ثمة أسئلة كبرى تطرح على النخب الثقافية العربية التي كانت تقف، في بعض نماذجها القوية، على محك التنافر القطري، غير قادرة على رسم طريق التكامل الثقافي الغربي. غير أن أطروحات كثيرة أنجزها مثقفون ومفكرون عرب ما زالت حتى الآن تطفو على السطح، لراهنيتها وقوة مضامينها، ذلك أن البلاد العربية ما زالت مستهدفة أكثر من أي وقت آخر، زمانيا ومكانيا، مع العلم بأن تلك النخبة تعلم يقينا أن الأحداث التاريخية العربية زاخرة بالصراعات، التى ما زالت تتكرر بصورة طبق الأصل فى تاريخنا الحديث- بغض النظر عن تلك المرحلة التي كان العرب يتبؤون فيها عالميا الهرم السياسي والحضاري.
في ما يلي حوارات فكرية مع بعض أعلام الثقافة والفكر في الوطن العربي.
ما هي أبرز النظريات التي أسست لها المدرسة العربية الراهنة في فلسفة الحداثة؟
تنقسم فلسفة الحداثة في المدرسة العربية الراهنة وفق وجهة نظرنا إلى خمس نظريات:
النظرية الأولى:
الحداثة وما بعد الحداثة، بحسب ما تقوله المدرسة العربية، فلسفةٌ أخلاقيّة خاصةٌ بعصر الثورات الراهنة؛ أو وِعاظةٌ محورها تمجيد الفردانيَّة الحرّة المستقلة، وتعبّدٌ وألهَنةٌ للعقل، ورفضٌ للمُتَخيَّل، وخطابٌ في التفكّر والتفكير المحلِّل. وهي التخلّي عن التراث والماضي؛ أي هي الإنقطاع عن الفكر السائد، والسلطة البائدة. وهي التنوّر بالطرائق والأدوات التي تصقل الذات، وخصائصها البشريةَ المميَّزة وقيمها المسكونية، ووجودها المتعيِّن المنغرس في المجتمع والتواصليّة، وفي العقلانيّة والحرية، والنظامِ السياسي العلماني والديموقراطي والساعي إلى العدالة وتحقيق معنى الإنسان. تُعدّ مقولات هذه الفلسفة مكرَّرةً ومُبسَّطة، ومعروفةً أو غير أصيلة؛ فهي بلا عراقة أو إبداع، ومنتَجٌ موصولٌ مشحونٌ بقيم المجتمع الصناعي جدًّا وجيّدًا، أي الصناعوي والآلياني، العابِد للعمل والمال والسلعة، للمصنع وقوانين السوق، ولنظام النقود والحكْم الليبرالي والسياسة الرأسمالية، أو الدستور المُمَرْكَز الحامي للثروة والإستهلاك، أو الأغنياء الناجين والمتحكِّمين…
النظرية الثانية:
فلسفة إعادة التنظيم والبَنْيَنة، ثم إعادة التسمية والمَعنية، الذاتاني المحلّي يَجْرح الحداثة وما بعد الحداثة.
هنا، أيضًا، نظريةٌ هي التشخيص الكُلّي أو الإدراك بعقلانيةٍ وتحرّرٍ من المسبق والجاهز أو النقلي والموروث؛ أي هي دراسةُ المعنى، والنظرُ في كنهه وفحواه، ووظائفه اللُّغويّةِ والنفسيّةِ الاجتماعية ومكانته داخل النظرية الفلسفية في الذات والشخصيّة، والنحناويّة والطبيعة والمعرفة، والأيْسِ واللَّيْس، والغنى والجمال والفنّ.
النظرية الثالثة:
هي المدرسة العربيّة في “التصوّف العقلائي”؛ وهي تبخيس كلِّ تصوّفٍ عند الحَرْفاني وفي الفكر الآحادي، وعند المتعصِّب أو المنحازِ القسري الإنتحائي إلى اللاهوتي. هنا نلحَظ ثورةَ التصوفِ والمتخيَّل.
التصوّف “الحداثوي” مبخّس عند “ناقدي” العقل العربي ومبخِّسيه. ومُسفَّل من حيث هو، في نظرهم، نقيض الفلسفة ومُعادٍ للعقل وأهل البرهان. وعلى سبيل الشاهد، هنا يسوق محمد عابد الجابري أدلةً، ويبسط براهين وحججًا على أنّ “أهل القوم” غير عقلانيّين، ولا “تُقبَل شهادتهم”، وخسيسون أو نافرون منفِّرون… ربّما يكون، رحمه الله، مُحِقّاً؛ وأنا أفضحُ ما هو، أحياناً، شديد الإقصاء والإبتعاد عن الحقيقة والمنطق بحق “العرفانيين”. لا بأس! لكنّي، من جهتي الخاصة، لا أدافع عنهم؛ ولم أقُل قطّ إنّهم صالحون، أو قد تَرْفض الحداثةُ غسلهم أو تطهيرهم، ومن ثمّ القبول بهم كمنتِجين في عالم الفكر العالمي، والنظر الكوني، والنور والعقل المسكوني أو حيث القيم الإنسانويّة البُعد والمدى والمعنى. لكنّي، بموجب رؤيتي المُحاكِمة، قد أحصيتُ أيضاً، إلى جانب “المرذولات”، “مجلوباتٍ” أو “مقولات مقبولةً” عديدةً للتصوّفات أو العرفانيّات… فضحتُ واكتشفتُ “مرذولات” كثيرة؛ وقلتُ إنّ الرافض للتصوّفات والعرفانيّات مُحقٌّ فيما يُثبِت، ومُخطئٌ مسرفٌ فيما ينفي. فأَنْ تقول إنّ العرفان نجاسةٌ أو نجسٌ ورجسٌ قول صحيح؛ ولكنّه قولٌ فاسدٌ إنْ قلنا إنّه ليس سوى بخاسةٍ أو ضلالٍ، وغثاثةٍ أو رثاثةٍ، وسفالةٍ أو تخريفات، ورطانةٍ أو هوَس. وفي جميع الأحوال، قد يكون الأجدى، في الفصل بين الداحض والمحايِد كما المؤيِّد، الاهتمام بموضوعاتٍ ذاتيّة النزعة أو محجوبةٍ عائدةٍ إلى مبخِّسي العقل العربي ظُلماً وعدائية، أو جهلاً و”غفلة”، أو لذةً وانتقاماً.
بين المقولات التي ألحفتْ عليها مدرستنا الفلسفيّة الراهنة تعرفةُ تعريفاتِ التصوّف (ومن ثمّ العرفانيّات) العديدة؛ أي حقوله المتداخلة، وغرَضه ومعناه، وأوهامه كما حقائقه، ومناهجه ومنجزاته المخصوصة والكونيّة الأعماق والقيم… فقد ميّزنا التصوّف النفسي أو المعرفي، الإستسراري أو الإيزوتيري، والباطني والفِيَّاويّ (مِن: في) والداخلي والجوَّاني، والقطباني والعرفاني… ذاك هو التصوّف (المَشاعيّ المُشيِّع للنّفس، وهو المُشَيْعَوي، المنذور، المسَيَّب الذي باع نفسه (أو المبايعِ) لله حبّاً مجانِيًّا للكعبة أو أهل الكعبة، لمكة وأهل مكّة والعالمين والناس أجمعين (را: الجذر ش و ع؛ المشَيْوَع أو المستَشْيع الجاهلي).
وهناك، أيضاً، التصوّف المشاعي، والمُشيعِ أو المشيِّع للملكية والأرض والمال. وفي هذا التصوّف السياسي الاجتماعي لا يَمْلك الإنسان ولا يُمْلَك؛ وهو إنكارٌ للسلطة والدولة، وللثروة والأغنياء والملَّاك. فهنا رفضٌ للمِلكيّة الفرديّة، ولامتلاك الأرض وأدوات الإنتاج (قا، في التصوف: وحدة الكائنات والطبيعة والألوهيّة، رفضُ الحكْم بحجّة أنّه مُفسِدٌ وفاسدٌ، ومتسلّطٌ، وضد العدل والمساواة…).
وهناك التصوّف الصوفوي نسبةً إلى صوفة المكّي الجاهلي؛ ونذكر أيضاً الصوفية نسبةً إلى صوف الغنم، الصوفاوية نسبةً إلى صوفا، أي المبارك المقدّس، المضحّي والطاهر، الحامي والحارس؛ ثم: التصوّف الصَّفائي نسبةً إلى إخوان الصفا، أي الإخوان الطاهرين الأوفياء أو الميامين والمبارَكين والصفاويين، أو أصحاب التصوف الصَّفاوي.
علاوةً على ذلك، ثمّة تصوّف منسوب إلى الصفوة من الناس؛ (قا: إخوان الصّفا)؛ وهم، أصلاً، أهل مكة أو أهل الكعبة؛ وذلك هو التصوّف الصفوتي. وآخر منسوبٌ إلى أهل الصُّفَة (ولعلها الصُّفَّة)؛ وهم الصوفيّون الصُّفَّيّون المقيمون في صُفَّة المسجد المبايعون على الموت دفاعاً عن قضية الدين، وأهله، وربّه. وهؤلاء، هم أيضاً، مُسيَّبون، منذورون، يُقدّمون أنفسهم كضحيةٍ مرفوعة مجاناً لله، وحبًّا بالله خالصًا، أي فداءً وقَرْبَنة (قربانًا، قربانيَّة) للكعبة وربّ الكعبة، ومن ثمّ لربّ مكة وأهل مكة والعالمين أجمعين.
لعلّ المدرسة العربية الرَّاهنة في التصوُّفات والفلسفة أبرز من أثبت أنّ التصوُّف العربسلامي هو الذي أكَّد وزخّم فهم أو حقيقةَ خطاب الإنسان المنجرح ومن ثم في مشاعيّة المِلكية؛ أي في مشاعيَّة الأرض والمال، وفي رفض الحياة السياسيّة الاجتماعية التقليديّة، وفي التنكُّر للسلطة القائمة؛ ولدولة الأغنياء، ورجالِ التديّنِ وأصحابِ النفوذ، وشتَّى رجال الدولة وبطانتها ووعّاظها.
ويذكَر، بَعدئذٍ، أنّ المدرسة الراهنة في التصوّفات والحكمة والفكر الكوني اعتنت بأن تَقْرأ قول الأسلاف في مقولاتٍ كما أشخاصٍ تاريخيّةِ المكانةِ والقيمة، استناداً إلى مفسّري الأحلام أو الأساطير والاستعارات. وعلى سبيل الشاهد، إنّنا نقرأ موسى أو عيسى ومقدَّسين آخرين استناداً إلى المناهج التي اعتُمدت في تفسير الحلم أو الإستعارة واكتشافِ الرمز والمطمور… المراد هو أننا، في وجهٍ آخر، نحوّل الموضوع أو المقولة المراد دراستها، إلى حلمٍ أو استعارةٍ؛ ومن ثمّ نقوم بالتفسير أو التحليل والتعليل، وبالفهم والتأويل والقراءة غير الحَرْفانية.
النظريّة الفلسفية الرابعة:
فلسفة الوعي أو الذاتِ الحاضرةِ أو الأنا الظاهرة. الوعيانية والمَعْنَية على سبيل الشاهد والعيِّنة. الوعي والمعنى أساس فلسفةٍ رخوةٍ مائعة لكن سهلةٌ أو سريعة الهضم ونافعة.
ثمّة نظريات راهنة عديدة تعتبر الفلسفةَ خطاباً في الذات الحرّة الفاعلة أو في الوعي المعرفي، وفي الحرية والديمقراطية، أو في العلمانية والعلمية والعِلموية المؤحِّدة المؤلهِنة للعلم وحده دون سواه… فالنظرياتُ الفلسفية الراسيةُ على الوعي، أي على الذات الحاضرة الكاملة، مؤدّاها وقصدها اعتبار الإنسان كائناً حرًّا مُترَعًا، والسّيّد بكل قوةٍ ومنعة على غرائزه وجسده، أغوارِه وظلماته، تضاريسه وتلافيفه… هنا يُظَنُّ، أيضاً، أنّ الأنا تكون سيّدة نفسها، وتتعامل بتفاؤلها وطيبتها على الهواجس والتصورات المرَضيّة كما الهوامية، وعلى الوهميات والمتخيَّلات، وعلى قطاع الأنا الأعلى في الشخصية أي حيث النظُم العليا والقيم، القوانينُ والسلطة، الأخلاقُ والواجبات.
الفلسفة، حسب نظريةٍ خامسة:
هي الإستراتيجية الراهنة لكن غير المحكومة لِمبادئ وقيم نابعة أو متلائمةٍ مع عصر الرَّقْمَنَة، أو الشبكةِ وثورة وسائط التواصل والإلكترونيّات. فهي رؤيةٌ وتصوراتٌ عقلانيّةٌ وشمولانيَّة، وأعمّاويةٌ تتدبّر الإنسان والناس والمذهب الإنسانوي (=الأنسنة) بشكلٍ ناصع وكُلِّيَّاني. وذاك خطابٌ قوامه ونسغه الوعي والحرية، وسائر المدنيّات المغروسة في اللقمويّات والسياسة، وفي الثقافة والأرض، كما في المجتمع والتاريخ والتوق لمستقبلٍ خصائصه الكبرى التحسينُ والتعزيز، ومن ثم التوكيدُ والتزخيم للمعيشة الأكثر عدالةً وتكافلاً، وللحضارة والثقافة الأكثر إشباعاً وتحقيقًا للحقوق الكونيّة، والقيمِ المسكونية والطموحات البشرية المعافاة والمعافية نفسيًّا واجتماعيًّا، أخلاقيًّا وروحيًّا، فنِّيًّا وجمالِيًّأ، تواصليًّا وخيرانيًّا…
في ضوء هذه الفلسفة الإستراتيجيّة، الديناميّة والمعْنيّة بالأخلاقي والعادل والمحبّاوي، نُحاكِم الفلسفات المادية، والبيولوجية الأحاديةِ والعنيفة المستبِدّة. وعلى هذا نقول: ليست هذه الفلسفات الجافّة القاسية عميقةً أو متفائلة. إنّها، كما أيّ أيديولوجيا، مهتمّة بالمصلحة والمنفعة فقط. إنّها فكر أو سلوكٌ ذرائعيّ، وفهم آليّ [ميكانيكي] أو صناعوي، “وسِلَعي” أو بضائعي للإنسان والبشريّة، والمذهب المؤَنسَن المؤنسِن أو الحداثوي كما التنويراني… إنّها فلسفاتٌ بلا عواطف أو تآلف، بلا قلبٍ أو صداقة، بلا تعاونٍ أو تراحُم أو فضائل. في جميع الأحوال، إنّ النظريات البيولوجية المحضة غير كافية؛ ولا هي قادرة على تفسير الإنسان، أو على إعادة مَعْنيته… ذاك ما نقوله أيضاً في صدد النظريّات المادية، والنفعانية كما المَصالحية… إنّه غير ممكنٍ ردّ المعنى إلى الحسّي أو العياني، المادي كما الجينيائي، الزماني أو المكاني، البيئي كما المجتمعي…
فبَيْن الأرض أو الطبيعة تفاعلٌ متواصل متناقح مع الثقافي والعواطفي، أو مع الأخلاق والواجبات وقيم الإنسان والإنسانَوية. بين القطاعَيْن كَرْفَرة، وعطا أَخْذِية، وذهابيابِية؛ هما معاً في متكافئةٍ متلازمةٍ، وفي تداوليةٍ وتبادلية.