يتعذر على الأمهات ـ في أحايين كثيرة ـ إمكانية الولوج إلى بعض خدمات المدرسة، ومشاركتهن في الإشراف على تعلم أبنائهن والحصول على مختلف البيانات والوثائق المتعلقة بتمدرسهم، والقيام بجميع التصرفات الإدارية التي تتطلب حضور “ولي الأمر”.
يلاحظ ـ في هذا السياق ـ امتناع الإدارة التربوية عن تسليم شهادة المغادرة ـ بشكل خاص ـ إلى الأمهات، بمبررات كثيرة، أهمها اقتصار الولاية على الأب وحده في حالة استمرار العلاقة الزوجية، وضرورة الإدلاء بوثيقة الحضانة في حالة الطلاق؛ أو افتراض” تهريب الطفل” ـ في حالات النزاع الأسري ـ إلى مؤسسة داخل، أو خارج البلدة التي يقيم بها الزوجان المتنازعان. ويشترط البعض على الأم الراغبة في الحصول على شهادة المغادرة توفرها على تفويض من الأب، أو وثيقة طبية، أو شهادة إدارية تثبت غيابه، أو عدم أهليته. وتستثنى من هذه “القيود” أمهات المتعلمين المولودين من علاقة خارج “مؤسسة الزواج”.
ولا شك في أن تصرفا إداريا من هذا الحجم، يبرز حجم التعارض بين الأسناد الدستورية، والنصوص القانونية المعيارية المتعلقة بالمساواة بين المواطنات والمواطنين في ولوج المرفق العمومي، والانتفاع بخدماته بشكل مستدام، والتصرفات الإدارية التي تحول بين الأمهات، وقيامهن بالمهام المسندة إلى “ولي الأمر”؛ في غياب “دليل عملي”، يسهم في تنزيل الأسناد الدستورية والقانونية المنظمة للأسرة، و”النيابة الشرعية” عن القاصر، ورعاية شؤونه التربوية، وتلبية احتياجاته المختلفة لدى إدارة المؤسسة التعليمية بوصفها مرفقا عموميا.
يمكن التأكيد ـ في هذا المقام ـ أن “مغادرة المؤسسة” واقعة تتكرر خلال فصول السنة الدراسية كلها، بفعل الانقطاع، أو التشطيب بسبب الغياب المتصل، أو الفصل عن الدراسة، وهي وضعيات لا تمنح فيها الإدارة التربوية شهادة إدارية خاصة بها، رغم أنها تثبت تاريخ المغادرة، وأسبابها في سجلات المؤسسة، والملف المدرسي، والبطاقة الشخصية للتلميذ؛ وتدرجها في خانة الملاحظة بالشهادة المدرسية التي تسلم للمعنيين بالأمر، الموجودين في وضعية “غير نظامية” تجاه المدرسة التي لم يعد لديهم بها أدنى ارتباط قانوني، أو انتماء مؤسسي.
ومعنى ذلك أن تسليم “شهادة مغادرة” يتأسس على “انتساب التلميذ” فعليا إلى المؤسسة التي يطلب منها الوثيقة المذكورة، واستمرار تمدرسه النظامي بأحد المستويات الدراسية بها، والتعبير عن رغبته في الحصول عليها لمتابعة دراسته بمؤسسة أخرى داخل الجماعة الترابية نفسها أو خارجها.
إن “شهادة المغادرة” ـ بهذا المعنى ـ وثيقة إدارية صادرة عن مرفق عمومي، نظم المشرع شكلها ومحتواها، والجهة المستفيدة منها، والجهة المصدرة لها (النيابة الإقليمية سابقا)، بمقتضى المذكرة الوزارية رقم 167 بتاريخ 4 أكتوبر 1978 في موضوع “توحيد المطبوعات والوثائق المدرسية”؛ التي نصت على “تسليم شهادة المغادرة” إلى التلميذ الراغب في مغادرة مؤسسته، مشترطة حضور أبيه أو وليه، بمبرر أنها تعطى مرة واحدة فقط، لا بمبرر الولاية الأبوية، مع بيان من يوقعها، ومسؤوليته عن المعلومات المتضمنة بها، وضرورة التشطيب على التلميذ المغادر من لوائح المؤسسة بعد تسوية وضعيته مع “القيم على الخزانة، والمقتصد”.
ونصت المذكرة الوزارية رقم 202 بتاريخ 20 أكتوبر 1983 في موضوع “الملف المدرسي للطورين الإعدادي والثانوي”، على إدراج “شهادة المغادرة” في الملف المدرسي للتلميذ الملتحق بالثانوي، أو المغادر إلى مؤسسة أخرى، دون تفصيل آخر عن طبيعة شهادة المغادرة، وشروط تسليمها، الأمر لذي يحيل على استمرار العمل بمقتضيات المذكرة السابقة.
تعلل الإدارة التربوية موقفها الرافض لتسليم شهادة المغادرة إلى الأمهات برسالة صادرة عن مديرية الشؤون القانونية والمنازعات “في شأن أحقية الأم في سحب شهادة المغادرة” تحت رقم 191808 بتاريخ فاتح أبريل 2010. وقد استنتج البعض أن الرسالة المذكورة، “تصادر” حق الأم في سحب شهادة المغادرة وتحصر الولاية على المتعلم في الأب دون الأم، معتبرا تسليم الوثيقة ” خطأ مهنيا” يستوجب محاسبة المسؤول عن تسليمها.
وجدير بالذكر أن المراسلة المذكورة لا تكتسي طبيعة تقريرية أو إلزامية، باعتبارها جوابا إداريا عن “طلب إفادة” وجهته الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة الرباط ـ سلا ـ زمور ـ زعير (في التقسيم الجهوي السابق) إلى مديرية الشؤون القانونية. كما أنها لا تصرح بحق الأم في سحب شهادة المغادرة من عدمه، بل تكتفي بالإحالة على ” مدونة الأسرة” الصادرة سنة 2004 والفصول المتعلقة منها بالأسرة (236 ـ 238)، وهو ما يعني الحث على إعمال مقتضيات المواد القانونية التي تسمح للأم بممارسة حقوقها في ” النيابة الشرعية” عن أبنائها القاصرين، وفق الشروط المقررة في هذا الباب.
يصرح مقرر رئيس المجالس الإدارية للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، الناطق الرسمي باسم الحكومة رقم 20 ـ 047 بتاريخ 31 دجنبر 2020 في شأن “المصادقة على النظام الداخلي لمؤسسات التربية والتعليم العمومي، المتضمن لميثاق التلميذة (ة)”؛ ـ في الفصل الخامس منه ـ بحق “أمهات وآباء وأولياء التلميذات والتلاميذ” في الحصول على المعلومات الكافية والوثائق المتعلقة بتمدرس بناتهم وأبنائهم، فضلا عن تمكينهم من الوثائق الخاصة بهم من قبيل الشهادات المدرسية، وشهادة المغادرة، وبيانات النقط”؛ مؤكدا ـ في الفصل السابع منه ـ ضرورة التشطيب على التلميذ(ة) المغادر(ة) ” من لوائح المؤسسة بمجرد توقيع “الأم، أو الأب، أو الولي شهادة المغادرة”.
وغير خاف على أحد من المختصين أن ترتيب “ذوي الحق” في توقيع شهادة المغادرة (تقديم الأم على الأب)، مخالف للترتيب المصرح به في باب “النيابة الشرعية” عن التلاميذ القاصرين، وكذا مقدمة الفصل السابع من “النظام الداخلي” نفسه، المتعلق بتسليم شهادة المغادرة. وغير خاف، أيضا، على المهتمين بعلوم اللغة، أن توظيف أداة العطف (أو) بين ذوي الحق” يفيد التخيير بين اثنين أو أكثر، على العكس من حرف الواو الذي يفيد المشاركة بين المعطوف والمعطوف عليه.
ومن الواضح أيضا، أن “النظام الداخلي” أدرج ـ في هذه الفقرة ـ وما قبلها ـ “الولي” باعتباره مؤهلا ـ قانونا ـ لتوقيع، وتسلم شهادة المغادرة نيابة عن التلميذ. ومعلوم ـ من مدونة الأسرة ـ أن “النيابة الشرعية عن القاصر إما ولاية أو وصاية أو تقديم” (الفصل 229). وتشمل الولاية الأب والأم والقاضي (باستعمال أداة الواو الدالة على المشاركة)، بينما يختص بالوصاية والتقديم “وصي الأب، أو وصي الأم”؛ في الوقت الذي يعين فيه المقدم من لدن القضاء (الفصل: 230).
إن التسليم باستلهام “النظام الداخلي” لروح “مدونة الأسرة”، لا يعني خلوه من بعض المطبات التي تتطلب تدخلا واضحا، وأخص بالذكر منها صلاحية اكتساب “الأمهات المتخلى عنهن” اللائي يعانين صعوبات في إثبات هوية آباء أطفالهن، صفة الولي، و”الأمهات القاصرات” اللائي أذِنَ القاضي لهن بالزواج (الفصل 20 من المدونة)، والمتعلم الراشد المٌكتسِب ـ بقوة القانون ـ لأهليتَي الوجوب، والأداء معا (باستثناء الوضعيات الخاصة التي “تنقص أو تعدم أهليته”)؛ اللتين تمكنانه من “مباشرة حقوقه وتحمل التزاماته” (المادة 210 من مدونة الأسرة)، في الوقت الذي يعامل فيه داخل المؤسسة التعليمية، معاملة القاصر، وتمنح فيه المنظومة التربوية حق التصرف في شؤونه، ووضعياته المختلفة تجاه الإدارة التربوية، إلى “ولي الأمر”.
إن “النظام الداخلي” المشار إليه آنفا يمنح الإدارة التربوية “إمكانا قانونيا” لحلْحلة المشكلات المرتبطة بتسليم شهادة المغادرة، قابلا للتطوير في اتجاه ملاءمته كليا للأسناد الدستورية، والنصوص القانونية المعيارية المؤطرة للمجتمع المغربي، والخيارات المستقبلية الكبرى للنظام التربوي ببلادنا.
وتأسيسا على ما سبق، فإن المدرسة المغربية مدعوة إلى تكريس مبدأي “حياد المرفق العمومي” تجاه عامة المرتفقين، واحترام اختصاصات السلطات القضائية في تدبير المنازعات الأبوية داخل الأسرة، وضمان حقوق الأطفال في متابعة دراساتهم داخل الجماعة الترابية التي يقيم بها الأبوان، أو خارجها حيث تقيم الأم التي غادرت بيت الزوجية، خلال فترة النزاع المعروض على القضاء؛ عبر تمثل مبدأ “المصلحة الفضلى للطفل”، وإعماله، مع ما يواكب ذلك من نقد ممأسس “للأنماط الثقافية” المهيمنة، والأحكام المسبقة، والتقاليد الاجتماعية المحابية للذكور، والتي تحول دون إدماج مختلف المقاربات، والمرجعيات القانونية والتربوية، والحقوقية المعيارية، في تدبير وضعيات المتعلمين التربوية والإدارية، وخاصة ما تعلق منها بمسؤولية الأمهات وولايتهن على أبنائهن القاصرين.
(*) فاعل تربوي