حديث البطاطس..!

وعن ماذا عسانا نتحدّث هذه الأيام. وكلّ المواضيع مطروقة ومستهلكة تقريبًا؟
عن الدّين والأخلاق، ولدينا من الحرّاس ما يجعلنا نشك في ثيابنا وأعمدة الكهرباء؟
عن السياسة وغلاء الأسعار والكل أصبح مستعدًا ليشغل كاميرا هاتفه على المباشر ويتحدث أو يشتم الحكومة في يوتيوب؟ مِن حكمة الإله أن بعثر العباد على الأرض وأخذ يُراقب الجميع من مكانٍ مجهول. ومن حسنات الأنبياء أن وضعوا الرسالة على الطاولة ورحلوا باكرًا قبل أن تدركهم أزرار العولمة.
عن الحب، والكلّ يتحدّث عن الأزهار الذابلة ولا أحد فكّر في سقي الزهرة القديمة ولو بالصمت كجزء من الوفاء لعشق قديم. للأسف لا نتذكر إلا مذاق حبّة اللوز الأخيرة في الفم، الحبّة المرّة التي أفسدت كلّ شيء؟
هل نتحدّث عن كرة القدم ولدينا من الجماهير في المدرجات والمقاهي ما يهزم الجيوش النازية في درس التاريخ. بل ويعرف هؤلاء ركل الكرة وتسجيل الأهداف على الورق أكثر من اللاعبين أنفسهم؟
عن الشعر؛ وقد صار ملاذًا لكلّ من وجد نفسه مطرودًا من الثانوية أو من الحياة كما لو أنّه مركز التكوين المهني أو ملجأ الأيتام؟
إن الحديث عن البطاطس مدخلٌ أساسي لفهم الكثير من أحوال النّاس و أمورهم. وكلّ ما نسمعه هذه الأيام في السياسة والاقتصاد والثقافة يمرّ عبر التفكير في البطاطس وينتهي إليه. وبالرغم من أصولها البروليتارية، فإن البطاطس تملك استعدادًا مذهلًا للحضور في اللاوعي وتفكير الأفراد وثقافتهم، مثلما تملك استعدادًا للانسجام حتىّ لو تعلّق الأمر بالتواجد في طنجرة ضيّقة مع خضروات غريبة.
إن صمود البطاطس وسط الأغوار وحرارة المكان لا يضاهيه إلا صمود الفقراء في وجه المحن وتقلّب الأحوال، وإن أخطر مزايدة على ملفهم المطلبي تبدأ من البطاطس ومن ثمنها في الأسواق. إنّها الوقود الاحتياطي للبؤساء وعملتهم المشهورة التي يتداولونها في ما بينهم. والشّعار الخالد للطبقة المدهوسة وجزءٌ من هوية المدرسة العمومية بالمغرب على سبيل المثال، والتي تَخرج فيها (وليس منها) عمّال وحرفيّون وجنود، وأيضًا أساتذة وأطباء ومهندسون وهلم وظيفة وتعبا. لكن هناك دومًا من يدوس الأزهار ويقف في الجوار متأففًا. والأدهى أن أصبحت البطاطس شتيمة يتراشق بها الناس كلّما توترت أعصابهم.
وإنّ أكبر ظلمٍ يمكن أن يلحق بحبات البطاطس وتماسكها، إلى جانب الشتيمة، هو أن تحشوها في ماكينة صغيرة كي تخرج على شكل أصابع، فتقلي الأصابع في زيت ثم تُناولها لطفلٍ يقف حزينًا في ساحة مدرسة قربَ العلم الوطني الذي يرفرف في عمودٍ فوق رأسه. دون أن تعرف أنت هل الطفل حزين بسبب أصابع البطاطس الصفراء أم بسبب قسوة البيداغوجيا وأساتذة غير متفهّمين. ومن الرائد والرائدة في هذه الحالة؛ المدرسة بأصباغ ملوّنة أم الطفل ووقفته الحزينة؟
أعتبرُ البطاطس سرّ سعادة الشعوب المنهوكة وسرّ سعادتي الشخصية والثقة في حدسي قبل حذائي. بل أثق في البطاطس أكثر مما أثق في كلام السياسيين والمثقفين. ويكفيني صحن بطاطس في ليلة ماطرة، وتَوحُّش الريح على غير موعدٍ واِلتفافُ النافذة بالنافذة كي أقتعد كرسيًّا في الهواء وأتشرّد في سماوات بعيدة دون أنّ أدّعي الشّعر أو إحدى حالاته الصعبة. في الحقيقة إنّ البطاطس تُحفّز على الإبداع وتثير الحنين والعودة في الزمن إلى الوراء حيث يهفو القلب إلى اللمسة الأولى وغرفة البيت الأولى وأطياف من أحببناهم بلا حساب.
أذكر مرّة، استضافني رجل أعمى للعشاء في بيته القروي، فتحلقنا حول صحن كبير من المرق تؤثث البطاطس جنباته، بل إن حبّات كثيرة مغروسة في الصحن تبدو مثل أوتادٍ صغيرة تحرس بشكلها الدائري منطقة وجود اللحم. المنطقة العازلة في غزة على سبيل التشبيه. فجأة أخذ بّا عبد القادر، وهذا هو اسم الرجل، قطعة بطاطس ساخنة وضرب بها أحد أولاده المشاغبين، اِلتقط الطفل البطاطس وهمّ هاربًا ثم وقف في الجوار ينفخ فيها أنفاسه الصغيرة كي تبرد ثم التهمها. بعد ذلك عاد فاندس صامتًا في الدائرة يريد مواصلة الأكل غير أن الرجل أمسكه من يده فضحكنا جميعًا وعفا عنه. مَن هو الأعمى في هذه الحالة؛ الرجل أم الطفل؟ وكيف كنّا سنجد سبيلا للسعادة في ليل الغابة لولا المرق والبطاطس وشقاوة الطفل وحدس الأعمى؟
على ذكر العميان، فالشّاعر أبو العلاء المعري كان يتعرّف على زوّاره من أنفاسهم وبحّة صوتهم. لكن لا يوجد ما يؤكد أنّ الشّاعر كان يتعاطى البطاطس بالرغم من أنه كان نباتيا. ولو كان كذلك لما احتشدت كل هذه الأحزان في قصائده لدرجة أشْكل الأمر عليه مرّة فحسب أن الحمامة تبكي فوق غصنها الميّاد. هل أخطأ المعري فردوس السّعادة بسبب البطاطس؟ وهذه مناسبة لدعوة النّقاد والدارسين للبحث في موائد الشعراء ورصد الأنساق الثقافية في النّص الشعري. أليست البطاطس عتبة أساسية لفهم النصوص الإبداعية وأشكال التعبير المختلفة أحسن من تلك العتبات التي تحدث عنها جيرار جنيت؟ ومن الذي يصون ذاكرة الشعوب؛ الملوك والأمراء أم الشعب والرواة والبطاطس؟
في مثالٍ آخر، أذكر مدير مدرسة اشتغلت جواره (كلمة جوار هي الصحيح، أما «مع» فشكل من أشكال العبودية والحنين إلى المجتمعات الإقطاعية)، وكان يحاول جاهدًا أن يخفي ملامحه البطاطسية في بذلاتٍ ملوّنة وأحذية الكعب العالي. صراحة كانت كلّها بذلات سوقية ومن ماركات مزيفة، فهي إمّا صفراء وبلون قشور القرفة أو مثل مرق البطاطس في أحسن الحالات (لاحظوا معي منطقة التقاطع بين الرجل والبطاطس). وإما بلون أحمر الشفاه الرديء حيث تخبو ملامح وجهه فيبدو مثل عرّاف. مرّة واحدة فقط انتعل حذاءً جيّدا من جلدٍ خالص لونه أحمر غير أنه يبدو غير متفاهم بالمرة مع الكائن البشري ومختنقًا في رجليه المفلطحتين. ومَن وما الذي يستطيع أن يتفاهم معه، هو الذي اختلف معه الجميع بما في ذلك نفسه الأمّارة بالشّر!
لقد هدّدني مرّة بأنه سيرسلني لأبيع البطاطس فوق عربة. أذكر أني سهرت الليل أفكر لماذا أرادني الرجل أن أبيع البطاطس وليس الموز مثلا أو التوت أو العنب أو على الأقل البرتقال لأتذكر القرية والنهر وحقول برتقال وسيعة وظلي الصغير يرتمي في الماء من فوق قنطرة حديدية؟ لم يؤلمني تهديد الرجل وقد استأنست مبكّرا بالقسوة وحرّاسها. ولكن آلمني تبخيسه للبطاطس وطريقة تفكيره والنظر إلى النّاس والأشياء. انقضى العام وافترقنا ونسيت الرجل وسط زحمة الحياة ولهاث الأيام. وما كنت صراحة لأتذكره لولا حديث البطاطس. أليست هذه الأخيرة تحرّك الذاكرة بملعقة ساحرة؟ على الأقل نتذكر شبحًا مرّ في الجوار ثقيلًا مثل جرّار.
إنّ الحديث عن البطاطس محيّر حقّا، لا تكاد تمسك بفكرة حتى تخطر على البال فكرة أخرى. تبدأ بالحديث عن الثقافة والسياسة وتنتقل للحديث عن مزايا البطاطس وفوائدها وعن البرجوازية وكتاب كارل ماركس دون أن تصّرح بذلك، ثم تتحدث عن الشعراء العميان وعن الضوء التي يشّع من العيون المطفأة. وتنتهي بالحديث عن معادن النّاس وأصولهم. ويخطر لك أن تفكّر في الكتابة عن البحر والرطوبة وارتفاع الماء في الهواء دون أن تفعل ذلك. قبل أن تغلق النّص هكذا وبدون سابق إنذار وأنت تهمّ بالخروج إلى المقهى. أليس هذا سرّا من أسرار البطاطس العظيمة؟


الكاتب : حسن بولهويشات

  

بتاريخ : 16/05/2025