ولتوسيع مجال البحث، حرص الأستاذ أخريف على تقديم لوائح تصنيفية لشيوخ هذا الفن، ولنماذج من إيقاعاته وآلاته وبنياته الموسيقية وتركيباته الجمالية وأزجاله المميزة.
لقد أدرك الأستاذ محمد أخريف أهمية تجاوز مرحلة التلقي المنبهر بإيقاعات زهجوكة وبأنغامها الأخاذة، إلى مستوى تحويل هذه الإيقاعات وهذه الأنغام إلى مادة خام للبحث وللتفكيك، ولإعادة تركيب السياقات المرجعية والسرديات المؤطرة والمنطلقات الموجهة لنظيمة إنتاج القيم الإنسانية والرموز الجمالية والحمولات التاريخية المرتبطة بفن زهجوكة. لذلك، اعتمد المؤلف في هذا العمل التركيبي على استثمار نتائج أعمال تنقيبية سابقة اهتمت بالموضوع من منطلقات مختلفة وبرؤى متباينة، منها كتابات برتغالية تنتمي للقرن 15م وعلى رأسها كتابات المؤرخ البرتغالي برناردو رودريكيس، ومنها كتابات تنتمي لمطلع القرن 20 وعلى رأسها كتابات السوسيولوجي الفرنسي ميشو بلير، ومنها كتابات تنتمي لزماننا الراهن أنتجها باحثون ومؤرخون متخصصون من أمثال عبد الوهاب بن منصور، ومحمد ابن عزوز حكيم، ومحمد المغراوي، وحسن نجمي، وعبد الرحيم الجباري.
ويقينا إن هذا العمل التعريفي، وعلى الرغم من طابعه العام، فإنه يفتح المجال واسعا أمام جهود البحث من أجل توسيع دوائر الاشتغال على الوثائق الدفينة، سواء منها المخزنية أم المحلية، إلى جانب الأشعار الزجلية والمحكيات الشعبية والتصانيف البيبليوغرافية، من أجل مقاربة التراث الموسيقي لقرية زهجوكة، بأصوله العربية الواضحة المرتبطة بظروف استقرار القبائل العربية بمنطقة جبالة منذ القرن 12م، مع ما تلى ذلك من مؤثرات ومن أشكال للتلاقح وسمت هذا الفن الأصيل بميسمه الخاص في قلب منطقة جبالة.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 03/06/2022