جوهرة الفنانة التشكيلية زهور الهيشو : رسائل نبيلة بإيحاءات لونية

حازت على المرتبة الثانية بإحدى المسابقات بلندن

 

في المساحة “جوهرة” للفنانة المغربية زهور الهيشو التي ازدادت و ترعرعت في قلب مدينة طنجة ، و تعيش حاليا في الرباط.فاللوحة هاته تحمل الكثير من اسمها.هي إسم على مسمى ، تختزل موهبة فنانة فذة ، وتزيح الستار عن تجربتها المستوحاة من أصولها الشمالية،القائمة على مرجعيات متعددة ، سواءكانت مغربية أو عربية أوأندلسية.إنها فسيفساء من الثقافات المختلفة ، تعبرعن شخصيتها المتفتحة و تشبثها أيضا بكل شيء أصيل، يميز هويتها ، من خلالها تبوح بأفكار صادقة غير مصطنعة ، تستمد عمقها من علاقاتها الشخصية التي نسجتها أثناء مسارها المهني الناجح ، قبل تقاعدها من منصبها كإطار سام في وزارة الاقتصاد والمالية ، واحتكاكها بنقاد وتشكيليين مغاربة وأجانب أثناء معارضها المتتالية ، ساهموا في صقل موهبتها ، مما جعل هذه القماشة بالذات ، تأخذ نفسا معاصرا ، تنطلق أساسا من التراث المغربي ، لتأخذ صبغة متجددة بلمسة تصويرية ، فيها شيء من الانطباعية ، تأخذ جماليتها من دقة التفاصيل المتعلقة بالشكل واللون ، وكذلك من خلفية مفتوحة ، غير موصدة ، عملت على إنشائها باستعمال مادة الجيسو لتمتص الأكريليك ، وتمنعه من التسرب بين خيوط القماش ، حفاظا على خشونته ، وأبت إلا أن ترسمها بأناملها لتشعربها وهي تلمسها ، حتى تقاسمها إحساسها وجزءا من ذاتها ، و قد عملت على أن يأخذ فيها اللون الرمادي الحيادي مساحة معتبرة ، ليمنح لمسة أنيقة وراقية للعنصر الأساس ، مندمجا مع أزرق يبدو بفعل ذلك داكنا يوحي بالغموض ، ويحيل إلى الجرأة والقوة ، و هي سمات مرتبطة بفنانة عصامية ، مثقفة ، وحاصلة على الدكتوراه في الاقتصاد ، تمثل نموذجا للمرأة المغربية المناضلة التي طالما رفضت القيود بكل أشكالها ، ومنذ زمان ، الأمر الذي جعلها لاتتردد في رسم عقد ، حرصت على أن يكون مفتوحا ، ليوحي بالحرية التي تنعم بها حاليا ، بعد نضال طويل ، و بروابط (maillons) تختلف فيما بينها من حيث الشكل و اللون والخامة ، تبدو للعين صلبة ، ومتماسكة ، تستمد متناتها من الأسر المغربية العريقة ، و تستلهم تسلسلها من الحقب المتتالية على مر العصور.
تتاعقب السنين و الأجيال ، ولكن بالنسبة لها ، يبقى حاضرا بقوة هذا التراث المادي الذي يتمثل أمامنا للتعبير عن الاعتزاز بالانتماء لهذا الوطن ، والافتخار بتميز أصالتنا المغربية ، و لذلك خصصت له من وقتها الكثير ، وأولته عناية فائقة ، وتفكيرا خاصا ليخرج إلى الوجود على شكل قوس ، يذكر بالعمارة المغربية ، و يشبه كذلك في تجلياته الحدوة أو الصفيحة التي تعتبر من أشهر الوسائل التي يلجأ إليها لتجنب الحسد ، وجلب الحظ خاصة وأن أسطورة تميمة الحصان تعود إلى بلاد الأندلس قديما ، مما جعلها مترسخة منذ عصور في أذهان المغاربة ، و جيرانهم المتوسطيين ، حيث لازالت في بعض المدن والقرى تعلق على أبواب بعض البيوت ، وفق اعتقادات تختلف باختلاف المكان والزمان.
تتعدد الأبعاد في هذه اللوحة ، وتجتمع المقارنات فيها والمفارقات أيضا ، لتمنحها القوة و عمقا يسافر بنا في الزمن ، و بطريقة فلاشباكية ، قصد استرجاع لحظة التخلي عن حلي ، رغم قيمته المادية والتاريخية ، وبعده الأسطوري ، لا لشيء ، إلا لأنه يذكر بذلك القيد الذي طالما طوق عنق المرأة المغربية ، ولذلك نادرا ما تجد في بعض الأحيان امرأة مثقفة ومتشبعة بالأفكار التقدمية ، تتزين به ، وكأنها بذلك تثور على تكريس مسألة الخضوع والانصياع ، و تشعر بالإهانة حين يتم تقديمه لها كهدية ، وذلك ما أشارت إليه المبدعة بجرأة كبيرة وبدون أي تحايل ، حيث عمدت على تقديمه بطريقة ، تجعله يبدو وكأن البعض من عناصره تطايرت بشدة التمزيق ، وقوته.و هذه التفاصيل الدقيقة هي التي تخلق الفرق ، إلى جانب أشياء أخرى منحت التميز و التألق لهذه التحفة التي حازت على المرتبة الثانية في مسابقة ، تم تنظيمها بلندن عام 2020 ، ليس باعتبارها آنذاك من بين أحسن الأعمال التشكيلية العربية من الناحية الجمالية فقط ، ولكن لكونها أيضا تختزل أفكار فنانة معاصرة ، ومتحررة ، تدعو لنبذ التقاليد البعيدة عن الأعراف ، والحفاظ على التراث الخالص ، وثقافة الأجداد ، المفعمة بنفحات روحية ، و تعمل على تمرير رسائل نبيلة بإيحاءات لونية ، غالبا ما ينبثق من درجاتها ذلك الضوء الذي يزيح العتمة ، وبواسطة إشارات مرئية واضحة ، غير مركبة ، في بساطتها جمالية تسر الناظرين ، وتصنع ذاك السهل الممتنع الذي يبحث عنه كل فنان من أجل التفرد من خلال أعمال تتجاوز المحدود ، على غرار هذه اللوحة التي تعج بالأبعاد ، على قلة عناصرها ، ومحدوديتها ، سيما وأنها جاءت لتخلق التواصل ببعدها التحفيزي ، يحث المرأة المغربية على المزيد من التحرر والاستمرار في التألق ، و الارتفاع والسمو على إيقاع رابطين طالما شكلا تلك القلادة ، جاء أحدهما بذلك الأصفر غير المريح ، والآخر بلون برتقالي سلبي ، تم قذفهما جانبا في زاوية عليا لتقديمهما وكأنهما ينفذان بطريقة عمودية في السماء ، في تحد واضح للجاذبية التي تسحب نحو الأسفل وكأن بالفنانة تريد لهما الاختفاء الأبدي ، ولا ينفض عنهما الغبار من بعد ، ومن خلالهما ثنائية الجبن و الخداع الملتصقة بالمرأة منذ القدم ، خاصة في بعض الثقافات الشعبية ، وقد تعمدت بذلك خرق القاعدة الفيزيائية ، لإضفاء صبغة انطباعية يشعربها المتلقي وهو يمسح رسما بطريقة عمودية ، تم تشكيله من حلقات صغيرة مختلفة الألوان ، والأشكال والأحجام ، تمثل كل واحدة منها موروثا لاماديا ، تبدو ثابتة وقوية تفرض وجودها في هذا العصر ، ولن تندثر مهما طال الزمن .ستبقى قائمة بذاتها حتما على مر العصور ، لحمولتها الثقافية المغربية الأمازيغية ، وستظل تلك الخميسة بأصبعها ، علامة بارزة لدرء العين الحاسدة ، وصد النحس عن المرأة المغربية ، في اعتقاد البعض ، رغم أن ذلك غالبا ما يوصف بالتخلف ، مما يبعث على التفكير والتفاعل تلقائيا مع عمل فني، جاء وازنا بفعل سنوات من البحث والتصميم على مواجهة التحديات ، بعد نبوغها الفني الذي تفجر مباشرة بعد وفاة والدها الذي كانت تعزه ، وكان ذلك سنة 2010 ، و لقد خصصت مساحة كبيرة للفن التشكيلي على إثر ذلك من أجل التنفيس ، حيث جعلت منه مكانا آمنا لتفريغ أعباء الحياة ، وملاذا للهروب من الواقع ، والبوح بأسرارها ، سيما من خلال أعمال تجريدية تنضاف إلى مسارها التشكيلي الحافل بالتنوع ، ولكن نحن هذه المرة ، أمام لوحة بعيدة عن الإبهام ، وتقاطع الخطوط التي قد تخلق المتاهة.لوحة مكتملة ، ليس فقط بمقاسها المظبوط (73/53) و أبعادها الثلاثة المتعلقة بالمكان والزمن و الإنسان ، ولكن ببساطتها أيضا ، فالبساطة منتهى التأنق عند بعض الفلاسفة. إنها مكتملة بإبداع سيدة ناضجة ، ترسخ عندها البحث العلمي منذ أن كانت طالبة جامعية .
بعد تقاعدها من وظيفتها السامية ، تفرغت له وسخرته في مجال الفن ، يبرز ذلك بالملموس ، من خلال ما وظفت من خامات وأدوات عصرية للاشتغال على تميمة مستوحاة من الماضي ، باعتباره أساس حاضرنا وحتى مستقبلنا ، فهي لا تعتبر فقط مجرد محاكاة ، بل أيضا إضافة جديدة للشيء المعتاد ، القائمة على الإدراك الحسي والخيال ، وتعبير عن الوجدان ، معتمدة في ذلك على ما اكتسبته من مهارتي التشكيل والتوضيب ، وتجربتها في عرض أعمالها على العموم ولذلك تم تقديم القلادة بطريقة شيئا ما وحشية ، تبدو أكبر من حجمها ، لتبقى كصورة تعبيرية في منأى عن الواقعية المفرطة ، وقد تم إلقاؤها عمدا وحيدة في وسط فضاء شاسع ، من أجل التذكير بإشعاعها في الداخل والخارج من حيث قيمتها التاريخية ، و تجنبا للتشويش عليها بعناصر أخرى قد تربك المتلقي ، و تجعله يفقد تركيزه ، ويغفل الأهم. فالأشياء الثمينة والعظيمة ، فعلا تكون دائما لوحدها ، كما هو مشاع ، و لكن تأتي تحفة مرسومة ومثبتة على القماش في وضعية تثير الانتباه ، كي تكون كشاهدة ، تفصح عن عقلية المرأة المغربية المعاصرة ، و تجسد أفكارها المتجددة التي ترفض أن تبقى أسيرة تقاليد مشينة ، لازالت مترسخة في المجتمع منذ زمان


الكاتب : عبدالسلام صديقي

  

بتاريخ : 29/02/2024