جمعية «شروق الأصيل» تستأنف نشاطها الثقافي بتكريم الشاعر محمد عنيبة الحمري

 

بعد غيبة ليست بالقصيرة فرضتها جائحة كورونا، وبعد رحلة استشفائية شاقة ومضنية عادت بعدها ذ. بديعة أحماش رئيسة جمعية شروق الأصيل، بفضل من الله، سليمة معافاة، استأنفت الجمعية نشاطها الثقافي المتميز والمؤثر يوم السبت 26 نونبر 2022 بتكريم واحد من أهم رواد القصيدة العربية بالمغرب الشاعر محمد عنيبة الحمري، والاحتفاء بآخر إصداراته الشعرية «ترتوي بنجيع القصيد» وهو الإصدار الفائز بجائزة المغرب للكتاب، صنف الشعر، لهذه السنة.

جرت وقائع هذا اللقاء الأدبي البهي في قاعة الاجتماعات بمقاطعة سيدي عثمان / الدار البيضاء، وساهم في إحيائه ثلة من النقاد والباحثين المشهود لهم وطنيا وعربيا بالرصانة والعمق في تناول النصوص والتجارب الأدبية، وثلة من الشواعر المتميزات والشعراء المتميزين، وحضرته وجوه ثقافية وإعلامية بارزة في مشهدنا الثقافي والإعلامي.
اللقاء افتتح بكلمة ترحيبية للأستاذة بديعة أحماش، أعربت فيها، عن غبطتها لعودة الجمعية لاستئناف أنشطتها موضحة دواعي اختيار تكريم الشاعر محمد عنيبة الحمري، والاحتفاء بديوانه الأخير «ترتوي بنجيع القصيد»، وهي دواع لاتعود إلى فوز ديوانه بجائزة المغرب للكتاب بقدر ما تعود إلى المكانة الكبيرة التي يحظى بها هذا الشاعر في المشهد الشعري العربي منذ سبعينات القرن الماضي، وإلى القيمة الأدبية الرفيعة لتجربته الشعرية الفريدة بثرائها واستمرارها.
وبالنيابة عن رئيس مقاطعة سيدي عثمان المحتضنة لهذا اللقاء، ألقت نائبته حليمة فكري كلمة مقتضبة رحبت فيها بالمشاركين وبالحضور، وأعربت عن سعادتها باحتضان المقاطعة لهذا الحفل الثقافي المتيمز احتفاء بالشاعر محمد عنيبة الحمري، وبتبنيها استراتيجية واضحة تروم النهوض بالحقل الثقافي.
المداخلة النقدية الأولى قدمها كانت الناقد نجيب العوفي، وعنونها بــ: شاعر يرتوي بنجيع القصيد، استهلها بقراءة مستفيضة في عنوان الديوان الأخير لمحمد عنيبة الحمري، بدءا بالمعاني المعجمية لمفردات العنوان، ومرورا بدلالة حضور ضمير المخاطب فيه، ليجعل من هذه القراءة عتبة لولوج العالم الشعري عند محمد عنيبة الحمري، الذي اعتبره شاعرا عابرا للأجيال، بتجربته الشعرية الثرة، منذ ستينات القرن الماضي، تضعه جنبا إلى جنب مع كبار الشعراء المغاربة من أمثال أحمد المجاطي ومحمد الخمار الكنوني وعبد الله راجع، كما أنه أول شاعر عربي واجه «المد الغزلي النزاري» بديوانه الأول والمثير: (الحب مهزلة القرون)» مرهفا سمعه وشعره لوجيب تاريخه وشجنه، ورغم تجهّمه للحب في ديوان (الحب مهزلة القرون) أيام الماضي الساخن، فقد ظل الحب ساكنا ونابضا في شغافه».
المداخلة الثانية قدمها الناقد محمد العسري، وجاءت تحت عنوان: «امتداد الكتابة في ديوان ترتوي بنجيع القصيد»، استهلها بالتأكيد على أن فوز الديوان بجائزة المغرب للكتاب، صنف الشعر، يأتي تكريما «لشاعر داوم على نحت تجربة جمعت بين تأمل مزدوج في الذات الفردية والجماعية، وتأمل في الكتابة الشعرية نفسها وفي جدواها»، مضيفا أن رؤية محمد عنيبة الحمري للشعر انطلاقا من لغته الشعرية تروم التحرر من قيود الأسطورة والميثولوجيا والثوابت الاستعارية ومشيرا الى تحكم الشاعر في اللغة وإخضاعها للإيقاع الذاتي ولأجواء القصيدة، بدل الانصياع للواقع كما هو في الأسطورة والأشكال التعبيرية المتحكمة في وجهة القصيدة.
العسري وقف أيضا في قراءته للديوان على دمج الأنا بالكتابة بغاية إتاحة قراءة تنتبه للمعلن والمضمر في شعر محمد عنيبة الحمري، رابطا تحول قصيدة الحمري بأمرين: الأول؛ انفتاح التجربة على الكتابة باعتبارها موضوعا ومقصدا، والثاني يتجلى في بناء الشاعر للموضوع، ومساءلة هذا البناء وحدوده. وأشار العسري الى عناية الشاعر بشعرية المحو، باعتبار المحو ليس فراغا، وإنما تشكيلا لكيان شعري ينطوي على ما لا يُرى.
ثالث المداخلات كانت للناقد والكاتب سعيد منتسب، عنونها بــ: «تضميد الأشياء والأسماء»، واضعا الأصبع على مكمن قوة الشاعر محمد عنيبة الحمري، والمتمثلة في مناعة جهازه الشعري. مناعة ساعدته على إعطاء قصيدته «بعدا متفردا في تفاعلها مع الشعر والنثر في أرقى صياغاته» وحصّنها إفراغُ رأسه من الإيديولوجيا، كي يتفرغ لجنونه الشعري وحده. كما وقف الناقد عند تمرد الشاعر محمد عنيبة الحمري على المواضعات الجوفاء لدهاقنة «الحداثة الشعرية» وإخلاصه للشعر وحسب، لأنه شاعر «لايستوقد النار، لأنه هو النار نفسها.»
وقارب الناقد بإيجاز وبأسلوب شاعري، انفلات الشاعر محمد عنيبة الحمري وانعتاقه من أية تبعية، وكذا استعصاءه على التعليب والتحنيط. شاعر «متشوق دائما للإبحار»، متوقفا عند ذاكرة الحمري الرهيبة التي لاتنسى ولا يعلوها الصدأ، وعند محاربته الشرسة لــ «مصاصي دماء النصوص الذين يسطون على الدرر الغفيرة…».
سعيد منتسب كشف، أيضا، مظهرا مهما من مظاهر تجديد الشاعر محمد عنيبة الحمري لبنية القصيدة العربية والمتمثل أساسا في تفجير إيقاعها عن وعي وإرادة، وهو تجديد «لا ينصاع إلا للشعراء الحقيقيين الذين ترسبت في أعماقهم أصوات المعلمين الأوائل»، ليخلص في الأخير الى القول بأن شعر الحمري ليس «اقتراع كلمات»، بل حمضا نوويا يضاهي الحياة».
الشهادات التي قيلت في حق الشاعر الحمري، جميعها تقريبا من أصدقاء عاشروه لمدة طويلة، وعايشوا عن قرب تجربته الشعرية، وواكبوا مذهبه في الشعر ومسلكه في الحياة، كالدكتور محمد فراح، الذي اعتبر المحتفى به « الشعر يمشي على رجليه ويحترم قراءه ويصرخ في أعماقه «داء الأحبة»، والأستاذ جمال فكري، رئيس تحرير صحيفة «إفادة»، الذي أشاد بمكانة الشاعر المتميزة في المشهد الشعري العربي، معربا عن غبطته بهذا التكريم الذي يأتي ضدا على ثقافة الجحود التي هيمنت على الحقل الثقافي.
الشهادة الثالثة كانت للأستاذ المختار بومكنان، وفيها اعتبر أن الشاعر محمد عنيبة الحمري ظلمه كبرياؤه، وظلمه معاصروه، وأنه سيزيف الشعر المغربي الحديث، مارس القصيدة المعاصرة ولم يلبس عباءة شعراء الحداثة، ولم تقفز شاعريته على أصول الشعر العربي، ولم يتهافت على الجوائز.
الشهادة الأخيرة كانت للشاعر محمد عرش، وكانت تنويها صادقا بالشاعر محمد الحمري، وتبجيلا لتجربته الشعرية المتميزة، ولخصاله الإنسانية العالية، واستحضارا للحظات حميمية مشتركة، ولمواقف موسومة بالشهامة والوفاء.
اللقاء شهد أيضا تقديم قراءات شعرية وشارك فيها كل من: الشاعرة زكية المرموق، والشاعر التهامي شويكة، والشاعرة ثريا الغريب، والشاعر عبد الرحمان الغندور، والشاعرة بلقيس بابو، والشاعر حسن عبيدو، والشاعر محمد الحافظي (الجزار الأنيق). والجدير بالذكر أن الشاعر المحتفى به محمد عنيبة الحمري شنف أسماع الحضور بدرر من أشعاره الرائعة بين محطات اللقاء.
وكانت المناسبة طيبة للاحتفاء ببراعم من شبكة القراءة بالمغرب من الثانوية الإعدادية ابن حزم، تؤطرهم الأستاذة بشرى البكاري رئيسة فرع ابن مسيك لشبكة القراءة بالمغرب، تحفيزا لهم وتشجيعا، وأهداهم الشاعر المحتفى به بأريحية صادقة نسخا من ديوانه «ترتوي بنجيع القصيد» ممهورة بتوقيعه، ليكون ختام هذا الحفل الأدبي الراقي توقيع الديوان الفائز بجائزة المغرب للكتابوتقديم درع الجمعية للشاعر محمد عنيبة الحمري .


الكاتب : متابعة: عبد اللطيف الهدار

  

بتاريخ : 14/12/2022