«جمهورية القراصنة» : رحلة محمد الصديق معنينو المتجددة

«قراصنة سلا»، حركة «الجهاد البحري»، «جمهورية سلا»، جمهوريات مصب أبي رقراق»، «جمهورية القراصنة»،… تسميات متعددة لظاهرة تاريخية شغلت المهتمين بتحولات ماضي المغرب خلال فجر العصور الحديثة.
لم يكن حضور اسم مدينة سلا مجرد محطة منعزلة داخل متون الإسطوغرافيات الكلاسيكية، العربية الإسلامية والأجنبية، ولا مجرد تأريخ حدثي لمحطة اعتبرت مركزا بحريا اضطلع بوظائف اقتصادية وإدارية هامة على امتداد عقود القرن 17، بقدر ما أن الأمر أضحى يرتبط بمسار مجال جغرافي كان له دوره البارز في تحصين مناعة المغرب أمام موجة المد الميركنتيلي الجارف الذي عرفته أوربا خلال هذه المرحلة، وهو المد الذي تأجج مع تداعيات ظاهرة الغزو الإيبيري التي همت مجمل الثغور المغربية المتوسطية والأطلنتية، ثم ازداد خطورة مع استعار أجواء حروب الاسترداد التي خاضتها إسبانيا الناشئة ضد مسلمي الأندلس، سواء فوق شبه الجزيرة الإيبيرية أم فوق الأرض المغربية.
لقد تحول الموريسكيون إلى حطب هذه الحرب، بعد أن دفعوا ثمنا باهضا مقابل سعيهم لامتصاص إفرازات وصية إيزابيلا الكاثوليكية الشهيرة وإسقاطاتها الفظيعة على واقع تساكن الديانات السماوية الثلاث فوق المجال الأندلسي، بل امتد التأثير إلى العمق المغربي بعد استقبال أفواج متراتبة من ضحايا الوصية المذكورة، فبرزت مراكز حضارية استلهمت المأساة الموريسكية العميقة، وتمثلت القيم الأندلسية الرفيعة، واستوعبت شروط التحول في موازين القوى المنقلبة جذريا بين الضفتين الشمالية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. ولعل في تجارب مراكز مثل تطوان، وسلا، وشفشاون،… خير دليل على عمق التمثلات الجماعية التي حملها موريسكيو المغرب حول سياقات الطرد من «أندلس الأعماق»، وحول مخاطر المآل بعد الاستقرار بالأرض المغربية، ثم حول ضرورات تحصين الذات وشروط الانخراط في العصر وفي تعزيز الهوية الثقافية المركبة والمرجعية للمجتمع المغربي، الأمر الذي نجد له الكثير من الامتدادات العميقة في جزئيات الواقع المغربي إلى يومنا هذا.
لقد قيل الشيء الكثير عن موضوع المحنة الموريسكية، واهتمت الكثير من الأعمال بإبراز ملامح التحول المجتمعي بعد الاستقرار الموريسكي بالمغرب، إلى جانب التأثيرات الكبرى على التوازنات الجيوستراتيجية على المحيطين الإقليمي والجهوي للمغرب. لذلك، أضحى موضوع «قراصنة تطوان»، أو «قراصنة سلا»، مجالا أثيرا للبحث وللتنقيب، داخل المغرب وخارجه، وتضاربت والمواقف حوله بالنظر لمنطلقات الكتابة حول آثاره البعيدة بالنسبة لنسق التحول داخل بنية الدولة والمجتمع المغربيين خلال العصر الحديث. وازداد الأمر إثارة، بانفتاح قطاعات واسعة من الأوربيين على الموضوع قصد الاشتغال عليه بهواجس لا تخلو من رؤى مغرقة في مركزيتها، وفي تحاملها على البعد الجهادي الوطني الذي اكتنف ظاهرة «القرصنة البحرية» بالثغور المغربية التي استقبلت قوافل الموريسكيين. وإذا كانت العديد من الكتابات الأوربية قد سعت إلى خلق هالة من الإثارة ومن التحامل ضد هذه الظاهرة التاريخية، فإن مؤرخي المغرب المعاصر قد نحوا نحو تعزيز الانفتاح على هذا الموضوع، انطلاقا من رؤى بديلة متحررة من ضغط المرحلة ومن هواجس الانشغال بالرد على الأطروحات الكولونيالية ذات الصلة. وتعزز المجال بانفتاح باحثين ومهتمين من مجالات معرفية متعددة، شغلتهم عجائبية عوالم «قراصنة سلا» المثيرة، وسعوا إلى استثمار سيرها في أعمال توثيقية خالصة، أو في سرديات مستثمرة لتجاربها الإنسانية، وذلك من أجل بلورة إنتاجات إبداعية متعددة الرؤى والمنطلقات.
في سياق هذا التوجه العام، يندرج صدور كتاب «جمهورية القراصنة» للأستاذ محمد الصديق معنينو، مع عنوان فرعي: «سلا في القرن السابع عشر»، وذلك سنة 2020، في ما مجموعه 209 من الصفحات ذات الحجم الكبير. وعموما، يمكن القول إن هذا العمل الجديد يشكل تجسيدا للنزوعات المعرفية التي طبعت رصيد المنجز العلمي والفكري للأستاذ معنينو، من موقعه كإعلامي محترف، مهووس بدرس التاريخ وبالولع بالكشف عن خباياه، خاصة بالنسبة لتاريخ معشوقته الكبرى: حاضرة سلا العريقة. وبخصوص السياق العام الذي أفرز كتاب «جمهورية القراصنة»، يقول المؤلف في كلمته التقديمية:
«هناك فترات غامضة في تاريخ المغرب، رغم المحاولات العديدة لإلقاء الأضواء عليها، وتحديد معالمها، وسبر أغوارها… والكتاب… محاولة للتذكير بإحدى تلك الفترات التي طبعت تاريخ مصب نهر أبي رقراق، إبان ما عرف «بالقرصنة السلاوية»، وما عاشه ميناؤه من حركة نشيطة، سواء على مستوى التبادل التجاري أو النشاط الديبلوماسي أو القرصنة البحرية أو التنافس على السلطة والجاه… إنها من أغنى فترات تاريخ ما كان يصطلح عليه «بسلا» وهي تسمية توافق عليها المؤرخون والإخباريون… إنها تسمية ترمز في الحقيقة إلى التجمعات السكنية الثلاثة، المطلة على وادي أبي رقراق… أي سلا القديمة، الواقعة في الضفة اليمنى للوادي، ثم القصبة (أي قصبة الأوداية) وأخيرا رباط الفتح أي الرباط…» (ص. 7).
وللاقتراب من السقف المنهجي المتحكم في عمل «قبيلة المؤرخين»، سعى المؤلف إلى الانفتاح على رصيد هائل من الإسطوغرافيات التقليدية والدراسات العلمية التي اهتمت بأوضاع جمهوريات مصب أبي رقراق خلال القرن 17، حيث استطاع تجميع كم هائل من الوقائع ومن التفاصيل التي تحكمت في ميلاد «جمهوريات» مصب أبي رقراق، وكذا في تشعب أدوارها الكبرى على مستوى حفظ التوازنات الجيوستراتيجية بين الكيانات المغربية التي ورثت الدولة المركزية، في مواجهة القوى الإمبريالية الأوربية الصاعدة.
لقد استطاعت هذه «الجمهوريات» استثمار خبرتها الأندلسية الواسعة في الإدارة والاقتصاد وتدبير شؤون المعاش اليومي، إلى جانب ثقافتها وقيمها الموريسكية السامية، من أجل ملء الفراغ المؤسساتي للدولة المغربية خلال القرن 17، ولتقدم نموذجا متقدما في أشكال التدبير الناجح للسلط داخل المجتمع الواسع لمدينة سلا. وعلى هذا الأساس، استطاعت «جمهورية القراصنة» تقديم الإطار الناظم لمعالم التحول الحضاري الكبير الذي عرفته المنطقة، الأمر الذي انتبه له الأستاذ معنينو عندما اهتم بالتوثيق لتفاصيله الغزيرة، المرتبطة –بشكل خاص- بأشكال التنظيم الإداري والتدبير الاقتصادي والعمل الديبلوماسي والإبداع الثقافي، مما أمكن الاستدلال عليه بالكثير من النماذج المغربية والأجنبية التي ارتبط اسمها باسم «وثائق سلا»، مثلما هو الحال مع مجموع الأسماء التي اهتم الأستاذ معنينو بتقديم بطائق مركزة حول سيرها الذهنية المرتبطة بماضي سلا العريق، وأخص بالذكر في هذا المقام كلا من أحمد بن خالد الناصري، ومحمد بن علي الدكالي، وشارل دي فوكو، وكينيت براون، والكونت هنري دي كاستري…
وبذلك، نجح الأستاذ محمد الصديق معنينو في تقديم نبش دقيق أخلص لملمح التقصي لدى الإعلامي المحترف من جهة، ثم لنزوع الاحتفاء بالمكان لدى عشاق مدينة سلا من جهة أخرى. وفي كل واحد من المستويين المذكورين، ظل المؤلف يستند إلى عدة المؤرخ في تجميع مادته الخام وفي تصنيفها وفي نقدها وفي تقييمها، قبل الانتقال لاستثمارها في كتابة سردية شيقة أضفت قيمة مضافة على المضامين. والحقيقة، إن لغة الأستاذ معنينو استطاعت تكييف موضوع الكتاب مع شروط خلق «الدهشة المعرفية» لدى المتلقي، الأمر الذي جعل من الكتاب واحدا من بين أبرز الكتابات المونوغرافية المجهرية المشتغلة على الذاكرة الجماعية لمدينة سلا، سلا حاملة الحلم الأندلسي وباعثة الأمل الموريسكي، ومحتضنة طموح «قراصنتها» الذين صنعوا للأقاصي هيبتها، مدافعين عن سلامة البلاد، وصانعين تألقها الحضاري داخل عمقها المغربي الضيق، وداخل امتداداتها المجالية الواسعة بالفضاء المتوسطي وبعموم بلدان القارة الأوربية.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 05/07/2021