حالة من حالات رجل سبعيني


مكاني المفضل داخل فضائها الواسع هو الركن القصي الأيمن المقابل للواجهة الزجاجية العريضة.
تلفازان كبيران.
واحد في جهة اليسار مطفأ، وآخر في الوسط يبث أغان لفيروز تتدفق نعومة وشفافية، رشيقة رشاقة راقصة باليه محترفة، يرافق تغريدها شريط مناظر طبيعية تتفتح لها النفس فتهدأ وتسترخي..
حياني المشرف على المقهى لحظة دخولي بابتسامة ترحيب عريضة قائلا:
ـ على سلامتك..
وكذلك فعل النادل..
لا أثق في العاملين بالمقهى..
علمتني التجربة، من أيام الشباب وانخراطي في العمل السياسي، أن ندل المقاهي والمشرفين عليها يحفظون أسماء زبائنهم ومواقيت وأيام حضورهم وغيابهم، وما يروج وسط الجلسات من أحاديث من غير تكليف، وبتكليف أحايين كثيرة من جهة خاصة، خاصة جدا. لطالما تساءلت: ألا يعتبر هذا التكليف متعبا جدا لاسيما وأنه يستهدف كل من تُشم فيه رائحة معارضة أو احتجاج أو رفض لما يحدث في الواقع..
أنا اليوم عجوز. والدنيا تغيرت. ظاهريا لك الحق في المعارضة، في الاحتجاج والامتناع أو الرفض والإدلاء بالرأي باسم الديموقراطية وحرية التعبير، غير أن هذا الظاهر ليس سوى خدعة، تمويه لما يُرَوج ويُخطط له في الخفاء..
لا شيء تغير..
كاميرات المراقبة البشرية ما فتئت تتكاثر وهي اليوم أكثر دقة وقوة..
كنت على وشك أن أسأل المشرف بمكر عن عدد أيام غيابي، غير أني عدلت عن ذلك مكتفيا بابتسامة وبإيماءة من رأسي تعبر عن امتناني على الاهتمام الخاص بشخصي..
للحقيقة، أجهل عدد أيام غيابي.. ولا أتذكر كيف ومتى أخذت قراري بالابتعاد عن المقهى فترة من الزمن..
وتخيلته يستدرجني للكلام بالسؤال:
« أين غبت كل هذه المدة؟.. اعتقدت أنك لن تعود أبدا»
وتخيلت نفسي أرد عليه بسخرية لاذعة: « لماذا! أ لكي تشطب على اسمي من القائمة وترتاح من مراقبتي؟»..
سخرت من تخيلي. ما الخطر الذي يشكله شخص في مثل سني؟
غبت عن المقهى. لم يرغمني أحد على هذا الغياب، شبيه بعزلة لا تعكس صدمة أو عقدة نفسية وإنما ردة فعل وجودية، وسيلة لإعادة الهدوء والاتزان إلى النفس، وجمع شتات أفكاري وترتيبها. الهدوء والاتزان طبعا نسبيان، ولنتخيل أنها فعلا عزلة نصح بها طبيب نفساني، أين المشكل؟ هل في ذلك ما يدعو إلى تفعيل جرس إنذار؟!…
بالمناسبة، أفضل طبيبة نفسانية..
ما الفرق؟
لا فرق، إلا أني، وهذه قناعة تلزمني لوحدي، أجد في تعامل الطبيبة رقة وطيبة..
قد يقول قائل أني، ربما، مررت بتجربة قاسية مع طبيب أو طبيبين في حالات سابقة، جعلتني أصدر حكما مجحفا، قاسيا في حق كل الأطباء الذكور..
ما علينا.
لنعد إلى أجواء المقهى، المشرفون والندل ليسوا وحدهم المكلفين بمهمة المراقبة، ثمة آخرون مكلفون بنفس المهمة يجلسون إلى جوارك في المقهى باعتبارهم من روادها.
وما أكثر كاميرات المراقبة البشرية في غير المقاهي…
لا شيء تغير.. بل ازداد تعقيدا..
ما زالت الأنظمة والسلط تستعين بوسائل عدة ومتنوعة للمتابعة والمراقبة لضمان وحماية استمرارها..
قيل، قبل أكثر من 250 سنة:
« كل من يتمتع بسلطة فهو يسيء استخدامها،لذا يجب أن يكون لكل سلطة، سلطة أخرى تراقبها «*
من يراقبها إذن؟
في طريقي إلى المقهى صباحا، لفت نظري طائر غريب أسود بمنقار برتقالي يتطلع إلى السماء بعينين محاطتين بدائرتين جميلتين. الدائرة الأولى خارجية سوداء والثانية داخلية صغيرة صفراء قد تكون هي البؤبؤ. كان الطائر يتطلع إلى السماء من داخل قفص كبير معلق إلى حائط جنب مدخل معمل حدادة.. تساءلت:
«ترى في ما يفكر هذا الطائر الآن وهو حبيس قفص لم يُخلق له أساسا؟ « ابتسمت لسخافة السؤال.. سخرت من تساؤلي: أكيد لا يفكر سوى في أمر واحد هو أن يكون حرا طليقا في الفضاء الذي لا حدود له.. الفضاء الذي خُلق له…
نفسية الإنسان تصبح شديدة الرهافة مع التوغل في العمر، سريعة التأثر والانفعال.. وفي هذه الحالة، الأفضل أن يضع المرء، بين الفينة والأخرى، مسافة بينه وبين الناس..
كان الصباح قاتما، غير أن الطقس كان دافئا..
لا أحد من الأصدقاء تنبه إلى غيابي فأسرع إلى الاتصال..
في الحقيقة لم يعد أحد ينتبه لأحد..
استعدت وجوها من الماضي القريب والبعيد.. لم يعد لها أثر..
كأنها لم تكن..
أو لم يكن لها أثر أو حضور إلا في الأحلام..
« شعور سيء أن تكتشف متأخرا أنك تعاملت دائماً مع الأشباه، أشباه الأحباء، أشباه الأصدقاء، لا شيء حقيقي وثابت.»
‏ عبارة تنسب للكاتب الروسي دوستويفسكي .
سُئل جلال الدين الرومي:
‏»… وماذا عن البشر؟
‏قال: هم صنفان؛
‏ من أراد منهم هَجْرَكَ وَجَدَ في ثُقْب الباب مخرجاً، ومن أراد وُدَّكَ ثَقَبَ في الصخرة مدخلا.»
المكان حيث أجلس كان ظليلا، معتما إلى حد ما، لكن سرعان ما أضاءه ضوء شمس شق له منفذا وسط الغيوم، ضوء حاد اخترق زجاج الواجهة العريضة المقابلة لمجلسي وانتشر على سطح المائدة متوزعا على المنحنيات المعتمة. زحفت ذبابة فوق سطح المائدة. تركتها تزحف في أمان شرط ألا تزعجني فتحط على جبهتي أو أنفي..
أكره الذباب..
من لا يكره الذباب!…
طارت..
ماذا يفعل شخص في حالتي غير أن يُنصت لعظامه ولأنفاسه محاولا ترتيب ما تشتت في عقله من أفكار وصور وأحداث وذكريات..
وفي اللحظة التي شغّل فيها المشرف تلفاز الجهة الأخرى ظهر على الشاشة مباشرة بعد وصلة إشهار قصيرة لمادة منظفة كرةٌ أرضية تدور في فضاء أزرق داكن شاسع تصحبها وصلة موسيقية شبيهة بموسيقى أفلام حرب النجوم، تلك كانت مدخلا لنشرة أخبار استهلها مقدمها بخبر استمرار العدوان الوحشي على غزة. مشهد البنايات المدمرة والجرحى والقتلى تملأ مساحة الشاشة…
كان قد وصلني توا خبر استشهاد كاتبة فلسطينية شابة* تحت القصف.. سبق لها أن أصدرت رواية تحمل عنوانا دالا: « الأكسجين ليس للموتى»..
لا شيء سوى الدمار ومئات الشهداء والشهيدات وصراخ الأطفال…
اقترب مني شخص..
فيروز ما تزال تغرد في الجهة الأخرى…» سنرجع يوما إلى حينا..» ودائما في الخلفية يمر شريط لمناظر طبيعية خلابة..
غنتها فيروز لأول مرة عام 1956…
طال زمن الرجوع يا فيروز..
ما زلت بحاجة إلى مزيد من الوقت لأكون على أتم الاستعداد لمجالسة أي أحد والدخول معه في حديث.. وسيان أن يكون الحديث قصيرا أم طويلا، المشكلة تكمن في الموضوع، موضوع الحديث، أحيانا أشعر كما لو أني في مواجهة اختبار عسير. لا مناص من الخوض في موضوع قد أجده ثقيلا، لا يُحتمل أو شديد التعقيد، دون أن أملك الجرأة لأعتذر لمحدثي، خشية أن يعتبر اعتذاري شكلا من أشكال الرفض أو التعالي..
جلس الشخص إلى نفس المائدة صامتا، مكتفيا بالتحديق في الواجهة الزجاجية العريضة.
ما أثارني في الشخص:
اعتماره قبعة باسكية
زبيبة في حجم عدسة على الخد الأيسر من وجهه
عينان بنيتان
واحديداب ظهره البارز..
والأهم جلوسه إلى مائدتي دون استئذان،
أما في ما يتعلق بهندامه، فلا شيء يثير الانتباه..
لم ينبس الشخص بكلمة واحدة، كما لو أن إشارة خفية نبهته إلى وجوب الاكتفاء بالجلوس، بالجلوس فحسب..
رنّ صمت عميق بيننا..
عذرا سيدي..
لو كان هذا الصمت في ظروف أخرى، ظروف عادية، مريحة، لا تشنج فيها ولا توتر أعصاب لاعتبرته ثقيلا، مملا وخانقا..
أخرجت من علبة السجائر المطروحة على المائدة سيجارة، أشعلتها. سحبت نفسا طويلا، ليس من عادتي أن يكون النفس طويلا، فاجأتني نوبة سعال حادة كادت تخنقني..
لم ينزعج الشخص. ظل هادئا في مكانه.
في الحقيقة، ما نراه صمتا، أو نعتقد أنه صمت ما هو إلا ستار سميك يخفي خلفه نزيفَ ضجيجٍ وصراخٍ لا ينتهي…
أقبل النادل مبتسما:
ـ على سلامتك آ سي ناصر أنت أيضا غبت عن المقهى طويلا …
ـ الله يسلمك صديقي
اغتنم فرصة الكلام مع النادل، فالتفت إلي:
ـ هل تذكرني الآن؟ كنا اتفقنا في آخر جلسة لنا أن نغيب عن المقهى مدة.. أ تذكر ذلك؟ ..
بعد لحظة من شحذ الذاكرة تذكرته سبق أن جمعتنا جلسة لم نتفق عليها سلفا …
تذكرت أنه قال وهو يقدم لي نفسه أن اسمه ناصر.
الرواد الدائمون للمقهى يعرفون بعضهم بعضا بالوجوه. القليلون منهم يُعرفون بأسمائهم. وأضاف مُعَرفا بنفسه أنه يعيش من النجارة الفنية. حقيقة، زبائنها قليلون لكنهم لا يبخلون بصرف مبلغ كبير من أجل تحفة فنية… لم أفهم يومها ما تعنيه النجارة الفنية، لكن ناصر رفع عني عناء التفكير والسؤال شارحا أنه لا يصنع، مثلا، كرسيا لأجل الجلوس فقط وإنما يتفنن في صنعه ليكون جزءا من ديكور البيت، قطعة فنية تثير إعجاب الضيوف.. يصنع كرسيا واقعيا لكنه يحمل الكثير من لمسات الخيال والابتكار…
فنان إذن..
لماذا اختارني يومذاك دون غيري!
يأتي الاختيار أحيانا محض مصادفة لا غير…
تعتقد أن لا أحد يهتم بك، في حين أن ثمة من في غفلة منك، يسجل حركاتك، سكناتك، لحظات غضبك ولحظات فرحك.. يسترق السمع لأدنى همسة من همساتك، ولا ينتظر سوى اللحظة المناسبة لمجالستك والحديث إليك.. ولو كانت له القدرة على التوغل في تفاصيل حياتك وأسرارك والاستعلام عنها، لما توانى في فعل ذلك..
قد يكون إعجابا بشخصيتك لا غير..
إن بعض الظن إثم…
وعموما ولع الناس بفضول معرفة دقائق الأمور عمن يجاورونهم، قديم قدم البشرية.. الفضول جزء من كينونة الإنسان..
أتذكر..
خاض معي يومها في مواضيع شتى، لا رابط يربط بينها. كان له النصيب الأكبر في الحديث كما لو أنه كان بحاجة ماسة إلى أن يزيح عن صدره حملا ثقيلا خانقا.. حدثني عن مجازر الحروب وأهوالها، عن المجاعة، والفاقة والأنانية الضيقة والجشع، والفساد، حدثني عن الانتهازيين والسارقين ثم عرّج على مفهوم السعادة واليأس والأمل. وختم عرضه بقوله:
« العالم لا يتحسن.. العالم يزداد سوءا وقذارة»…
كان بين الحين والآخر يرسم ابتسامة باهتة على شفتيه وهو يُفرغ ما بداخله، وفي مرات كان يتوقف عن الكلام ربما لالتقاط الأنفاس، وربما ليفسح لي مجالا للتعقيب أو الإدلاء برأي، لكني كنت أتحصن بالصمت..
لو حدثني يومها عن المدارس الفنية في التصميم وعن رؤيته الفنية الخاصة في التعامل مع الخشب لكان ذلك أفضل..
وأتذكر أنه استشهد بمقولة لكاتب نسي اسمه متطرقا للصداقة بقوله:
«إن كان لديك صديق يساوي ذهبا، سارع إلى بيعه واسترح..»..
عادت الذبابة تزحف من جديد فوق سطح المائدة وما لبثت أن طارت..
أيتها اللعينة،
ليس على سطح المائدة قذارة…أيتها النجسة
أخذت قرارا في داخلي بسحقها إذا سولت لها نفسها العودة مرة أخرى..

*تنسب القولة للفيلسوف الفرنسي مونتسكيو
* هبة كمال صالح أبو ندى(24 يونيو 1991 – 20 أكتوبر 2023)، كاتبة وشاعرة وقاصَّة فلسطينية من قرية بيت جرجا المُهجَّرة كانت تعيش في قطاع غزة.


الكاتب : عبد الحميد الغرباوي

  

بتاريخ : 27/10/2023