حروفيات أصيلة.. الكاليجرافيتي فكرة شعرية فاتنة

تحت شعار : «حروفيات أصيلة» ينظم مركز عناية بشراكة مع رياض دار الشريفة معرضا تشكيليا كاليجرافيا جماعيا ما بين 30 ماي و30 يونيو بفضاء دار الشريفة المواسين مراكش العتيقة. الفنانون الأربعة المشاركون مولاي الحسن حيضرة ومحمد البندوري ورشيد زيزي والحسن فرساوي يجمعهم الهيام الجرافيتي فهوما وحروفا، على الرغم من تعدد مشاربهم وثقافتهم، عدا تفرقهم تربة وعمرا.
وكما هو معلوم، فإن رؤية الفنان التشكيلي تعكس جوانب استدلالية متفردة تجاه المحيط والمجتمع والقيم. من تلكم الأبعاد المؤثرات الثقافية والتمثلات النفسية والاجتماعية المبثوثة في الأعمال الإبداعية.
وكما تلتقي هذه المناحي ضمن التجارب التشكيلية الأكثر تعبيرا عن حساسيات فنية أو اتجاهات ثقافية، تروم الأعمال التشكيلية الكاليجرافية المعروضة بدار الشريفة للفنانين الأربعة، في معبر حاضرة مراكش البهيجة استغوار عوالم الحرف العربي وتفتيق شواهده وإعادة الروح لأطرافه واقتباله بما يعزز حالات السكون والحركة، الفورة والغضب، والامتداد بين أواصر انكتابه وكتابته.
في مساحة عميقة من الصمت المسنود بقوة وحضور الخط العربي. وفي زاوية الارتقاء يستحضر الأربعة شموخ الخط المغربي وانبلاجه عبر مراحل تاريخية تسم جملة من تقاطعات ثقافية وسياسية وأنثروبولوجية. تتهادى الألوان والخطوط وحرية التحليق بين الكلمة والكلمة، واختيار المتون النصية المدهشة، في جل الإبداعات التي تشخص حالات ترفل بين السديم والأضواء الفارقة، حدودا فاصلة بين أنامل تعشق موسيقى الكتابة بالشكل الجرافيتي المتشاكل.
أربع تجارب فنية أصيلة تجر خلفها هموما ثاوية توقظ في الحواس رغبة نهمة في الاستلقاء على ظهر النرد دون رتوش أو استيهامات أو ماكياج، أسئلة للإصغاء والإغراء، مجاسر الطمر والإظهار، قيودا ترضرضها المآلات، حيث تغدو سبحة في أويقات البلوغ الشاهق، كعزلة تلسع الكينونة وتحصرها في زاوية للتشظي والعبور.
إن التقاء الفنان الكبير شيخ الخطاطين التشكيليين المغاربة مولاي الحسن حيضرة بالفنان والناقد محمد البندوري، وفي أثرهما الفنانان المتميزان رشيد زيزي والحسن فرساوي، التقاء لا يغري بالتفكير أو التأمل فحسب، بل التدبر في مآلات التفكير بالتوابع الناتجة عن علاقات تقودها الخيوط البيضاء الشفيفة التي تتغلغل بفعل التضوع والإبهار الضوئي، تحت وقع صدمات انبثاق الحروف المرسومة، بأرواحها الموتورة، تخومها المنجذبة نحو التخفي والظهور، الاحتواء والتواري، الفرح المتأهب، والوجوم الثقيل.
بين التجارب الأربعة التي تعرض نماذج من لوحاتها الفنية الكاليجرافية الراقية بحور وأنهار وظلال وجغرافيات متماهية، تناغم يلتقي في الخط العربي الأصيل، ويفترق في فنية كل منها صقلا واجتراحا، ما بين كلاسيكية منقوعة بأشكال هندسية متقاطعة، وأخرى نابشة في أسرار الوجود مرتدة من أسر القيود، وثالثة منقادة في سائغة التربص والانقضاض.
تنبني تجربة الفنان الكبير مولاي الحسن حيضرة ضمن رحلة قاربت الثلاثين سنة ونيف على الاشتغال الشعري من خارج الخط، وهو فنان يقيس الأشياء بعكسها، ويحذر من تشكيل الفن الكاليغرافيتي كدافع لرد الفعل الفني أو ترجمة الأحاسيس. حيضرة يتباهى كونه ينثر الشعر على الخط، فيستحيل نصا آخر بألوان لا تتجسدها تمظهرات الإطار والشكل المبتدع، ويشكل بذلك إحدى أهم الطفرات التشكيلية الكاليجرافية العربية على الإطلاق. وقد سبق للشعراء أدونيس ومحمد بنيس وحداد وعمران المالح وغيرهم أن التفتوا إلى ظاهرة تشكيل الشعر عبر الكاليجرافيا، في سبر تجربة حيضرة كوجهة سعيدة للحرف الشعري، وملاذا لأحلام الشعراء الغارقين في لجج الحرف وماهياته .
في حين تقتنص رحلة الفنان محمد البندوري زخم الاغتناء برموزية الحرف وانشداده للآفاق المفتوحة على كل التكتلات والفروق الماثلة بين الحركة والضوء، إبذار الحرف بما يلائم حجم الفكرة المقصودة .
أما المبدع الفنان رشيد زيزي فيرتاد صنو الحرف ليغرس آلاف الفسائل، وينثر رحيق الشهوة في بيداء، سرعاء ما تنمو على لوعات الصقل والإثراء اللوني، المنخطف تحت لفح أزيز السكب والإفراغ.
الحسن الفرساوي هذا السيزيفي المدهش يقتعد حديقة بكامل الجمال والدلال، يطوع أنامله البراقية ليخلق عوالم وجسورا تطفق تيها وجسارة. يأخذ الخط العربي لديه شكل الأفعى التي تأكل كل الشوارد العوارض، متأسيا بروحانيات الصوفي وإيثار الشاعر الصعلوك وإغواء الفكرة المجردة.
أليس من الجمال والدلال أن تلتقي كل هذه الحروف في نبتة واحدة تجمع حبق التفاح بزهر اللوتس، فرادة القمر بنجم نيوتروني، سماء الشعر بأرض الخيال؟!
ذلك نبل حليم ينبغي أن تشكره ملائكة الحرف الذي ظل يبحث عن ملاذ دافئ يضع رأسه على مخدته لتصفو السجايا ويدلهم السموق وتنكشف الحجب.


الكاتب :  مصطفى غلمان

  

بتاريخ : 09/06/2018